مرة اخرى نعود الى الترابط السينمائي، غير المقصود أصلاً، بين القاهرةوبيروت، وهذه المرة ليس للحديث عن الرقابة ومشاكل الرقباء، ولكن للحديث عن السينما، السينما الحقيقية المهددة بالموت في العاصمتين، ان لم تدخل - وبسرعة - غرف الانعاش الفائق. وفي هذا الاطار من الواضح ان "الانعاش الفائق" يتمثل في الدعم الذي يمكن للسلطات الرسمية المعنية ان تقدمه الى هذا النوع من السينما. فمن القاهرة تردنا تساؤلات تقول باختصار انه "عندما اعلن فاروق حسني، وزير الثقافة المصري قبل شهور، عن دعم الدولة لخمسة افلام جديدة كل عام، بمبلغ مليونين ونصف المليون من الجنيهات، احدث القرار ارتياحاً واسعاً من قبل السينمائيين واعتبره البعض افضل قرار اتخذه هذا الوزير الفنان بعد ان كان اتهم طويلاً بتجاهل السينما لصالح فنون اخرى". ومن بيروت، ترد تساؤلات حول "وعد آخر" كان ابداه الرئيس رفيق الحريري، يوم كان في السلطة، امام المخرج يوسف شاهين قائلاً له ان بامكانه ان يعتبره، تعهداً لا مجرد وعد. كان ذلك التعهد يتحدث عن نحو مليوني دولار يمكن للحكومة اللبنانية ان تقدمها لخلق نهضة سينمائية، وذلك خلال العام 1999، على ان يستخدم هذا المبلغ في انتاج - والترويج ل - أفلام يحققها مخرجون لبنانيون اثبتوا حضورهم في العالم، بأفلام طويلة او قصيرة. منذ اعلن الوزير المصري الفنان وعده، مضت شهور عديدة، لم يحدث فيها شيء، ولم يستفد اي مخرج من ذلك الدعم او من جزء منه. ومنذ تعهد رئيس الحكومة اللبنانية السابق بدعم السينمائيين اللبنانيين، لم يطرأ اي جديد جديّ على تعامل الدولة مع السينمائيين. صحيح ان بضعة الوف من الدولارات قدمت لبعض المشاريع، لكنها لم تكن دعماً حقيقياً يمكنه ان ينهض بصناعة او ينقذ فناً. صحيح ان السينما في البلدين، واصلت مسيرتها وحركتها، رغم ذلك التجاهل ورغم الاحباط، ولكن أفلم يكن من شأن مسيرتها ان تكون افضل واكثر تماسكاً، لو ان السلطات وفت بوعودها ونفذت تعهداتها؟ ثم، الى متى يمكن للسينما الجادة - الجديرة باسم سينما وبأن تعتبر فناً - ان تواصل مسيرتها من دون هذا الدعم؟ وهل يمكن للسينمائيين ان يحلموا - ضمن الظروف السيئة التي يعيشها التوزيع السينمائي وضمن اطار وضعية لا يقبل فيها الجمهور العريض الا على اتفه الأفلام وأقلها فنيّة - بالحصول على ما يمكنهم من ان يحققوا احلامهم السينمائية؟. هنا علينا ألا ننسى ان الفن الحقيقي، كل فن حقيقي، يكون تجاوزاً للسائد وعلامة للمستقبل. والسينما الجادة لا تشذ عن هذه القاعدة. السينما الجادة، من اميركا الى الهند، ومن مصر الى اوروبا، صارت افلامها الأساسية تعتبر اليوم جزءاً من تراث البلد، وعلامة من علامات قيمته الحضارية. فاذا تذكرنا ان القسم الأكبر من تلك الأفلام، كان شرائط حققت يوم عرضها خسائر مالية ضخمة، يمكننا ان نفهم الضرورة الملحة التي تحتم على السينمائيين توقع الدعم يأتيهم، لأفلامهم الطموحة، خارج اطار مبادئ السوق، ولعبة العرض والطلب. في هذا الاطار لا بد من التساؤل - مثلاً: من يمكنه ان يتذكر اليوم تلك الملايين القليلة من الجنيهات التي صرفها القطاع العام في مصر ذات زمن، لدعم افلام لم يكن من مصلحة المنتجين والموزعين التجار ان ينفقوا عليها، بالمقارنة مع تلك العشرات من الافلام الرائعة - الخاسرة مالياً في حينه - والتي حققت لمصر، الرسمية والشعبية، حضوراً سينمائياً هائلاً في العالم، وولدت تلك التيارات السينمائية التي وضعت مصر، ولا تزال تضعها، على خارطة التراث السينمائي الكوني والانساني، ناهيك بكونها شكلت جزءاً من ذاكرة الشعوب العربية كلها، ذاكرة تستعتد الآن بحنان وقوة، في كل مرة عرض فيها واحد من تلك الافلام على الشاشات الصغيرة، او الكبيرة؟ في القاهرة وفي بيروت، الوضع هو هو. والتراث تحقق بفضل افلام تعاطت مع المستقبل ومع الفن، ولم يحقق اي منها ربحاً، لكنها حققت بقاء وأدخلت البلد في قلب الحضارة. فهل علينا ان نكرر هذا الكلام باستمرار حتى تتحقق الوعود.