على مدى يومي الاربعاء والخميس الماضيين، عقدت "مؤسسة الفرقان التراث الاسلامي" مؤتمرها الخامس في لندن حول "علوم الارض في المخطوطات الاسلامية" افتتحه رئيس المؤسسة احمد زكي يماني وشارك فيه حشد من كبار الخبراء والباحثين العرب والمسلمين والأجانب المتخصصين بتحقيق ودراسة المخطوطات الاسلامية المتنوعة، خصوصاً في علوم الجغرافيا والفلك والكيمياء والمعادن والنبات وما الى ذلك. خُصص اليوم الاول لمحور "الجغرافيا في التراث الاسلامي"، وأولى المحاضرات كانت ورقة عمل الدكتور رشدي راشد مدير الابحاث بالمركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، وهي في عنوان "علوم الارض الرياضية". ذلك ان التوسع الجغرافي للعالم الاسلامي، وتأسيس العديد من المدن، الى جانب ظهور فهم جديد للعلاقة بين العلم من ناحية والعمل من ناحية اخرى… كل ذلك تسبب في ظهور انواع جديدة من الدراسات الرياضية، بعضها معني بالذات بعلوم الأرض. وتناول بحث الدكتور راشد هذه الدراسات الرياضية، وكيف تعامل معها الببليوغرافيون المتخصصون في المخطوطات العربية، وما هي المرحلة التي وصل اليها البحث العلمي في هذا المجال؟ ثم ألقى الدكتور عبدالله يوسف غنيم من الكويت محاضرة عن "نظرات في تحقيق النصوص الجغرافية العربية". فعلى رغم ما نشر من كتب الجغرافيا العربية قديماً وحديثاً. فهناك العديد من الملاحظات التي ينبغي ان تؤخذ في الاعتبار عند التقويم السليم لذلك التراث الغزير الذي اسهم اسهاماً كبيراً في تطوير الفكر الجغرافي، وفي تقديم مناهج وأفكار جديدة ما زالت محل تقدير الأوساط العلمية. وبحث الدكتور الغنيم محاولة من مختص عايش ذلك التراث نحو ثلاثين عاماً قضاها في التحقيق والدراسة والبحث، للتعرف على أوجه القصور التي يعانيها المشتغل بذلك التراث، وبيان اسلوب التعامل مع النصوص الجغرافية والخرائط والمصطلحات، بما يحقق الفائدة المأمولة من تحقيق تلك النصوص ونشرها. في الجلسة الثانية من اليوم الاول تحدث الدكتور ابراهيم شبوح من تونس عن "انظار في بعض مشاكل النص الجغرافي التراثي". فالنصوص المحققة المنشورة على اهميتها الجغرافية والاتنوغرافية والاماكنية والأدبية اشاعت اخطاء التحريف الكامنة في نسخها وكررت نفسها الا عند المرتادين، وأصبحت بعد تطاول العهد على نشرها بحاجة الى اعادة نظر على ضوء ادوات البحث الحديث. ويقول شبوح: "ولنا ان نتساءل: هل توجد في البلاد العربية جهود بحثية لتحرير المواقع والاسماء وتحديدها والإفادة من كل ما كُتب عنها بالقدر الذي يسمح بوضع أطلس تاريخي شامل دقيق لمصلحة هذه الجغرافيا وما تكشف عنه من موارد واراها النسيان وتمييز النصوص الأصلية من تلك المعادة مما يسمح ايضاً بتقديم نشرات جديدة تخطو متقدمة بالنص، معوضة ما توقف عليه منذ نحو قرن؟". ثم تناول الدكتور ريجيس موريلون فرنسا موضوع "الجغرافيا والفلك". فقد نشر بطليموس، العالم الفلكي اليوناني من القرن الثاني الميلادي، اعمالاً كثيرة في الفلك وفي الجغرافيا. واخذ العرب هذه الاعمال منذ القرن التاسع، الا انهم ادخلوا بعض دراساته الخاصة بعلوم الارض في اعمالهم المعنية بالفلك. وفي بغداد، في منصتف القرن الثامن، وضع الفرغاني اول عمل متكامل في هذا العلم، وتبع معظم كبار الفلكيين نموذجه في تكوين مؤلفاته المهمة. وقد عالج البحث بعضاً من هذه المؤلفات. الجلسة