Bertrand Badie. Un Monde sans Souverainete. عالم بلا سيادة. Fayard, Paris. 1999. 306 Pages. حتى الأمس القريب كانت فكرة السيادة الوطنية تبدو وكأنها "تابو" لا يمكن المساس به ومطلق غير قابل للمساومة. وككل ما هو مطلق او ما يدعي انه كذلك، كانت عقيدة السيادة الوطنية تحجب عن وعي معتنقيها تكوينها التاريخي وتطرح نفسها كما لو انها وجدت في كل مكان وزمان، وعلى الاقل منذ نشوء الدولة، في التاريخ. والواقع انه ان تكن السيادة كممارسة عملية قد رافقت المسيرة التاريخية للدول، وعلى الاخص للامبراطوريات الكبرى من فرعونية وفارسية ورومانية وصينية وعربية اسلامية، الا ان المفهوم النظري للسيادة لم يشرع بالتبلور الا ابتداء من فجر الحداثة، على يد جان بودان في "كتب الجمهورية الستة" الصادرة عام 1576، ثم على يد توماس هوبز في كتابه "اللفياثان" الصادر عام 1655، واخيراً في فكر عصر الانوار والثورة الفرنسية. فما كان لفكرة السيادة ان تبزغ وان تنضج كمفهوم نظري قبل ان تمر اوروبا، مهد الحداثة السياسية، بثلاثة تطورات كبرى. اولاً الصراع بين الاباطرة والبابوات الذي آذن بطي صفحة القرون الوسطى من خلال تكريس مبدأ الفصل بين السلطتين الزمنية والروحية. ثانياً الصراع بين الملوك والامراء الذي آذن بطي صفحة النظام الاقطاعي والانتقال من التجزؤ السياسي الى المركزة السياسية. ثالثاً الصراع بين الملوك والشعوب الذي آذن بطي صفحة نظام الحكم المطلق وولادة الدولة القومية الحديثة. ويمكن القول انه على امتداد قرنين كاملين ما بين 1789 قيام الثورة الفرنسية و1989 بداية تفكك الامبراطورية السوفياتية تربعت فكرة السيادة الوطنية على عرش العلاقات الدولية والفلسفة السياسية بوصفها التعبير القانوني الامثل عن السلطة العليا واللامحدودة للدولة القومية على ارضها وشعبها. وبديهي ان فكرة السيادة لم تخلُ في تاريخها قط من الالتباس. فقد كان مشهداً متفارقاً ذاك الذي قدمته الحروب النابوليونية في مطلع القرن التاسع عشر: فباسم الحق القومي للشعوب في تقرير مصيرها والتمتع بسيادتها اطلق نابليون - وقد عمّد نفسه امبراطوراً - جيوشه "الثورية" في اوروبا لتمزق اوصال الدول القائمة وتؤسس الممالك وفق هواه والمستقبل السلالي لافراد اسرته. وكان مشهداً متفارقاً ايضاً ذاك الذي قدمته ديبلوماسية مترنيخ الحديدية على امتداد النصف الاول من القرن التاسع عشر عندما تولت قوات التحالف المقدس الذي قاده قمع الحركات القومية للشعوب الاوروبية باسم سيادة الدول والسلالات الامبراطورية. ورغم هذا التاريخ الملتبس، فان فكرة السيادة الوطنية فرضت نفسها بلا منازع على الفلسفة السياسية والقانون الدولي في حقبة نصف القرن التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية. فقد تم تأويل هذه الحرب نفسها على انها ما كانت لتقع لو لم يقم النظام النازي باختراق السيادة الوطنية لدول اوروبية مجاورة مثل النمسا وتشيكوسلوفاكيا وعلى الاخص بولونيا. وفي فترة الحرب الباردة التي انقسم فيها العالم انقساماً حاداً الى كتلتين متعاديتين تطابقت فكرة السيادة الوطنية مع المصلحة الاستراتيجية لكلا المعسكرين. فالعالم الغربي، الذي اعتبرها جزءاً مقوّماً من تراثه ومن منظومة قيمه، زاد استمساكاً بها ليمنع كل توسع جديد للمعسكر الاشتراكي ابتداء من عام 1948. والاتحاد السوفياتي وجد فيها الذريعة الايديولوجية والقانونية معاً لرفض تدخل الغرب في شؤونه الداخلية ولتطبيق سياسته الخاصة به، بلا اي محاسبة دولية، في الدول الدائرة في فلكه في ما وراء "الستار الحديدي". وبدورها تمسكت