عالمنا العربي، ومجتمعاتنا العربية تعيش اليوم أزمة مصيرية لا خروج منها إلا بأحد اتجاهين: اما بالسير نحو الوراء، أو بالسير نحو مستقبل جديد يتغير فيه كل شيء. بتنا ندرك بعد تجاربنا في الماضي القريب أن التغيير الاجتماعي لا يحصل بين ليلة وضحاها. ذلك ان التغيير الاجتماعي أن يتحقق وينجز علينا أولاً أن نعيد النظر ونصحح أفكارنا، ونفتح حواراً جديداً يمكننا من فهم بعضناً بعضاً، وتكوين رؤية نستطيع تسميتها رؤية كلية نجمع عليها ونسير على ضوئها وعلى هديها حتى لو بقيت خلافات بيننا. عام 1945 عند انهيار المانيا ووقوعها في أزمة مصيرية كالتي نجابهها اليوم، توجه الفيلسوف الألماني كارل ياسبرز إلى شعبه المنكسر بهذه الكلمات: "حاجتنا اليوم أن نحاور بعضنا بعضاً. حاجتنا ليس فقط كيف يعبر كل منا عن رأيه، بل كيف يسمع كل منا رأي الآخر. علينا ان لا نعبر عن آرائنا وحسب، بل علينا ان نفكر وأن نستمع إلى العقل وما يقوله العقل وأن نكون مستعدين لتقبل نظرة جديدة. نحن بحاجة إلى قبول الآخر، ورؤية الأشياء من موقع آخر، والتوصل إلى رؤية أخرى مختلفة. المهم ان نكتشف ما يجمع بين وجهتي نظر مختلفتين، لا أن نركز على اختلافهما، فينتهي الحوار ونعلن استحالة الحوار". نحن كذلك نحتاج اليوم إلى ان نستمع إلى وجهة نظر أخرى، إلى صوت النصف المكبوت والمكبل في حياتنا، إلى صوت المرأة العربية الذي إذا سمح له ان يسمع سيقول "ما لم يسمع مثله من قبل"*1. لم يسمع صوت للمرأة العربية في مصر والهلال الخصيب إلا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. كان صوتاً خافتاً يردد شعارات ومفاهيم خطاب رجالي لا مساهمة فيه للمرأة. ولم يسمع صوت نسائي يعبر عن بداية فكر نسائي مستقل، إلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وقيام الاستقلال. كان ذلك صوت نوال السعداوي وفاطمة المرنيسي وخالدة سعيد، طلائع الفكر النسائي العربي. والآن في نهاية القرن نسمع صوت جيل جديد من المثقفات العربيات يطرح أفكاراً ومقاربات لم نعهدها قبلاً. ما يميز الخطاب النسائي الطالع، كما نقرأ اليوم، هو أنه بدأ يضع الشعارات الرجالية جانباً ويطرح قضايا واستراتيجيات جديدة. إحدى هذه القضايا التي يطرحها هذا الخطاب موضوع المرأة والسلطة. تجابه المرأة السلطة على صعيدين: على صعيد السياسة في العائلة والمجتمع، وعلى صعيد المؤسسة الدينية في كافة نواحي حياتها. في معظم بلدان العالم العربي حيث نظام السلطة السياسية ونظام السلطة الدينية يشكلان بنيانين مستقلين، تمكنت الحركة النسوية العربية من مجابهة المؤسسات الدينية داخل المجتمع المدني بصفتها حركة أو حزب إسلامية لا بصفتها حكماً قائماً كما هو الحال مثلاً في جمهورية إيران الإسلامية. وطالما بقي الصراع داخل المجتمع المدني ولم تكن الدولة طرفاً فيه، كان بإمكان الحركة النسائية العربية التمتع بحرية الدستور ومجابهة التيار الديني المعارض من خلال القانون لا من خلال سلطة الدولة الإسلامية المباشرة. وهذا أمر في غاية الأهمية، فحضور رجال الدين والعلماء في الحركات الإسلامية العربية، لم يكن يوماً حضوراً مهيمناً كحضور رجال الدين الإيرانيين، بل حضوراً جانبياً وإعلامياً، الذي نادراً ما كان قيادياً. من هذا المنظور بقيت القيادات في الحركات الإسلامية العربية قيادات سياسية في الدرجة