عشية العبور التاريخي الى رحاب الألفية الثالثة، وبعد انقضاء قرن على ولادة حقوق المرأة وتحررها تعود بداية التحرك النسائي في العالمين الغربي والعربي الى أواسط القرن التاسع عشر، إلا أن ثماره لم تنضج إلا في مطالع القرن العشرين، ما تزال هذه القضية مثار أخذ ورد وجدال وسجال بين الليبراليين المعاصرين والنيوتقليديين على الصعيدين الوطني والعالمي، فيما تتابع المرأة وأنصارها من جهة ثانية معاركهم على محاور الديموقراطية والتنمية وحقوق الانسان. ولئن شارفت المرأة الغربية على بلوغ القسط الأوفر من حقوقها السياسية والمدنية والاقتصادية والدستورية ووصولها الى مكانة تحسد عليها من بنات جنسها، فإنها مع ذلك لم تنثن عن المضي قدماً في نضالها المستمر الى أن تصبح، على ما يبدو، في موقع الند للند من الرجل وعلى قدم المساواة المطلقة، علماً أن شأنها، تاريخياً، كان كشأن المرأة العربية، مقيدة في شبه اقامة جبرية، مستهدفة بشرفها وكرامتها، مكبلة بالقيود السياسية والدينية والذكورية، محرومة من التعليم والثقافة، محظوراً عليها القيام بأي نشاط اجتماعي أو اقتصادي، الى أن قدر لها أن تخرج من قمقم الظلم الى حيز النور والحياة بمؤازرة فعالة من قوى التقدم والتغيير والاصلاح. يشار في هذا السياق الى أن الغرب الأوروبي الذي كان مشبعاً بروح الثورة الفرنسية وقيمها ومثلها كانت أجواؤه أشد انفتاحاً وأكثر ملاءمة لانعتاق المرأة وتحررها وشيوعهما تدريجياً في العديد من الأقطار خارج القارة الأوروبية وداخلها. ففي الولاياتالمتحدة الأميركية ولدت أول حركة لحقوق المرأة عام 1848 بزعامة اليزابيت كاري سانتون التي استندت حينها الى اعلان الاستقلال الأميركي الصادر عام 1776، وطالبت بتعديله واضافة كلمة النساء بعد الرجال في المقطع الذي يقول: "ان جميع الرجال قد خلقوا متساويين...". ومنذ ذلك الحين لم ينقطع نضال المرأة الدؤوب رغم ما كانت تلقاه من معارضة قوية من قبل رجال الدين والساسة المحافظين، الى أن انجلى العام 1920 عن حصول المرأة على حق الانتخاب. ومن الطريف ان لا يتاح للمرأة الأميركية حضور الاحتفال بهذه المناسبة في البيت الأبيض آنذاك. وتوالت بعد هذا التاريخ انتصارات المرأة تباعاً ودخلت المعترك السياسي من أوسع أبوابه. ففي العام 1923 طرح أمام الكونغرس قانون حقوق المساواة بين الرجل والمرأة، وفي العام 1936 بدأت معركة الحقوق المدنية ومن أهمها حق منع الحمل الذي لم يسمح به إلا في عام 1965 وللمتزوجات فقط بعد أن رفضت المحكمة الاتحادية إقراره طيلة تلك الفترة. وفي عام 1964 أقر الرئيس ليندون جونسون قانون الحقوق المدنية، اثر تصاعد حركات الزنوج، وقضى بمنع التمييز في العمل والتوظيف كما في العرق والدين والجنس. كما أنشئت في العام 1966 أول هيئة وطنية للنساء الأميركيات وهي الى اليوم أعلى هيئة نسائية تشكل صمام الأمان لحقوق المرأة في الولاياتالمتحدة. وتباعاً تزايدت أعداد النساء في الكونغرس والبلديات والحكومات الفيديرالية والمحلية والقوات المسلحة والادارات العامة فوصلت أول قاضية الى المحكمة العليا ساندرال أوكومور بقرار من الرئيس رونالد ريغان وتم تعيين أول وزيرة