سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الانكماش والخفض حل بيروقراطي سهل ... بدل الابتكار والتجديد . وزارة السياحة اللبنانية قاصرة عن تصور دور جديد لنفسها وقراراتها باقفال المكاتب السياحية تهدد مكانة لبنان في الخارج
تستعد بيروت لإطلاق مهرجان التسوق الذي سيحل في شباط فبراير المقبل، بعدما جرى إلغاؤه العام الماضي لعدم ثقة المنظمين بقدرتهم على ضمان الشروط الكافية لنجاحه. وتزدهر في أنحاء بيروت المرافق الترفيهية على اختلافها في وقت تمتد الجادات الواسعة التي بنيت على مدى السنوات الماضية بديون باهظة يتحملها لبنان، والتي بدأت تعطي لبيروت طابعاً جذّاباً وتعيد اليها وهجها الذي عرفته منذ الخمسينات وحتى منتصف السبعينات. لكن، وبينما يزداد الاقبال السياحي على لبنان وتتوالى المبادرات التي تريد بالسياحة اللبنانية أن تخرج من الموسمية وتتجاوز طابع الاصطياف الذي كان سمتها دائماً، تقدم وزارة السياحة على إقفال مكاتبها السياحية في الخارج وكأنها اكتفت من الترويج السياحي للبنان بإقفال منافذ الترويج متجاهلة أبسط مبادىء التسويق التي كان لبنان سبّاقاً إلى إدخالها إلى السوق الشرق الأوسطية. وتنفق دول كثيرة مبالغ طائلة من الأموال على عمليات الترويج السياحي في الخارج، لإدراكها أن كل مبلغ ينفق على استقدام السياحة الوافدة سيحقق للاقتصاد الوطني عوائد تتجاوز عشرات أضعاف حجم المبالغ المنفقة. إلا أن هذا التقدير لعملية الترويج الخارجي لم يقف عائقاً أمام المنطق المتأزم لوزارة السياحة اللبنانية. وحجة اقفال المكاتب السياحية أن هناك تقشفاً فرضته وزارة المال، وأن غياب المخصصات المالية لم يترك أمام مسؤولي وزارة السياحة من حلول بديلة غير تقليص رقعة انتشار نشاطهم الترويجي في الأسواق المورّدة للسياح. ويشبّه العاملون في قطاع السياحة موقف الوزارة، وإغفالها مطالبة وكالات السفر المحلية بإبقاء المكاتب مفتوحة والعمل على توسيعها، بعملية "إخفاء رؤوسهم في الرمال"، ويأسفون لأنهم يعتبرون أن لبنان الذي اشتهر على الدوام بديناميكية القطاع الخاص فيه سيخسر إذا رهن سياسته الترويجية برؤية محدودة يمتلكها موظفون حكوميون يفتقدون حس المبادرة ولا يملكون القدرة على الابتكار، ويفضلون بدل التجديد والتغيير تقليص نشاطهم التسويقي في الخارج حيث تقوم السوق على أساس التجديد والمنافسة والتوسع. موعد مؤسف وتقفل المكاتب السياحية اللبنانية في الخارج بغداد، جدة، فرانكفورت، لندن. وكان مكتب اسطنبول اقفل سابقاً ابوابها نهاية الشهر الجاري، باستثناء مكتبي باريس والقاهرة. ويعكس تقلص الحضور اللبناني فشل استراتيجية الترويج التي تتبعها وزارة السياحة اللبنانية وقصور المسؤولين اللبنانيين في وزارتي السياحة والمال عن إدراك أهمية السياحة الوافدة كحافز للتنمية الاقتصادية وكمصدر للعملات الصعبة، في وقت يعاني فيه الاقتصاد اللبناني من الركود، على رغم كل التطمينات والتصريحات الحكومية. وكانت مسألة إبقاء المكاتب مفتوحة مطروحة على مدى الشهور الماضية. وعرض الأمر على كبار المسؤولين بما فيهم الرئيس إميل لحود. إلا أن قرار الوزارة أتى ليقضي على كل الآمال. وأبلغ أصحاب المقار المستأجرة بإنهاء عقود التأجير واسترجاع هذه المكاتب بنهاية الشهر الجاري. وأبدى عدد كبير من العاملين في القطاع السياحي ممن تحدثت اليهم "الحياة" ذهولهم لهذا الاجراء، سيما وأن كل الدول العربية المجاورة تسعى إلى تعزيز حضورها في الخارج وتزيد حجم موازناتها المخصصة لهذا الغرض. وقال أحد أصحاب وكالات السفر: "المكاتب السياحية في الخارج لعبت دوراً في رفع مستوى السياحة في لبنان وتوطيد العلاقات السياحية بين المؤسسات السياحية ورجال الأعمال في الخارج وبين السوق السياحية في لبنان". ولعل الأكثر تأثراً ستكون علاقة لبنان بالسوق الأوروبية التي لم يكن لبنان ماثلاً على خريطتها حتى عام 1995. ويعني الاعتماد على مكتب باريس وحده صعوبة تنظيم أي علاقة منتظمة تربط لبنان بوكالات السفر الدولية التي تنشط في البلدان الأوروربية الرئيسية المورّدة للسياح. خسارة كبيرة ويشكل مكتب لندن الذي يقوم في منطقة البيكاديللي، في أحد أبرز المواقع في العاصمة البريطانية، مثالاً على الخسارة الكبيرة التي ستلحق بأنشطة الترويج السياحية للبنان في الخارج. وبعدما كان عدد السياح القادمين من