الأولى، حتى ولو شارك فيها رجال الدين. من هنا الأهمية الاستراتيجية لكون الحركة النسائية في أكثر الدول العربية وقفت وما زالت تقف موضوعياً، بنفس الخندق الذي تقف فيها الأحزاب السياسية والحركات الاصلاحية ازاء النظام القائم وازاء الحركات الإسلامية التي ترمي إلى قمعها أو استيعابها. والعطل الأكبر الذي تكبدته الحركة النسائية في هذا السياق هو نفس العطل الذي عانته الحركات السياسية والاصلاحية والرجالية بسبب تراجعاتها الفكرية في وجه الهجمات الايديولوجية الدينية في العقود الأخيرة، مما أسفر عن تراجع الحركات العلمانية كلها بما فيها النسائية، واتخاذها الموقف الدفاعي المتردد الذي نراها فيه اليوم. إحدى أهم مطالب الخطاب النسوي الطالع يدور حول مجابهة السلطة المتمثلة في النظام الأبوي والايديولوجية الدينية وحول مشاركة المرأة في اتخاذ القرار على صعيدي الحيز العام والحيز الخاص. والمهم في هذا المطلب ان المشاركة لم تعد في اتخاذ القرار، بل في تغيير الإطار الذي يصنع فيه القرار، أي المساواة في عملية انتاج القرار. علمتنا التجارب ان العنف حتى لو نجح لا يكفي لتغيير طبيعة السلطة. وقد رأينا الثورة بعد الإطاحة بالسلطة تعيد بناء السلطة. الاسلوب العملي الآن يجب ان يبدأ بتذويب السلطة الأبوية من الداخل، بتفكيك الخطاب الأبوي السلطوي واسترجاع خطاب الأم المنسي، واستحداث خطاب جديد يشارك الرجل والمرأة بصنعه سوياً ومعاً. لكن في هذا السياق فإن اتخاذ القرار شيء وصنع القرار شيء آخر. هذه إشكالية يجب التوقف عندها وتحديد أبعادها الرئيسية. إن التعبير "صنع القرار" هو تعبير جديد دخل أخيراً إلى اللغة العربية وهو يشير إلى عملية محددة هي عملية صنع أو صناعة القرار، في سياق يفترض المشاركة بين عدد من الأشخاص، يتمتعون باختصاصات معينة، ويتوصلون من خلال الحوار إلى قرارات يجمعون عليها. أما التعبير "اتخاذ القرار" فهو يختلف عن "صنع القرار". اتخاذ القرار لا يجري من خلال المشاركة والنقاش، بل من خلال إرادة فردية يتخذها شخص بمفرده حتى لو استطلع رأي آخر في اتخاذ قراره. ففي حين يرتكز صنع القرار على عملية جماعية تستند إلى النظر والحوار وإعادة النظر والتحقق، يقوم اتخاذ القرار إلى إرادة فردية تقع خارج الحوار وخارج النقد الجماعي. إن الاسلوب والمفاهيم والمفردات التي يطرحها الخطاب النسوي الطالع في معالجته لموضوع صنع القرار، تقدم نموذجاً جديداً في محاولة الكشف عن الواقع الاجتماعي وطرحاً جديداً لموضوع الديموقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية، تتجلى فيه ملامح بدائل جديدة لتغيير الوعي وتحقيق التغيير الاجتماعي في مراحل وخلال خطوات تقوم على التراكم والنمو. من خلال هذه المنهجية يقدم الخطاب النسوي الجديد تصوراً آخر ل"قضية المرأة" مثلاً، في دراسة مهمة في مجلة "مواقف" خريف 1993 - شتاء 1994 تعالج فهمية شرف الدين ثنائية الخطاب الرجالي السائد حول قضية المرأة، ثنائية "خطاب الذات/ المرأة المُستلبة، المُستغلة، والمستضعفة، وخطاب الآخر/ الرجل، أي الخطاب الذكوري الاجتماعي السائد الذي يجد تبريره في النظام الاجتماع المسيطر" ص82. وتدعو إلى تجاوزه بإدخال المرأة في صميم الصراعات القائمة لتحقيق التغيير الاجتماعي "بتحريك الطاقات النسائية العربية وتفعيلها في نطاق حركة المجتمع وبمنحها فرص المساهمة في صنع القرار ليس فقط في المسائل التي تخصها كجنس، بل في مختلف القضايا التي يحتاجها المجتمع..." ص73. ما نحتاج إلى تحديده هنا هو آلية "التفعيل" وطريقة اشراك المرأة في صنع القرار. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو كيف تتمكن المرأة، من "ممارسة دورها في النشاطات المجتمعية والانتاجية... ومن الحصول على القدرة الموضوعية على تكوين وجهة نظر ورأي خاص بها في مختلف المواضيع المطروحة...؟". الواضح ان المدخل الرئيسي لتحقيق هذا التمكن لا يتم إلا إذا ساهمت المرأة في النشاط المباشر في الأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية والمؤسسات العامة التي يحتكرها في مجتمعنا الرجال. هذا التمكن يعني وجود المرأة في مواقع صنع القرار والمساهمة في نشاطات تقع خارج حيز العائلة والبيت، وهو أمر لا يتحقق إلا بفتح الأبواب بوجه المرأة في الاتحادات والجمعيات والندوات والمؤتمرات السياسية والأكاديمية والمهنية. وهذا تالياً يتطلب توسيع الوعي الرجالي وتعميقه حول ضرورة المساهمة النسائية على كافة الأصعدة في ساحات العمل السياسي والاجتماعي. وقد علمتنا التجارب ان اتخاذ القرارات واستحداث القوانين لا يكفي بحد ذاته. فكما أشارت نهى بيومي في تحليل عميق لاشكالية التطبيق العدد نفسه من مجلة "مواقف" بعنوان "المرأة العربية والتحدي المعاصر بين التشريعات والتقاليد"، فإن التغيير لا يحدث بمجرد "التشريع". وتتساءل: "هناك الزامية التعليم في المرحلة الابتدائية، لكن هل النساء يتعلمن؟، ليس هناك... في هذه الأقطار العربية قانون يمنع المرأة أن تكون في موقع القرار، إلا أنها ليست فيه إلا بنسب ضئيلة". ذلك ان الاشكالية تقع أصلاً على صعيد آخر، على صعيد ما تسميه "التصور الجماعي"، أي المضمون النفسي ل"اللاشعور الاجتماعي الذي هو بنية العلاقات المادية... وبقايا التنظيم الاجتماعي السابق التنظيم القبلي، العشائري، المذهبي، في الذهنيات والنفوس والسلوك" ص 184-185. وحل هذه الاشكالية لا يتم بمجرد عملية نقد أو تحاليل خارجية، بل من خلال عملية أخرى تتم في الداخل. "إن تطور الشيء لا يأتي من خارجه، فعملياً الهدم والبناء، أي طرف المعادلة الثقافية. يفترض ان تتم داخل الشيء ذاته، وليس من خلال نقضه وتفكيكه لعملية خارجية". ص186 إن الإشارة هنا إلى اسلوب مقاربة "قضية المرأة" في غاية الأهمية، أي من خلال التمييز بين النص "المكتوب" والواقع "المعيوش": "المكتوب هو خطاب مقفل والمعيوش هو خطاب مفتوح على التغيرات والتحولات... موضع المرأة على أرض الواقع المعيوش أفضل بكثير مما هو في النصوص القانونية. فالمرأة، مثلاً، قادرة على صعيد الواقع العملي على التمتع بسلطة واسعة بوجه تحكم الرجل وسيادته وسوء معاملته". وتقدم على سبيل المثال، قوانين الأحوال الشخصية التي تمثل "الخلافات وليس حيز الحب والتفاهم... وفي الخلاف يعود المكبوت حيث يتمسك الرجل بسلطته وماله وأولاده". لكن في حيز الوئام والتفاهم يستطيع الزوجان تجاوز هذه النصوص القانونية التي شرع لعلاقة صراعية بين الرجل والمرأة، وليس لعلاقة تفاهمية وتبادلية"، مما يؤدي إلى إقامة نظام من العيش المشترك يقوم على التفاهم والتعاون "فتنبثق قيم جديدة تفرض نفسها تدريجياً على المجتمع ص191. إذن وباختصار، فإن التشريع، على أهميته، والنقد