عندما قرأت تصريح رئيس مجلس الأمة النائب جاسم الخرافي بتاريخ 1/12/1999، بعد يوم واحد من التصويت على اسقاط قانون يعيد للمرأة الحقوق السياسية في الكويت، وقد قال فيه: "ما نرجوه من المتحمسات للقانون ألا يصبن بالاحباط"، بدأت أشكك في معاني الكلمات وبالذات بعلاقتها باقتناعات من يتفوه بها. فالتصريح كان ليبدو متناغماً لو انه صدر عن نائب ساهم بجهوده لجمع التأييد لقانون الحقوق السياسية للمرأة، والعبارة كانت لتكون متوقعة منه لشد أزر النساء المتحمسات للحصول على حقوقهن. إلا أن صدوره عن الرئيس الذي ساهم في إحباط القانون، وقام بالتصويت ضد منح المرأة حقوقها السياسية، فإن ذلك يعكس حالاً من التناقض بين موقفه السياسي المعلن، وبين اقتناعاته الفكرية والمعنوية. والمستمع أو القارئ الذي يكتشف هذا التناقض هو ذلك الذي يتحسس صدق مشاعر الرئيس الذي طلب من المتحمسات ألا يصبن بالاحباط. وهو نفسه الذي يرى أن الرئيس قد يغير موقفه بالتصويت مستقبلاً لمصلحة قانون يعيد للمرأة حقوقها السياسية. وإذا بدا أن هناك تناقضاً بين تصريح الرئيس وموقفه السياسي، فإنه جزء بسيط من التناقضات التي شهدها المجتمع الكويتي في معالجة قضية الحقوق السياسية للمرأة، والتي كانت قد عصفت بهذا المجتمع منذ أن تكرم امير البلاد بإصدار المرسوم الذي هدف إلى تصحيح الخطأ الدستوري. فقد أظهرت هذه القضية تناقضات سياسية واجتماعية، وخلافات حادة في طرح الرؤى. وبعدما هدأت العاصفة قد نكون أكثر استعداداً لمراجعة المواقف والبحث عن أسبابها. ومن الأمور التي أجد أنها جديرة بالبحث هي موقف المرأة من قضيتها ومرجعية الأطراف في دعم رؤاها. - أولاً، موقف المرأة الكويتية من قضية المرأة لوحظ أنه لم تقم أي من المراكز الاعلامية أو دور الصحافة بطرح استبيان لاستدعاء آراء وتوجهات النساء من قضية المرأة. لذلك غابت، إلى حد كبير، عن قضية المرأة آراء شريحة واسعة من النساء يمكن وصف موقفها بأنه كان غير متحمس للقضية، واقتصر نشاط هذه الشريحة الواسعة على المراقبة من دون التفاعل مع القضية لا برفض ولا بتقديم الدعم. ويرجع هذا الموقف السلبي إلى الآتي: أ- غياب العامل الاقتصادي إن نقص الدافعية للشريحة العظمى من النساء يرجع إلى عدم رؤية هذه الشريحة الواسعة من النساء فائدة مادية ملموسة نتيجة حصول المرأة على حقوقها السياسية. فالمرأة في الكويت تشارك الرجل في العمل وعددهن في تزايد، إذ ارتفع العدد الاجمالي للنساء الكويتيات العاملات خلال الخمس سنوات الماضية بمعدل 26 في المئة، بينما كانت الزيادة في معدل الرجل للفترة نفسها حوالى 10 في المئة. في الوقت نفسه ارتفعت نسبة النساء العاملات في المجتمع الكويتي من اجمالي قوى العمل الوطنية من 30 في المئة عام 1993 إلى 33 في المئة عام 1999، وبالتالي فإن نسبة الرجال انخفضت بفارق هاتين النسبتين الأخيرتين. إضافة إلى ذلك، فإن قانون الخدمة المدنية لا يفرق بين الرجل والمرأة في التوظيف والترقية، ولذلك فإنه يمكن التصريح بأن ممارسة المرأة في الكويت العمل بأنواعه وبأجور متساوية وفقاً للقانون، أفقدها الدافع للعمل بشكل واضح من أجل نيل حقوقها