دول العالم الثالث، الخارجة لتوها من مرحلة نزع الاستعمار، بمبدأ السيادة الوطنية لتثبيت مواقعها كدول حديثة الاستقلال، ثم لتثبيت حقها، ابتداء من مؤتمر باندونغ لعام 1955، في مقاومة ضغوط "الجبارين" وفي عدم الانحياز الى اي من المعسكرين المتناحرين. ولكن وراء ستار "السيادة الوطنية" ارتكبت جرائم بشعة. ففي العالم الثالث تحولت معظم دول حركة التحرر الوطني نحو الاستبداد السياسي والديكتاتورية العسكرية والاحادية الحزبية. وقمعت قوى المعارضة، سواء منها الديموقراطية او الثورية، قمعاً عنيفاً. ومورست اشكال متطرفة من الاستهتار بحقوق الانسان ومن اضطهاد الاقليات الدينية والاثنية ومن التصفية العرقية التي اخذت في بعض الحالات شكل ابادة حقيقية للجنس البشري. وفي العالم الاشتراكي نمت وتضخمت توتاليتاريات شرسة، وانتشرت شبكة واسعة من معسكرات العمل والاعتقال الغولاغ، وقمعت بنيران المصفحات وجنازير الدبابات ثورة الشعب المجري عام 1956، وانتفاضة الشعب البولوني في عامي 1956 و1970، ووئد ربيع براغ في عام 1968، وأبيد مليونان من سكان المدن في كمبوديا، ونفذ حكم الموت تجويعاً وتعذيباً واعداماً باكثر من عشرين مليون مواطن في عهد "الثورة الثقافية الكبرى" في الصين الماوية. ولم يقف العالم الغربي نفسه، رغم ديموقراطيته المعلنة، بمنأى عن هذه الفظائع. فباسم الحفاظ على السيادة الوطنية قامت في اوروبا الجنوبية، او دامت، انظمة ديكتاتورية شبه فاشية. وفتكت المكارثية في الولاياتالمتحدة الاميركية فتكاً ذريعاً بالطبقة المثقفة، واسست وكالة المخابرات المركزية نفسها في دولة داخل الدولة، وموّلت ونظمت الانقلابات والديكتاتوريات العسكرية في اميركا الجنوبية. وباسم السيادة الوطنية الممتدة الى ما وراء البحار شُنّت حروب الجزائر والهند الصينية وفيتنام العالية الكلفة بالضحايا المدنيين. ولكن ابتداء من تسعينات القرن العشرين، ومع تفكك الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية، بدا مفهوم السيادة الوطنية وكأنه ادى وظيفته ودخل في طور من القلقلة واعادة النظر. واعلن مبدأ جديد عن ظهوره في قبالته، الا هو حق التدخل. فالدول، او سلطات الدول بالاحرى لم تعد حرة مطلق الحرية داخل حدودها. فثمة قواعد دولية لا بد ان تلتزم بها، وثمة منظمات دولية لا بد ان تتنازل امامها عن جزء من سيادتها انطلاقاً من قاعدة تقول ان المجتمع الدولي - وهو مفهوم حديث الانشاء - له حق النظر وحتى التدخل في حال شطط الدول القومية في المخالفة الصريحة والمكثفة لبعض المبادئ والقيم المقررة دولياً وللقيم التي على اساسها تمخض مفهوم المجتمع الدولي الجديد. ومن دون ان يلتغي مفهوم السيادة في الداخل القومي، فانه لم يعد يعني اللامسؤولية تجاه الخارج الاممي. فما دام العالم يشكل "قرية كونية واحدة" - وهذا بدوره تصور مجازي جديد - فان خريطة الحدود القومية غير القابلة للاختراق لا بد ان تخلي مكانها لشبكة من التبعيات المتبادلة. ولئن يكن القانون الدولي اكتفى حتى مطلع التسعينات بتحديد مفهوم سالب للعلاقات الدولية من خلال القاعدة التي تقول: ان حرية دولة ما تقف عند حدود حرية الدول الاخرى، فان حق النظر وحق التدخل، كما بدأ بفرض نفسه في هذا العقد الاخير من القرن العشرين، قد اعطى مفهوم المسؤولية صياغة اكثر ايجابية: فشريعة المجتمع الدولي الزامية ليس فقط في العلاقات بين الدول، بل كذلك في داخل الدول. والواقع انه بدأ يتضح اكثر فأكثر في السنوات الاخيرة ان الدول لم تعد هي الفاعل الوحيد على المسرح العالمي. فالى جانب الدول، بل الى جانب هيئة