للخارجية الأميركية، مادلين أولبرايت، عام 1996 في عهد الرئيس الحالي بيل كلينتون. أما المرأة الروسية فقد كانت هي الأسبق بين نظيراتها الأوروبيات والأميركيات من حيث منحها الحق بالمشاركة السياسية والاشتراك في حق الثورة، على عهد "كتلة الانقاذ الروسية" عام 1793. إلا أن تلك الخطوة لم يقيض لها النجاح فاستمرت المرأة بنضالاتها المطلبية التي كانت تقوم بها على نطاق ضيق في العمل ومن خلال تبادل الأفكار في أوساط المثقفين. وفي العام 1895 شهدت روسيا نشوء أول جمعية نسائية معترف بها رسمياً، وصدر في العام 1906 أول مانيفست نسائي يحرض على دخول المرأة المعترك السياسي. إلا أن ثورة اكتوبر عام 1917 منحت في خطوة تاريخية ثورية حق المواطنة كاملاً والمساواة المطلقة بين الرجال والنساء صدر هذا البيان في 12 كانون الأول عام 1917. ومن الدلالات العميقة التي ترتبت على اعلان اكتوبر أن الحركة النسائية قد سجلت في العهد الشيوعي السابق أعلى معدل عالمي في قطاعات العمل والانتاج. 84$ في الصحة، 74$ في التعليم، 68$ في الاتصالات، 84$ في التجارة، 76$ في البلديات، 97$ في الصناعات الخفيفة، 98$ في النسيج والخياطة والحياكة، و34$ في الصناعات الكيميائية. أما دول الاتحاد الأوروبي فقد أشارت وثيقة روما الصادرة في 8 أيار 1996 عن المؤتمر الذي عقدته النساء الوزيرات في الاتحاد، على هامش القمة الأوروبية آنذاك الى أبرز مطالب المرأة الأوروبية ومنها: على الرغم من حصول المرأة الأوروبية على حقوقها القانونية والسياسية الا ان موقعها لا يزال يشكو من خلل ديموقراطي فادح لجهة عدم المساواة بين الجنسين في كثير من الحقول الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية من أبرزها الحضور الهزيل على مستوى اتخاذ القرار السياسي في قمة الهرم الحكومي والذي لم يزل غير متكافئ مع حضور الرجل ومكانته. ان معدل المشاركة النسائية في الدول الأعضاء في الاتحاد لا يتجاوز 15$ في البرلمانات الوطنية و6$ على مستوى الحكومات أي أن 28$ من النساء في البرلمان الأوروبي مقابل 25$ في اللجنة الأوروبية العليا. المطالبة بالغاء الأفضلية للجنس الآخر لأي سبب كان في ما يخص المشاركة في القرارات الوطنية والدولية، ما يضمن تحسين الأداء السياسي والمستوى المعيشي واستقرار الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية. الاعتراف بالمساواة الكاملة بين الرجل والمرأة، وهو مطلب له الأولوية على ما عداه، لضمان تمثيل أرقى على مستوى الهيئات المنتخبة من بلديات ومجالس نيابية وفي السلطات الاستشارية. وخلصت الوثيقة الى القول بأن "المساواة الحقيقية لا تنتظم الا بإقرار حق المواطنة كاملاً دون أي استثناء بين الجنسين". وذكرت الوثيقة للمسؤولين بأن المرأة باتت رمزاً من رموز العولمة ولا تقل قوة في مواجهة الاستحقاقات والتحديات التي سيقبل عليها العالم في القرن الواحد والعشرين. وبالعودة الى المرأة العربية، يبقى التساؤل قائماً حول راهنيتها ومستقبلها واشكالية عبورها من قرن الى قرن وامكانية ارتقائها الى مستوى نظيراتها الغربيات اللواتي بتن قاب قوسين أو أدنى من اعلان دولة المرأة العتيدة. أمام