هنا عشرة أفلام عُرضت عام 2017 من دون أن تكون جميعها قد حُققت فيه أو تنتمي إليه من ناحية تاريخها. عشرة أفلام مميّزة إنما من دون أن يكون هذا التميّز حكم قيمة. بمعنى أنها ليست من تلك الأفلام التي تكمن أهميتها في كونها الأفضل بين ما عرض خلال العام. ربما يكمن تميّزها في موقعها من تاريخ السينما، أكان ذلك بفضل ما فيها من تجديد- وذلكم هو على أي حال المعيار الأساسي الذي توخينا الاعتماد عليه في اختياراتنا- أم بفضل موقعها من الحراك السينمائي في بلد منتجيها، وعلى رأسهم مخرجو الأفلام طبعاً. مهما يكن من أمر، فليس ثمة هنا معيار واحد ووحيد. بل إن ما هو أبعد من بالنا في هذه الاختيارات هو النجاح التجاري حيث يمكن ملاحظة أن قلة نادرة من بين هذه الأفلام حققت مداخيل تجارية استثنائية في أي مكان عُرضت فيه. كذلك، فإن الحضور أو الفوز المهرجانيين لم نتخذهما معياراً، حيث لمرة نادرة يمكن ملاحظة أن قلة فقط من «أفلامنا» هذه كانت الأبرز في أي مهرجان. إذا نحن هنا أمام اختيارات شديدة الخصوصية لعام لم يبرز فيه ما هو فاقع حقاً، لكنه، وكما يتضّح في النص الذي يراه القارئ على هذه الصفحة ذاتها، كان عاماً مفصلياً ازداد فيه الفرز حدة بين الأفلام «الفنية» والأفلام التجارية، وما اختياراتنا هنا سوى مرآة لتلك السينما التي نسمّيها «فنية» في انتظار ابتكار تسمية أخرى، والتي أكدت أن السينما لم تمت بل لن تموت، ولا يزال لديها الكثير مما يمكنها تقديمه وقوله. مربع سويدي في ديار جان دارك * من دون أي ترتيب تفضيلي، يمكننا أن نبدأ هنا بالفيلم الذي حقق «السعفة الذهبية» في الدورة الأخيرة لمهرجان كان السينمائي، أي «المربع» للمخرج السويدي روبن أوستند. فمنذ اللحظة التي كان فيها العرض الأول للفيلم في المهرجان، ساد شبه إجماع حول تميّزه، لا سيما في تلك الدورة التي بدت الأضعف في كان منذ سنوات طويلة. بدا واضحاً أنه فيلم جريء في موضوعه الذي يدور حول مدير في متحف للفن الحديث يحضّر معرضاً يقوم على فكرة المربع، لكنه، إذ يُسرق منه هاتفه النقال، سيمضي أيام التحضير ضائعاً بين محاولة العثور على الهاتف وسارقه، والاهتمام بابنتَيه والصراع مع مموّلي المتحف، في قالب من الهمّ الوجودي الشكاك والمتسائل حول جدوى كل ما يقوم به. وذلك في لغة سينمائية ديناميكية تتأرجح بين لحظات القسوة والمرح، بين أقصى درجات الإذعان وأعتى درجات التمرّد. بدا فيلماً يستحق جائزته الفرنسية، وإن كان سيبدو بعد شهور أن النقاد الفرنسيين تحديداً، قد نسوه تماماً في اختياراتهم آخر العام! * لكن ما لم ينسه أولئك النقاد، لا سيما الفرنسيون منهم، هو فيلم آخر عُرض في الدورة ذاتها من كان: «جانيت» لبرونو دومون. والفيلم الذي يقتبس، بتصرف شديد الحرية، نصاً لكاتب بدايات القرن العشرين الفرنسي شارل بيغي، يقدم عن البطلة الأسطورية الفرنسية «جان دارك» صورة ظريفة عن سنوات طفولتها ومراهقتها أثار إعجاباً فرنسياً خاصاً لدى عرضه في كان. لكنه لم يكن من نوع الإعجاب الذي يميّز نظرة غير الفرنسيين إليه. لكن اللافت في الأمر هو أن هذا الفيلم ساهم أكثر وأكثر في إخراج مخرجه من عزلة نخبوية كان وُضع فيها منذ أفلامه الأولى، مثل «الإنسانية» و «الفلاندر»، ليطرح سينماه على مستوى شعبي لم يكن واضحاً وصوله إليه، إذ ها هو هنا، وللسنة الثالثة على التوالي يقدّم فيلماً «خفيفاً» مرحاً يقوم على الكوميديا الموسيقية، فيلقى تجاوباً لا بأس به. * «بطل» آخر من أبطال التاريخ أطل برأسه هذا العام وإن في شكل بدا أكثر تكتّما مما كان يمكن توقّعه: فنسنت فان غوغ. فرسام نهايات القرن التاسع عشر هذا، والذي نعرف أنه من فنشنتي مينيللي إلى موريس بيالا لم يبخل علينا السينمائيون الكبار بأفلام تمجّد حياته البائسة وفنه العظيم، كان هذا العام ومن جديد موضوعاً سينمائياً. لكن الفيلم الذي أعاده إلى الواجهة وعنوانه «المحب فنسنت» في اقتباس من العبارة التي كان يوقّع بها رسائله الشهيرة إلى أخيه ثيو، أتى فيلماً بالرسوم المتحركة ما يفسر عدم تحقيقه النجاح المفترض. بل هو صُوّر بنوع خاص جداً، وبديع إلى درجة الإدهاش جداً جداً، من تلك الرسوم حيث أن موضوعه يتمحور حول ابن واحد من الذين رسم فان غوغ بورتريهات لهم، يقوم بعد انتحار الفنان بتحقيق بوليسي حول ذلك الانتحار... وقد لا يكون هذا جديداً لا في الأدب ولا في السينما، لكن الجديد هو أن الرسوم المتحركة التي تشكل مجرى الفيلم تنطلق دائماً من لوحات فان غوغ في توليف رائع اشتغل عليه نحو مئة وستين رساماً أتوا من جميع أنحاء العالم ليحققوا عملاً فريداً من نوعه في تاريخ السينما، عملاً نرى فيه لوحات فان غوغ تتحرك وتتكلم وتتصادم في شكل أخّاذ. * من ناحيتها عادت كاترين بيغلو، طليقة جيمس كاميرون والتي سبق أن قدمت خلال الأعوام القليلة الفائتة، ما لا يقل عن عملين سينمائيين كبيرين يهتمان بقضايا الشرق الأوسط: «خزانة الأسى» و «منتصف الليل المظلم»، لتكون بهما أنجح المخرجات الأميركيات والمرأة الوحيدة الفائزة بالأوسكار حتى الآن كمخرجة، إضافة إلى السجالات الصاخبة التي أثارها استباقها حكاية القبض على بن لادن وقتله في فيلمها الثاني. بيغلو عادت هذا العام إلى القضايا الشائكة لتقدم في «ديترويت» الذي حقق نجاحات تجارية لا بأس بها، عملاً عن العنصرية ضد السود في تلك المدينة ربما يعيدها إلى أوسكارات هذا العام، بعدما أسال حبراً كثيراً في الولاياتالمتحدة، لتثبت فيه هذه المخرجة مهارة ليس فقط في اختيار المواضيع، بل كذلك في اعتماد لغة سينمائية كلاسيكية لا تتطلع عبرها، بالتأكيد إلى أن يُثنى عليها كصاحبة سينما نسوية! رباعي عربي من ذهب * وعلى ذكر الأوسكار، لا بد من التوقف هنا عند الفيلم اللبناني الذي كان من أبرز ما حققته السينما العربية هذا العام، ونعني به طبعاً فيلم زياد الدويري الرابع «الإهانة» والذي قُدّم في لبنان بعنوان «ملف القضية 23». فهذا الفيلم الذي يبدو أنه حتى الآن الفيلم العربي الوحيد الذي سيخوض أوسكار أفضل فيلم أجنبي، حقق نجاحات كبيرة ولكن كذلك سجالات لا شك في أنها ساهمت في بعض الإقبال عليه، من جانب أصحاب قبضات مرفوعة وعقول ضيقة بدأوا بمهاجمة الفيلم قبل أن يروه. مهما يكن، فإن سجالات أخرى ساهمت في النجاح التجاري للفيلم تتعلق بموضوعه المتمحور من حول «خناقة» تنشب بين فلسطيني ومسيحي لبناني وتصل إلى المحاكم. فالفيلم الذي حرص مخرجه على أن يستخدم ميزان جوهرجي ليعالج فيه الصراع بين اللبناني والفلسطيني لم يعجب الطرفين، حيث اعتبره كل منهما ممالئاً للطرف الآخر. فهل يمكن لموضوعية ما أن تحلم بأكثر من هذا؟ مهما يكن، تميّزت سينما زياد الدويري في هذا الفيلم، ذي السيناريو البديع، لمرة نادرة في تاريخ السينما اللبنانية، بقوة في اللغة وباهتمام، نادر هو الآخر، بافتتاح المشاهد وتقديم الشخصيات. * مثل هذا يمكن قوله عن فيلم عربي آخر من أفلام هذا العام، مصري هذه المرة وينتمي إلى ما يسمى- ولسنا ندري لماذا!- «السينما المستقلة»، وهو إلى جانب «آخر أيام المدينة» لتامر السعيد، الذي سنتناوله بعد سطور، واحد من أجمل الأفلام المصرية التي حُققت منذ سنوات طويلة، على رغم أنه- أو يجدر بنا أن نقول: لأنه؟- العمل الأول لمخرجه محمد حماد. «أخضر يابس» وهو الفيلم الذي نتحدث عنه هنا، ولا ريب أنه يستحق أن نعود إليه مرات ومرات، فيلم يخوض السينما مواجهة بلغة أقل ما يقال عنها أنها أنتي- تلفزيونية، أي لغة سينمائية خالصة ومن حول موضوع من الصعب افتراض أنه يمكن لتلفزيوناتنا، في وضعها الراهن، أن تدنو منه. فبجرأة اجتماعية معطوفة على حساسية نسوية عالية وبحوارات هادئة تدور على إيقاع لم يعد من الممكن العثور عليه وسط الصخب الذي يميز كل أنواع السينما العربية اليوم، وفي اختصار خطابي يصفي اللغة من كل زوائدها، يدنو المخرج الشاب الآتي إلى السينما من سينيفيلية معلنة، من موضوع العنوسة والتفكك العائلي والإذعان لعيش بات من الضروري سحبه من الأوهام القديمة وتزجيته كما يتيسر، وذلك من خلال أختين تعيشان عيش الكفاف وقد تُركتا لمصيرهما، فتهتم الكبرى بقرب زفاف أختها وتدبير كل ما يلزم كي يكون العرس معتبراً، بما في ذلك تدبير قريب ليكون ثمة ذكر يحضر العرس كعائلة لا بد منها إلى جانبهما... لن نروي هنا هذه الحكاية لمجرد أن محمد حماد قدّم لنا فيلماً لا يُروى بل يشاهَد، فيلماً بصرياً ينمّ عن نضوج سينمائي لا يضاهى. * ... بل بالأحرى لا يضاهيه في السينما المصرية، وربما العربية ككل في الآونة الأخيرة، سوى فيلم أول آخر لمخرج شاب آخر ينتمي كذلك إلى ما يسمّى «السينما المستقلة» في مصر: «آخر أيام المدينة» لتامر السعيد. فنحن هنا أمام عمل سينمائي مصري مدهش أيضاً يسود فيه اقتصاد في الحوار يترك المجال واسعاً للغة البصرية تسود معلنة عن نزعة سينمائية جديدة كنا نتمناها منذ زمن بعيد، تخلص السينما العربية من تراكمات اللغات المسرحية والأدبية. وإذا كان محمد حماد في «أخضر يابس» قد كرّس لغته البصرية المتقشفة والرزينة لفتاتين وحكايتهما العادية جداً بعد كل شيء، فإن تامر السعيد كرّس لغته البصرية الثرية والمنفلشة هذه المرة، لصورة عن المدينة، القاهرة تحديداً، في لحظة يُفترض أنها لحظة احتضار لها، لكن كذلك لأم الشخصية المحورية في الفيلم، شخصية تمثل الأنا/ الآخر للمخرج- الكاتب نفسه، والذي يعيش فيلمه الذاتي هذا منذ ما لا يقل عن عشر سنوات، أي منذ أدرك أن مدينته تموت بالتوازي مع شيخوخة أمه ثم موتها. في «آخر أيام المدينة» الذي يمكننا اعتباره أجمل وأقسى فيلم عربي شاهدناه منذ سنوات طويلة، ليس ثمة شك في أننا أمام قصيدة شاعرية استثنائية، كان يمكن مع بعض الاختصارات وربما توحيد نهاية الفيلم أن نقول: لقد وصل الشعر الحقيقي أخيراً إلى السينما الحقيقية! * نوع آخر من الشعر قد يبدو أقرب إلى زجليات التروبادور الجوالين التي تستبدل حزن الشعر وشجنه بمرح المواقف على طريقة المقامات العربية القديمة، قد يكون في إمكاننا أن نجده في فيلم مصري ثالث يبدو لنا متميّزاً هذا العام وإن كان يتسم بكلاسيكية تفرّقه عن الفيلمين المصريين السابق ذكرهما. ونتحدث هنا عن «علي معزة وإبراهيم»، وهو بدوره فيلم روائي طويل أول لمخرجه الذي بات على أي حال «مخضرما» في مجال السينما القصيرة ويعتبر أحد أبرز المساهمين في السينما الجديدة في مصر اليوم وإن كانت سينماه أقل استقلالية وأكثر اعتماداً على الممثلين المحترفين من سابقيْه. في هذا الفيلم قدم شريف البنداري عملاً طريفاً تجديدياً في فكرته إن لم يكن في أجوائه، ويحاول بقوة أن يكون فيلم طريق. لكن الأساس ليس هنا، بل في تلك «الواقعية السحرية» التي حاولت بعض أجواء الفيلم إضفاءها عليه من خلال تلك العلاقة، الملتبسة على أي حال، المنبنية بين أحد بطلي فيلمه والمعزة ندى التي لا يبدو مستعداً لمفارقتها رغم اشمئزاز رفيق رحلته الموسيقي الذي يخوض معه رحلة البحث، ربما عن الذات، في مساحة من مصر ربما يصح القول إن السينما لم تلتفت إليها من قبل. بل يمكن القول حتى، أن الحارة ذاتها التي ينطلق منها الشابان في رحلتهما ندر أن صورتها السينما المصرية بهذه الألفة والجمال من قبل. مثلما فعل زميلاه حماد والسعيد، من الواضح أن البنداري نجح في رهانه ليقدم للسينما المصرية جرعة شبابية جديدة تحقق لهذه السينما تجديداً كانت بدايات إبراهيم البطوط وأحمد عبدالله ومن قبلهما كاملة أبو ذكري وهالة خليل ثم هالة لطفي، وغيرهم قد وعدتنا به. فهل يحق لنا أن نقول إن السينما المصرية الجديدة وصلت هذا العام ومع أفلام أولى لمخرجيها إلى سن الرشد؟ عودة شيامالان وغضب إيراني * سن الرشد هي على أي حال ما كان المخرج الهندي المقيم والعامل في أميركا، نايت شياملان قد وصل إليه في ثلاثة أو أربعة من أفلامه الأولى التي كانت قد دفعت النقاد يومها إلى التساؤل عما إذا لم يكن قد ولد مع سينما هذا السينيفيلي المدهش مزيج من ألفريد هيتشكوك وستيفن سبيلبرغ، غير أن شيامالان سرعان ما تراجع عن قوة نجاحاته الأولى، ليغيب في وهدة النسيان بالتدريج حتى طغى اليأس على محبي سينماه من أي عودة محتملة له. لكن المفاجأة أتت هذا العام من فيلمه الجديد «قسمة» الذي أجمع النقاد على أنه قد أعاد صاحبه إلى واجهة الحياة السينمائية معيداً الارتباط على الأقل بفيلمين من أعماله الأولى الناجحة، «لا ينكسر» و «القرية». في جميع الأحوال، لا شك في أن عودة شيامالان هذه تشكل واحدة من الأخبار الطيبة للسينما الأميركية في عام تبدو فيه نتاجاتها الجيدة غائبة أو أكثر أوروبية مما يجب. * يبقى أخيراً لدينا من الحصاد المميّز حقا لهذا العام فيلم واحد أخير أتت أحداث الانتفاضة الإيرانية الشعبية ضد الفقر والفساد، لتعطيه أهمية مضاعفة، هو الذي كانت له في حد ذاته أهميته بوصفه الفيلم الإيراني الأكثر جرأة في حديثه عن الفساد المستشري في إيران وتحت سلطة الملالي الذين يحكمونها منذ أكثر من ثلث قرن تدهورت فيه أحوال هذا البلد وتحول الحاكمون وبطانتهم ما يشبه عصابات المافيا، وهذا على الأقل ما يؤكده ويصوره فيلم «رجل شريف» لمحمد رسول أف الذي يقاضَى حالياً في طهران بسبب فيلمه هذا والذي عُرض في الدورة الأخيرة لمهرجان كان، حيث نال جائزة تظاهرة «نظرة ما»، وبهذا حقق فيلم مغضوب عليه لمخرج مغضوب عليه، حضوراً جيداً للسينما الإيرانية في العالم، بعد عام ونيّف من رحيل عباس كيارستمي وفي عام غابت فيه سينما أصغر فرهادي وجعفر باناهي وغيرهما من الذين كانوا قد اعتادوا تأمين حضور السينما الإيرانية في العالم.