تتداعى الأخبار عن السودان في هذه الأيام، عقب إعلان الرئيس عمر البشير عن حل البرلمان وإعلان حال الطوارئ. البعض يظن ماحدث إنقلاباً، وآخرون يزعمون أنه قرار عادي لمواجهة أخطار خارجية محتملة، وآخرون يرجمون بالغيب في ما حدث او توقع ما سيحدث. ومهما يكن الأمر، فلا شك أن وراء الأكمة صراعاً ضارياً، حاولت الأطراف المشاركة في السلطة إخفاءه الا أن أسفر عن وجهه بهذه الصورة المباغتة. والمتتبع لمسيرة الحركة السياسية السودانية قد يجد كثيراً من أوجه الشبه بين ما يجري اليوم، وما جرى قبل ثلاثين عاماً حين أعتلى النميري صهوة الحكم بواسطة تنظيم الضباط الأحرار اليساري النزعة، وبدعم مباشر من الحزب الشيوعي السوداني في 25 أيار مايو 1969. احتاج النميري الى سنتين فقط كي يتخلص من أرباب نعمته الذين أوصلوه الى سدة الحكم، عقب محاولتهم الإطاحة بحكمه في تموز يوليو 1971 مبتعداً بعد ذلك عن النهج الماركسي المعلن في البيان الأول للإنقلاب، ومتخذاً نموذجاً اشتراكياً على النسق المصري آنذاك. ولا شك في أن زعماء الجبهة القومية الاسلامية، فطنوا الى تجربة الحزب الشيوعي وحاولوا ما أمكن سد كل الثغرات التي يمكن أن تجهض النظام الإسلامي الذي أقاموه. وإذا ما أمعنا في المقارنة بين ما حدث ابان عهد النميري وما يحدث الآن، نجد أن ما حدث الآن هو محاولة انقلابية من جانب الترابي وأعوانه، فأحبط الرئيس عمر البشير المحاولة الانقلابية، ولا ينبغي أن يُفهم عكس ذلك. ومحاولة الترابي الإنقلابية، على خلاف محاولة الحزب الشيوعي الإطاحة بنميري، كانت أكثر مكراً ودهاء، لا بالحديد والنار ولكن بتجريد الرئيس البشير من سلطاته الرئاسية شيئاً فشيئاً. فالبشير استطاع تفادي الطلقة الاخيرة في سلطاته الرئاسية … ان العواقب المترتبة على هذا الصراع، قد لا تظهر آثارها إلا على المدى البعيد، في حال الوصول الى وفاق وهدنة بين المتصارعين. فقد يجد البشير نفسه محاطاً بضغوط إقليمية وعالمية، تجبره، لا على تخفيف حدة الخطاب السياسيالذي خُفف أصلاً فحسب بل على تغييره، والسير قدماً في الوفاق الوطني، وإحلال التعددية كما يراها الآخرون لا كما يراها زعماء "الجبهة الإسلامية القومية" ويصبح المجال متاحاً لحكومة الخرطوم، للمطالبة بمحو اسم السودان من قائمة الإرهاب، وفك الحظر الإقتصادي، وإنهاء العزلة .... شاء القدر للسودان أن يكون جُل مثقفيه وصفوة المتعلمين فيه من الثوار، وعلى رغم أن الحزبين الكبيرين انبثقا من "مؤتمر الخريجين" الذي قاد النضال ضد الإستعمار، فإن المثقفين والخريجين السودانيين تخلوا عنهما عقب الإستقلال، وفضلوا أن يكونوا إما ثواراً في الحركة الإشتراكية في الخمسينيات والستينيات، أو ثواراً في حركة الصحوة الإسلامية لاحقاً. وتشهد على صحة ذلك نتائج إنتخابات الخريجين، وهي 15 دائرة إنتخابية مخصصة فقط لخريجي الجامعات والمعاهد العليا، اكتسحها الشيوعيون في منتصف الستينيات خلال فترة "الديمقراطية الثانية" فازوا في 11 دائرة. وفازت الجبهة القومية الإسلامية بكل المقاعد 15 مقعداً ابان فترة "الديمقراطية الثالثة" في 1987. وهنا نجد أنفسنا أمام حزبين صغيرين كلٌ منهما لا يمثل أكثر من 5 في المئة من مجموع سكان السودان، لكنهما يسيطران بلا منازع على حركة الطلاب وعلى الاتحادات والنقابات المهنية أضف الى ذلك تغلغلهما في أوساط المؤسسة العسكرية، وما يتمتعان به من قدرة تنظيمية هائلة. وفي المقابل نجد الحزبين الكبيرين الأمة والوطني الإتحادي لا حظ لهما في أوساط المثقفين، والطليعة المتعلمة من الشعب السوداني، دورهما ينحصر في انتظار الانتخابات العامة للوصول الى دفة الحكم إعتماداً على الولاء الطائفي وعلى جماهير الريف السوداني، لتأتي بعد ذلك ديمقراطية هشة تسودها الفوضى، بلا رؤية أو برنامج واضح. وحين يضيق الحال بالناس، يوعز أحد الأحزاب الصغيرة الى مناصريه في القوات المسلحة فيطيحون بالديموقراطية وهكذا تدور البلاد في حلقة مفرغة طرفاها العسكر والديمقراطية. ومن هنا تتضح الحقيقة، وهي أن مثقفي الأمة هم صناع الانقلابات العسكرية فيها. ومن هنا يمكن القول، أن ما يدور من صراعٍ داخلي، أو ما يدور من صراعٍ بين الحكومة والمعارضة هو من قبيل المعارك في غير معترك. فاليساريون تخندقوا في مدن الدول الغربية والتي ناصبوها العداء ردحاً من الزمن، وأسقطوا كل شعارات الأمس، وحكومة الخرطوم نسيت أو تناست إقامة شرع الله وفقدت أنيابها ومخالبها تحت وطأة العولمة. وهنا يصبح لا خيار أمام الطليعة سوى العودة الى أحضان الحزبين الكبيرين، ونسيان الدروب التي تاهوا فيها زماناً، ويضمن الشعب السوداني فسحةً من الديمقراطية، لأجل غير مسمى حتى يظهر حزب صغير آخر له مخالب. مأمون الرشيد نايل كاتب سوداني مقيم في النمسا