السياسية. ولتوضيح ذلك، علينا ان نتخيل محصلة الموقف النسائي في الكويت عندما يكون هناك تمييز في التوظيف والمكافأة، فهو يتطلع الى ان رفع هذه المظلمة مرتبط بحصول المرأة على حقوقها السياسية كاملة. في حال كهذه سنرى عشرات الألوف من النساء حول مجلس الأمة. وقد يكون الواقع الاجتماعي والسياسي في الكويت حالاً فريدة، إذ أنه عند مراجعة تاريخ الحركات النسائية في العالم، يلاحظ ان أنشطتها من أجل نيل الحقوق السياسية كانت مرتبطة دائماً بمطالبتها بإلغاء التمييز ضدها في العمل والأجور. الوضع مختلف في الكويت حيث تشغل المرأة وظائف بدرجات متعددة. ب - نخبوية الحركة النسائية قلنا أن الصحافة أو المراكز الإعلامية الأخرى لم تستبين آراء النساء في الكويت حول رأيها في نيل المرأة حقوقها السياسية، وإن حصل هذا النوع من الاستبيان لآراء النساء، فعلى الحركة النسائية ان تستفيد منه وتعتمد عليه لتحديد خطتها لمعالجة ما فيه من توقعات محبطة أو لتعزيز أي اتجاه يعطي الدعم الكافي لقضية الحقوق السياسية للمرأة من المرأة نفسها. وبشكل عام فقد لوحظ أن مشاركة المرأة ونشاطها لنيل التأييد الشعبي للمرسوم الأميري وللقانون الذي فشل في الحصول على غالبية نيابية كان متواضعاً ومحدداً على طبقة نسائية تميزت إما بتعلمها أو برفعة منزلتها الاقتصادية. وساهم ذلك إلى اقتصار حملة التأييد على أعضاء الجمعيات النسائية التي لا تستند على قاعدة نسوية واسعة. فلا شك ان انحسار القاعدة الجماهيرية لهذه الجمعيات أضعف قدرتها على إحداث ضغوط على العديد من النواب الذين كان من الممكن كسبهم لدعم التشريع الهادف لنيل المرأة حقوقها السياسية. وقد تحتاج الحركة النسوية في الكويت إلى إعادة تفعيل لهذا العامل الاقتصادي، فإذا كان هذا العامل غائباً في هذه الفترة لعدم اقتناع غالبية من النساء بحصولهن على فوائد ملموسة من نيل حقوقهن السياسية، فإنه للمحافظة على الحق في التوظيف والمساواة في الأجرة لا بدّ من ايصال صوت المرأة بصورة مباشرة إلى مجلس الأمة. وسيثبت المستقبل وجود تناقض بين مصالح النساء العاملات بشكل عام وبين النواب الذين عملوا على إفشال القانون الداعي إلى اعطاء المرأة حقوقها السياسية. فقد دأب العديد من هؤلاء النواب على التذمر من زيادة عدد الاناث في الجامعة، وقد ابدى بعضهم صراحة خوفه من تأنيث قوى العمل بين المواطنين الكويتيين. فالحركة النسوية بحاجة إلى توسيع قاعدتها وامتدادها لتشمل ربة البيت والموظفات باختلاف وظائفهن ومستوياتهن العلمية ومنزلتهن الاقتصادية، وإلى توعيتهن بأن عزل المرأة عن المجال السياسي سيؤدي على المدى البعيد إلى تقويض فرصتها المستقبلية سواء كان ذلك في الدراسة أو في العمل. - ثانياً، مرجعيات الأطراف اعتاد الخطباء والكتّاب البحث عن دعم في النصوص الدينية لتعزيز وجهة نظرهم في موضوع ما. ونحن جميعاً نقتبس من الآيات الكريمة والأقوال المأثورة الأخرى لتعزيز آرائنا بصورة فطرية في بعض الأحيان. ودأب المتحمسون لإسقاط قانون الحقوق السياسية للمرأة من جهة، والمتحمسون لمصلحة هذا القانون من الجهة المقابلة، على الاقتباس من آيات الذكر