ذلك يقف العديد من المثقفين العرب وجلهم من أنصارها ودعاة نهوضها، يستذكرون يوم أرخ قاسم أمين لولادة تحررها في كتابيه تحرير المرأة عام 1899 والمرأة الجديدة عام 1900 ويعقدون لهذه المناسبة الندوات والمؤتمرات كان آخرها مؤترم القاهرة الذي نظمه المجلس الأعلى للثقافة في اكتوبر الماضي تحت عنوان: مئة عام على تحرير المرأة العربية فضلاً عما تضج به أدبياتهم وحملات حقوق الانسان والجمعيات النسائية من مواقف داعية لنصرتها ورفع الظلم والحيف عنها. وما يمكن ملاحظته من كل ذلك ان المرأة العربية قد قطعت شوطاً بعيداً في مضمار التقدم الاجتماعي والرقي السياسي والفكري وانتزاع الكثير من حقوقها السياسية والمدنية والمشاركة الفعالة في شتى ميادين العمل والانتاج واجتياح بعض المواقع التي كانت لفترة خلت من المحرمات. فهي الآن، وان على مستويات متفاوتة بين هذا القطر أو ذاك، قد وصلت الى الندوة النيابية والمجالس البلدية واحتلت بعض المواقع الوزارية، وتولت أعلى المناصب الادارية وتوغلت بعيداً في قطاعات بات معظمها حكراً عليها كالتعليم والصحة وأعمال السكريتاريا وغيرها. إلا أن ذلك كله على أهمية مدلولاته التحررية، ما زال أمام المرأة العربية الكثير الكثير من المعوقات لإكمال ما أنجزته خلال قرن من الزمن ومن أبرزها: حل اشكالية العلاقة بين المرأة والسلطات السياسية والدينية والأبوية الذكورية اذ أن تحررها الحقيقي يبقى رهناً بخروجها من قيود هذا الثالوث ونفوذه وتأثيره لتنعم بتأصيل الديموقراطية فعلاً وممارسة وتلعب دورها كاملاً في عملية النهوض والتنمية وتعزيز السلم الأهلي. التفاوت الكبير بين القوانين الوضعية وقوانين الأحوال الشخصية التي تجتزئ حقها بالمواطنة سواء لجهة حرمانها من اعطاء الجنسية لابنائها إذا كانت متزوجة من أجنبي أو في حالات الطلاق والإرث أو بالخضوع لسلطة الزوج وارادته كمنعها من العمل أو السفر أو اقامة علاقات ود وصداقة خارج نطاق البيت والعائلة. تكشف تقارير حقوق الانسان الدولية والعربية عن وقوع العديد من الحالات الشاذة التي تتعرض اليها المرأة كالضرب والاغتصاب ومنح الرجل اسباباً تخفيفية جراء ما يرتكبه من قتل متعمد لزوجته أو أخته أو احدى قريباته على اعتبار أن هذه الجرائم تستند الى مشروعية الدفاع عن العرض والشرف. قصور الأحزاب العربية في إعداد الكوادر النسائية وتأهيلهن للمشاركة في الحياة السياسية والمدنية وترشيحهن للمجالس النيابية والبلدية والنقابية خلافاً للأحزاب في الديموقراطيات الغربية التي تخصص نسبة للنساء كوتا في لوائحها الانتخابية فرنسا مثلا 30$. عجز المرأة عن تشكيل لوبي نسائي عربي فاعل ومؤثر يضغط باتجاه إرغام الحكومات من أجل تخصيص نسبة معينة في المجالس التشريعية اذ أنه من المعيب حقاً أن لا يصل الى الندوة النيابية في بعض الأقطار العربية سوى قلة من النساء لا يتجاوزن عدد اصابع اليد الواحدة في حين يختفي وجودهن تماماً في بعضها الآخر، علماً أن العديد من النساء في البلدان المتقدمة والنامية قد بلغن أعلى مراكز المسؤولية في الحكم كالهند وباكستان وتركيا واسرائيل وبريطانيا وكندا وسواها. * كاتب لبناني مقيم في كندا.