الثالثة والاخيرة من اليوم الاول تحدث فيها الدكتور يان يوست ويتكام هولندا عن "مخطوطات الجغرافيا المحققة والمنشودة"، مركزاً على المستشرق الهولندي الكبير دي خوي الذي حقق في منتصف القرن الماضي مجموعة مهمة من ابرز المخطوطات الجغرافية العربية ونشرها في طبعات ممتازة. اما مداخلة الدكتور ايمن فؤاد سيد من مصر فكانت عن "مخطوطات الجغرافيا غير المنشورة: حصر وتقييم". اذ ان النصوص الجغرافية العربية تمثل مصدراً أساسياً لدراسة الحضارة العربية الاسلامية أدباً وتاريخاً وادارة، اضافة الى مادتها الجغرافية البحتة. وقد اهتم المستشرقون منذ مطلع القرن التاسع عشر بنشر المصادر الرئيسية للجغرافيا الإقليمية - الرياضية - الكلاسيكية - اللغوية - الرحلات. ومع ذلك ما تزال هناك نصوص جغرافية لم تُنشر بعد لابن زولاق والمُهَبلَّي وابن وصيف شاه والأسواني والبكري واسحاق بن الحسين والعَبْدري والعذري والقضاعي وابن الجَيعان والوطواط الكتبي وابن فضل الله العُمَري وابن إياس وغيرهم. والنصوص الجغرافية التي تم نشرها في مطلع هذا القرن وفي القرن الماضي لم يُتَّبع في نشرها المنهج العلمي لنشر النصوص وجاءت خالية من أية تعليقات او مقابلات مع مصادر جغرافية او تاريخية أخرى، كما ظهرت لها في الفترة الاخيرة مخطوطات جديدة تجعل اعادة نشرها أمراً ضرورياً. وأخيراً تناول الدكتور اكمل الدين إحسان اوغلي تركيا موضوع "ملاحظات على مخطوطات الجغرافيا في التراث العلمي العثماني". إذ يجمع التراث الجغرافي العثماني بشكل فريد بين التراث المستمر للجغرافيا الاسلامية، وفي الوقت نفسه بدايات تراث جديد من الجغرافيا الأوروبية. ويتكون هذا التراث الجغرافي العثماني من عدد كبير من المخطوطات يوجد الآن في مكتبات كبيرة وصغيرة في العالم كله، ويحتوي على مشاركات مهمة للجغرافيين العثمانيين في كل من التراث الاسلامي والأوروبي. ويحلل البحث تلك المشاركات، كما يقدم تقريراً حول دراسة اجريت ضمن سلسلة "التراث العلمي العثماني". اليوم الثاني بدأ بجلسة رابعة تناولت موضوع الكيمياء، وتحدث الدكتور سيد نعمان الحق الولاياتالمتحدة الاميركية في "تحقيق اعمال جابر بن حيان". فالباحث في مخطوطات الكيمياء، والميتافيزيقا والكتابات السياسية/ الدينية التي يعزوها العرف الى جابر بن حيّان يواجه تحديات ومشكلات متفردة في مجال دراسة النصوص العربية. فمن التحديات مثلاً المجال الواسع جداً لهذه الأعمال: فهي تجول من العمليات الكيميائية والتكوين الثاني الى علم الكون والميتافيزيقا، ومن المنهجية والتجارب العلمية الى التنجيم والسحر، ومن الفلسفة والرياضة والمنطق الى العاقبة والسياسة وميزان الحروف. وهناك أيضاً مشكلة ضخمة وهي فهم المصطلحات التقنية في هذه الكتابات، وهي مشكلة يزيدها تعقيداً عدم اتفاق الباحثين والمختصين حول تواريخ او أصالة هذه المجموعة الجابرية من المخطوطات. ونجد ايضاً مشكلة غريبة وتعتبر عملياً من دون حل يضعها امامنا ما قام به ابن حيان من تطبيق لمبدئه الذي اطلق عليه اسم "تبديل العلم"، أي ان يُنثر العلم في انحاء جسم كبير من الأعمال وكأنه لغز. الجلسة الخامسة كانت عن "علم المعادن وموضوعات أخرى"، وتحدث فيها الدكتور إيرج أفشار ايران عن "جواهر نامة النظامي: أقدم نص فارسي عن الاحجار القيمة". "جواهر نامة النظامي" اقدم نص بالفارسية حول