الاممالمتحدة نفسها، هناك اليوم فَعَلة عديدون على المسرح الدولي: بدءاً بالشركات المتعددة الجنسيات وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومروراً بمنظمات حقوق الانسان وانتهاء بمنظمات حماية البيئة وسائر المنظمات غير الحكومية. فالدول لم تعد حرة ملء الحرية في سياساتها الاقتصادية. وقد اضطرت عشرات من الدول في العالم، بطوعها او رغماً عنها، الى القبول - على سبيل المثال - ب"نصائح" المؤسسات الاقتصادية الدولية والالتزام بمعاييرها في ما يتعلق بسياسات التصحيح الاقتصادي. والدول لم تعد حرة مطلق الحرية في سياساتها الامنية الداخلية، ولا حتى في سياساتها القانونية في ما يتعلق بالممارسة الشرعية - وكم بالأحرى اللاشرعية - للعنف. وبدون ان تدلل الدول على مطواعية تامة في هذا المجال، فانها لم تعد تستطيع ألا تحسب حساباً لأنشطة وتقارير منظمات حقوق الانسان، وفي مقدمتها منظمة العفو الدولية. والدول لم تعد تتمتع بالسيادة القانونية التامة. فحكومة التشيلي لم تستطع ان تضمن الحصانة القانونية لرئيسها السابق اوغستو بينوشيه. والحكومة الليبية اضطرت، بعد طول ممانعة، الى تسليم مواطنيها المتهمين في عملية لوكربي للمثول امام محكمة "اجنبية". والدول لم تعد حرة في ان تضطهد اقلياتها. وعلى الاقل في بعض المناطق "المميزة" من العالم، كما في اوروبا حيث تدخل المجتمع الدولي لمرتين على التوالي في يوغوسلافيا السابقة ليضع حداً لعمليات التطهير العرقي التي ما زال مغضوضاً النظر عنها في مناطق اخرى من العالم. والدول لم تعد مطلقة الحرية في ان تلوث البيئة بغير محاسبة. فهناك اليوم ضغوط متزايدة على الحكومة البرازيلية وحكومات بلدان شرقي آسيا للحد من العدوان العمراني والصناعي على الغابتين البرازيلية والآسيوية اللتين هما للكرة الارضية بمثابة الرئتين. وهناك ضغوط مماثلة على البلدان الاميركية الشمالية والاوروبية الغربية للحد من معدلات تلويثها الصناعي للبيئة وعدوانها على طبقة الاوزون الجوية وفرط افراز مصانعها ورحبتها الضخمة من السيارات لثاني اوكسيد الكربون. بل ان الدول لم تعد صاحبة السيادة المطلقة في سياساتها الديموغرافية. فمؤتمر القاهرة لعام 1994 وضع قيوداً ورسم حدوداً لظاهرة التضخم الديموغرافي في العالم، وان تكن بعض الدول العربية - ومنها السودان ولبنان - قد امتنعت عن حضور المؤتمر، كما وان تكن دول اخرى مثل الجزائروالصينوايران قد تحفظت عن قرارات المؤتمر اما لاعتبارات سياسية تتعلق بفكرة السيادة الوطنية اصلاً، كما في حالة الجزائروالصين، او لاعتبارات ثقافية ودينية كما في حالة ايران. والجدير بالذكر ان مؤتمر القاهرة المشار اليه حضره ممثلون عن 1500 منظمة غير حكومية، مثلما شاركت 30000 امرأة في الندوة المفتوحة التي عقدتها المئات من المنظمات غير الحكومية على هامش المؤتمر النسوي العالمي الذي انعقد في بكين عام 1995. وهذا بحد ذاته مؤشر على بداية تكوين نوع من مجتمع مدني عالمي سيكون له دوره في المزيد من تآكل فكرة السيادة المطلقة للدول في القرن القادم. أنتحدث اذن مع برتران بادي عن "عالم بلا سيادة"؟ الواقع ان هذا العنوان مثير للالتباس، وهو ينطق بعكس المدلول المراد له. فالعنوان كان سيكون مطابقاً لو صيغ على هذا النحو: "عالم بلا سيادات وطنية". ذلك انه في الوقت الذي تتآكل فيه فكرة السيادة الوطنية المطلقة للدول - وتلك هي الظاهرة المستجدة التي ترصدها العين السوسيولوجية الذكية لمؤلف "عالم بلا سيادة" - فان "العالم" بما هو كذلك يتجه اليوم، ومرشح في الغد لأن يكون ذا سيادة اكثر من اي وقت مضى.