الحكيم لدعم وجهة نظر كل منهما. فكانت القراءة للقرآن الكريم انتقائية اختار كل طرف ما رآه مناسباً لأهدافه، وقلما ادرك المستمع أو القارئ أسباب الاستشهاد بهذه الآيات. أو ان كان هناك فعلاً علاقة لهذه الآيات بحجب الحقوق السياسية للمرأة أو منحها اياها. ردد الطرف الأول قوله تعالى: "الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض"، ولجأ الطرف الثاني إلى قوله تعالى: "يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله". ويرى الكاتب أن الآية الأولى لا يمكن ان تكون سبباً كافياً لحجب الحقوق السياسية للمرأة، كما ان الآية الثانية لا يمكن ان تكون سنداً كاملاً لمنح المرأة حقوقها السياسية، لأنه في كثير من الأحيان يضيف القارئ الى معنى ما يقرأه معتمداً على خلفيته الذهنية والبيئية والفكرية والعاطفية. وقد كان علي بن ابي طالب رضي الله عنه على معرفة كبيرة عندما طلب من رسوله إلى الخوارج ان لا يجادلهم بالقرآن حول خلافه الدنيوي معهم. ولا شك ان القراءة المثلى للقرآن هي تلك الهادفة الى التقرب من الله، والى إحاطة الذهن والعواطف بالقيم السامية للدين العظيم والمجردة من تحقيق أهداف سياسية أو مادية. إن عملية القراءة، عملية ذهنية بسيطة من ناحية، ومعقدة من ناحية أخرى. فلفظ الكلمات لمن اعتاد القراءة يكون سهلاً وهو واحد لجميع القراء. إلا أن استنتاج المعاني يكون متمايزاً من قارئ إلى آخر. ويرى علماء اللسانيات ان جزءاً كبيراً من المعنى يضعه القارئ نفسه، وقد قدر بعضهم ان ما يضعه القارئ من معنى نابع من نفسه يصل إلى 80 في المئة من اجمالي المعنى العام. وترجع الخلافات في استنتاج المعاني عند القراءة إلى تمايز في الخلفية الذهنية والعاطفية للقراء قبل القراءة. وما سيحدد التوجه العام نحو حصول المرأة على حقوقها السياسية ليس النص الديني بمقدار ما تحمله الأذهان والعواطف قبل قراءة هذا النص. لذلك وجدنا في كلية الشريعة أساتذة وعمداء مؤيدين لأن تنال المرأة حقوقها السياسية وآخرين في هذه الكلية معارضين له، فالعوامل الاجتماعية والنفسية المشكلة لهذه الأذهان والعواطف هي التي تحدد اتجاه الآراء نحو هذا الموضوع. بعد صدور المرسوم الأميري الذي أراد إعادة الحق الى من يستحق، أصبح موضوع إقراره بقانون مسألة وقت حتى بعد معارضته من غالبية النواب، واسقاط القانون حول الموضوع نفسه. ولا شك ان مقاومة التغيير أمر طبيعي وعادة ما يستفيد منها المبادر إلى إحداث التغيير، وذلك بتجديد منهجه وتعزيز عزيمته على التغيير. لذلك يتوقع من الشرائح الاجتماعية التي عملت على أن تنال المرأة حقوقها السياسية كاملة ان تديم الحيوية لهذا الموضوع بكسب التأييد له، خصوصاً من المرأة نفسها. ومن ناحية أخرى، فإن درجة الوعي الاجتماعي ما هي إلا دالة للزمن وعادة ما يرتفع منحناها إلى أعلى بمرور الزمن محدثاً درجة أعلى من الوعي، والذي ستدرك فيه النساء اللواتي وقفن ضد قضيتهن أن مواقفهم السابقة ما كانت إلا اضطهاداً للنفس، وان يدرك بعض الرجال ان الادعاء بقدرات الرجل وولايته الأحادية على المرأة ما هي إلا قناعات اجتماعية قابلة للتغيير. * كاتب كويتي.