الأحجار الكريمة وعلم المعادن. فقد كتب العام 592 ه، ولم تنشر مخطوطته بعد. وهذا النص يعتبر الثاني بعد "الجواهر في الجواهر" لابن ريحان البيروني توفي 440ه ويشتمل على اوصاف الأحجار الكريمة والمعادن وال"ممزوجات" بما في ذلك الأشياء المطلية بالمينا. وقد سجل المؤلف الكثير من خبراته وتجاربه الشخصية في هذا الكتاب، الى جانب ما سمعه من صناع المجوهرات والمتاجرين فيها، وأصالة المعلومات هذه تزيد من قيمة الكتاب. اما ورقة الدكتور احسان عباس الاردن فقد ألقاها عنه نيابة عنه الدكتور ابراهيم شبوح، وهي عن "تجربة صغيرة في نص جغرافي". ذلك ان الدكتور عباس يسرد تجربته الشخصية في تحقيق نص جغرافي والصعوبات والعوائق التي واجهها. الجلسة السادسة والاخيرة كانت عن علم النبات. المتحدث الاول الدكترو ماورو زونتا ايطاليا، وعنوان ورقته "مخطوطة ابن رشد المفقودة في علم النبات". يعتبر "كتاب النبات" لابن رشد من قلائل الأعمال النظرية في علم النبات التي كتبت بالعربية في العصور الوسطى. والدليل الوحيد على وجود هذا المخطوط ان ابن رشد نفسه استشهد به في رسالته الطبية "الكليات". ويفهم من هذا الاستشهاد ان "كتاب النبات" عالج، ضمن ما عالج، موضوعات حول رائحة النباتات ومذاقها وألوانها. وفي موسوعة شيم طوب بن فيليقيرا الفلسفية العلمية المكتوبة باللغة العبرية نجد فصلين مخصصين لموضوعات علم النبات ومُرجَّعين الى ابن رشد. وأحد الفصلين يُعنى بالذات بمسألة المذاق. ثم تناول الدكتور ابراهيم بن فراد من تونس موضوع "قراءة مصطلحات علم النبات وتحقيقها". وهو يعالج ثلاثة محاور: 1 - إشكالات قراءة المصطلح النباتي في التراث العلمي العربي الاسلامي. وينظر في هذا المحور في مسألتين هما: أ قراءة العلماء القدماء للمصطلح النباتي في تناقلهم اياه في مؤلفاتهم. فان التحريف والتصحيف كانا كبيرين في ضبطهم له ورسمه. ب قراءة المترجمين له في المؤلفات العربية المنقولة الى اللغات الأوروبية. 2 - اشكالات تحقيق المصطلح النباتي في النصوص النباتية العربية المنشورة. 3 - اشكالات تحقيق المصطلح النباتي، اي تحديد ماهيته، في المؤلفات العلمية العربية الحديثة التي تناولت التراث النباتي العربي بالدرس والتحليل. وكانت كلمة الختام للدكتور يوسف ايبش الذي تحدث عن "الحاجة الى إحياء علوم الأرض"، قائلاً: "لعلنا، ونحن نقف على عتبة القرن الواحد والعشرين، ننتبه الى الهموم التي يعبر عنها الكثير من علماء المسلمين حول الأمية الجغرافية. وربما يعود شعورنا بالحاجة الملحة لمعالجة هذا الموضوع الى الشك في امكانية ان تدخل بلاد المسلمين في منافسة فعالة في عالم صارت تحكمه عولمة الاقتصادية والتطورات العسكرية مع ما تعاني منه تلك البلاد من جهل شديد بأمور العالم الجغرافية. هناك الآن وعي ينمو بأن احوالنا مرتبطة لا محالة بالأسواق العالمية، وبتطورات السياسة الدولية، وقضايا البيئة، وظهور التقنيات الحديثة الخاصة بالكومبيوتر وبوسائل الاتصال". وأضاف: "ان الثورة العلمية التي اعادت تشكيل "علوم الأرض" في النصف الثاني من القرن العشرين كانت من السرعة ومن القوة والشمول بحيث اصبحت نموذجاً لتغير المقاييس العلمية. والنتيجة الطبيعية لكل هذا هو زيادة الاحساس بضرورة احياء علوم الأرض حتى تشغل تلك العلوم مكانها الطبيعي والضروري في النظم التربوية في العالم الاسلامي".