بريطانيا لا يتجاوز عام 1995 العشرات، بات اليوم يتجاوز 25 ألفاً، والفضل في ذلك إلى حد كبير للمكتب الذي نجح في اقامة علاقة مع 52 وكالة من كبرى الشركات السياحية لن تجد من تتوجه اليه في المستقبل لتسهيل الاجراءات والحصول على الاستعلامات التي يتطلبها تسيير قوافل المجموعات السياحية. ومن غير المتوقع أن تستطيع هذه الشركات إبقاء علاقتها مع السوق اللبنانية على المستوى ذاته الذي بلغته في السنوات الماضية، أو أن ينضم اليها مزيد من الشركات والوكالات البريطانية الراغبة في الولوج الى السوق اللبنانية، من دون الدور التسهيلي والنشط الذي كان المكتب يلعبه على مدى السنوات الماضية. وبفضل جهود المكتب زار رئيس اتحاد وكالات السفر البريطانية مرتين لبنان، كما زاره رئيس جمعية منظمي الرحلات الجماعية، علاوة على عشرات الرحلات التي نظمت لأصحاب وكالات السفر البريطانية ممن رغبوا في التعرف على المنتج السياحي اللبناني وإجراء اتصالات مع نظرائهم اللبنانيين. ونجح المكتب في تأمين علاقات واسعة مع الأوساط الصحافية البريطانية وفي تأمين رحلات صحافيين كثيرين من المملكة المتحدة ممن كتبوا عشرات المقالات والتحقيقات المطولة عن تعافي القطاع السياحي في لبنان، وأعادوا وصل ما انقطع من علاقة مع السوق البريطانية التي يصل عدد المسافرين منها كل عام إلى 27 مليون سائح يتوجهون إلى أقطار العالم الأربعة. وهذا الجهد الذي تم وأثمر عن برامج إذاعية وتلفزيونية وصحافية لم يكلف وزارة السياحة اللبنانية أي مبلغ. ومن المفارقة أن وزارة السياحة اللبنانية التي لم تنفق أي فلس على الاعلان في لندن خلال السنوات الخمس الماضية، كانت تمتنع في كثير من الأحوال عن تشجيع قدوم الصحافيين البريطانيين وتأمين استقبالهم ولو لمدة أربعة أيام، على رغم أن العائد الترويجي من استقبال إقامتهم كان سينعكس إيجاباً لأنه كان سيؤمن نشر مقالات سياحية تعرّف بلبنان من دون أي بدل مادي، وهو إجراء تسارع اليه كل مكاتب الترويج السياحي في لندن، على اعتبار أن الصحافة البريطانية صاحبة نفوذ ترويجي واعلاني يتجاوز السوق البريطانية إلى بقية الأسواق الأوروبية وتلك الناطقة باللغة الانكليزية. ومن بين الآثار الأخرى السالبة التي سيتركها اقفال المكاتب تحويل الجهد الى السفارات اللبنانية في الخارج التي كانت على اتصال وتنسيق مستمرين مع المكاتب السياحية. وكانت هذه المكاتب تقوم بالرد على كثير من الاستفسارات وتقدم معلومات إلى أطراف كثيرة مهتمة بلبنان والسوق اللبنانية، لا سيما على صعيد زيارات رجال الأعمال ومسؤولي الشركات. ويقول أحد العاملين في القطاع السياحي في لندن، من دون أن يخفي دهشته من موقف الوزارة وعدم عقلانيته: "بينما تصل موازنة أحد المكاتب السياحية العربية في العاصمة البريطانية إلى 5،3 مليون جنيه استرليني لأغراض الترويج فقط، فإن وزارة السياحة اللبنانية عجزت عن تأمين مئة ألف جنيه 160 ألف دولار هي موازنة مكتب السياحة اللبناني شاملاً كل النفقات بما في ذلك الايجار والضرائب والفواتير المختلفة". ويلعب مكتب لندن دوراً في تحقيق ربط مع المغتربين اللبنانيين من الولاياتالمتحدة والمكسيك وكندا والبرازيل والأرجنتين وفنزويلا، سيما عندما يصلون إلى لندن. ويتساءل أصحاب وكالات السفر اللبنانية في العاصمة البريطانية: "عدد الزوار الذين وصلوا إلى لبنان بلغ 710 آلاف سنوياً. فهل اكتفت وزارة السياحة بهذا العدد أم أنها تعتبر أن الترويج السياحي بنفقاته الزهيدة لن يحقق عائداً مضاعفاً للبنان في الخارج؟". وتبدو وزارة السياحة اللبنانية التي تعاني منذ سنوات عدة من تجاهل وإهمال في الموازنات الحكومية لا يتلاءم مع مكانتها في قيادة أحد أهم القطاعات الاقتصادية في لبنان مرشحة لمرحلة تحول واضحة يمليها تخلفها عن القيام بدورها في الشكل المطلوب. وأهم مراحل هذا التحول ستكون زيادة موازنتها ومخصصاتها المالية، والثانية تحقيق مشاركة أكبر مع القطاع الخاص الذي يبقى بعيداً عن الدخول في لعبة الترويج للبنان، وكأن عملية تسويق لبنان في الخارج تقتصر على البيروقراطية الحكومية وعقلية الموظفين الحكوميين الذين بقوا في مناصبهم فترة طويلة من دون أن تبقى لديهم أدنى رغبة لتغيير وسائل عملهم القديمة واللحاق بالعالم الحديث على عتبة الألفية الثالثة التي تقول وزارة السياحة ...إنها تريد الاحتفال بها!.