النظري على ضرورته، لا يكفيان. ما تريد من بيومي التشديد عليه ليس افكاراً وشعارات مجردة، بل على ان الخروج من محنة الواقع لا يكون إلا بإرادة عملية ذكية وتنظيم يومي مصمم. وتعالج فاديا حطيط الاشكالية ذاتها من زاوية أخرى في دراسة ممتعة بعنوان "الدور السياسي المغفل للبنات في قصص الأطفال" في باحثات، بيروت 1997-1998 تحدد مفهوم "السياسي" كما يرد في الخطاب الرجالي الأبوي من خلال "مستويين للسياسة" أو من خلال سلوكين سياسيين، الأول يتعلق بتدبير أمور الحيز الخاص، والثاني بتدبير أمور الحيز العام. فيستعمل هذا المفهوم لحصر المرأة في حيز المنزل، و"التدبير العائلي"، ولوضع الرجل في الحيز العام الذي "حصر به اسم السياسة اللائق" ص 224-225. ونتوصل إلى تفسير التمييز الذي تفرضه الثقافة الرجالية السائدة بأنه "فصل جنسي لوظيفة السياسة بحيث بات فعل "دبرهم" من أمور النساء، وفعل "تولى أمرهم" من أمور الرجال" ص225. إن الفصل بين ما هو اجتماعي وما هو سياسي، الفصل بين الحيز الخاص والحيز العام، هو ما ترفضه فاديا حطيط وترمي إلى ازالته. أهمية هذا التصور أنه يوفر مخرجاً من كلشيهات المواقف التقليدية وثنائيتها المتحجرة ويؤدي إلى تلمس طريق لتجاوز الفصل الوظائفي إلى حيز موحد يشارك فيه الرجل والمرأة بشكل طبيعي، في التدبير المنزلي وفي التنشئة العائلية، كما في المجالات السياسية والاجتماعية العامة، بحيث لا يعود الفصل بين الجنسين موضوع جدل ونقاش لا نتيجة منه، بل ممارسة يومية تتطور مع الزمن في علاقة طبيعية دون عراك أو مجابهات. وأشير في النهاية إلى نص وضعته فاطمة أحمد إبراهيم، زعيمة الحركة النسائية السودانية، وحددت فيه تحرير المرأة بلغة واضحة وتلخص فيه ما تريده المرأة: "تحرر المرأة لا يعني التخلص من الثوب السوداني وارتداء الأزياء الأوروبية... والتحرر لا يعني تحررنا من قيمنا وتقاليدنا الحسنة ومحاكاة الغرب. تحرر المرأة ومساواتها لا يتم بالتشبيه بالرجال في اللباس والمظهر أو العادات الضارة كشرب الخمر والتدخين". الرجل ليس عدو المرأة، وليس مسؤولاً كجنس عن تخلفها وعدم مساواتها... المسؤول الحقيقي عن ظلم المرأة هو مجموعة الرجال المسيطرين على السلطة والحكم، والذين يرسمون السياسات ويضعون القوانين وينفذونها. "تحرير المرأة يعني تحريرها من الاضطهاد المزدوج داخل البيت وكمواطنة وعاملة على نطاق المجتمع، يعني تحررها في الجهل والتخلف والعطالة والمرض". "قضية المرأة جزء من قضايا المجتمع لا يمكن أن تحل بمعزل عن قضايا المجتمع... لهذا لا بد من اشتراك جماهير النساء في حل مشاكل مجتمعهن...". بهذه الروح يمكن للرجل ان يدخل في الحوار النسائي الطالع لصناعة الخطاب الإنساني الحقيقي، الخطاب النسائي/ الرجالي الجديد. * يحسن تسجيل كلمة الكاتبة الاميركية كاثرين ماكينون بلغتها الاصلية: "I am evoking for women a role that they have yet to make in the name of a voice that, unsilenced, might say something that has never been heard". Catherine Mackinnon, Feminism unmodified, Discources on life and Law Cambridge, Mass: Harvard university press, 1987 p.77 * استاذ في جامعة جورجتاون - واشنطن. والنص ورقة قدمها في مؤتمر "مئة عام من تحرير المرأة" الذي عقد في القاهرة في 23 تشرين الاول اكتوبر الماضي.