في مثل هذه الأيام من العام الفائت، كان من الصعب رؤية ضوء أو شبه ضوء في آخر النفق الذي كان الانتاج السينمائي العربي قد وصل اليه ولا سيما في مصر، حيث علا الصراخ، وراح الجميع يتحدث عن أزمة عضوية تصيب السينما العربية، فتؤجل أو تلغي مشاريعها، وترمي بالعشرات من العاملين فيها في وحدة البطالة أو الى احضان المنافس الرئيسي للفن السابع: التلفزيون. خارج مصر، لم يكن الوضع أفضل كثيراً، وان كان هذا البلد أو ذاك شهد تحقيق فيلم أو فيلمين. ومهما يكن من أمر هذا الانتاج المتفرق والذي طلع، يومها، كالفطر في صحراء مجدبة، فإنه أتى ليذكر ان الضآلة الكمية لا يمكنها في نهاية الأمر ان تنتج كثافة نوعية... ففي المغرب، كما في لبنان، وفي سورية كما في تونس، أي في تلك البلدان التي انتجت معاً، ما لا يزيد عن دزينة من الأفلام الطويلة، لم يكن من شأن ما انتج ان يذكر بما يمكن الآن تسميته ب"العصر الذهبي"، مع استثناء في لبنان وآخر في سورية، محورهما فيلمان تحدثنا عنهما كثيراً، ولا يزال في الامكان التحدث عنهما أكثر: "بيروت الغربية" و"نسيم الروح". غير ان المعضلة الأساسية ظلت معضلة مصر. فالانتاج السينمائي المصري ليس عملية هواية، ولا هو نبت موسمي يرتبط بالمزاجيات. هو صناعة كاملة قائمة في ذاتها. وغيابها لا يعود غياباً للابداع وحده، بل يصبح غياب قطاع صناعي ابداعي بأسره. من هنا كان الخوف في مصر، وعلى مصر كبيراً. وكان كبيراً بمقدار ما عرفت ثلاثة أو أربعة أفلام حققت في ذلك العام، كيف تخرق الحواجز، وتندفع على رغم البؤس لتوجد أولاً، ثم تفرض حضوراً وتواصلاً بعد ذلك. ويبدو ان الصراخ نفع، ويبدو ان خرق هذه الأفلام للحواجز الخارجية كانت له أصداؤه، رغم التأزم الداخلي، وتحول جزء كبير من السينما الى مجرد أفلام ترفيهية تجتذب جمهوراً عريضاً واستثنائياً، لا يمكن احتسابه بعد، في عداد الجمهور السينمائي الحقيقي الذي يؤمن تنوعاً واستمرارية. وهكذا، بفضل "معجزة صغيرة" ربما كانت في حاجة الى تحليل معمق "معجزة" ساهم في قيامها أفراد مغامرون قدموا التضحيات، وشركات كبيرة جديدة وجدت في الميدان - الخاسر حالياً - مجالاً لنهضة مستقبلية ناجحة، وإدارة قدمت بعض ما كان عليها ان تقدمه منذ زمن بعيد، كما ساهم في قيامها بنجاح خارجي لأفلام مثل "جنة الشياطين" و"المدينة" و"الآخر" و"عرق البلح"، وغيرها، كما ساهم تلفزيون وجد عليه أخيراً ان يرد للسينما بعض جميلها عليه، وهو يعرف انه لن يطلع خاسراً من ذلك كله، اذن، بفضل هذه المعجزة ها هي السينما في مصر تشهد نهضة جديدة، ليس هنا مجال احصاء ظواهرها وتفاصيلها كلها، لكن في الإمكان تلخيصها عبر الإشارة الى عشرات المشاريع التي باتت الآن قيد التنفيذ وبعضها - وهذا هو الأهم - لمخرجين ومؤلفين يدخلون عالم المسؤولية الفنية المطلقة للمرة الأولى، كما ان بعضها الآخر يشكل فرصة لعودة مخضرمين كانوا ابدعوا للسينما المصرية بعض أروع نتاجاتها خلال العشرين عاماً الأخيرة. إزاء ما يتحقق الآن. وإزاء ما سوف يتحقق، بالتأكيد، خلال الأشهر المقبلة، يمكن للسينما المصرية ان تتنفس الصعداء، ويمكن لمحبيها ان يدركوا انها خرجت من عنق الزجاجة. ويمكن للذين ساءتهم نجاحات - غير مبررة على أية حال - لسينما تهريجية سادت، على انقاض السينما الحقيقية خلال السنوات المنصرمة، ان يدركوا ان ثمة في الساحة أماكن للجميع، مجيدين أو أقل جودة، جماهيريين أو نخبويين، غاضبين ناقدين أو راضين مذعنين. إنه ضوء في آخر النفق بدأ يظهر على رغم تشاؤم المتشائمين. ويلمسه، حقاً، من يزور القاهرة ويسأل عن اصدقائه السينمائيين فيها فيجدهم إما يصورون أو يحضرون أو يحلمون وهم مدركون ان احلامهم سوف تتحقق قريباً. هذا الذي يحدث في مصر الآن، جدير بعد كل شيء بأن يدرس بعمق من قبل البلدان العربية الأخرى، التي لا تزال تتساءل في قلق، لماذا لم تعد قادرة على ان تنتج أفلاماً وبوفرة معقولة، هي التي كانت الى سنوات قليلة واعدة ان لم نقل منتجة حقيقية لسينما تحمل الكثير من الآمال.