في الحرب العالمية الثانية ابتكرت نجمة هوليوود النمساوية هيدي لامار نظام اتصالات لاسلكياً مكّن قطع البحرية الأميركية من توجيه طوربيداتها الى أهدافها بآلية يصعب رصدها من قبل العدو. لكن هذا النظام الذي اعتبر حينئذ "سرياً" وشكل لاحقاً حافزاً مغرياً لآلاف المبتكرات والتطبيقات في عالم الاتصالات الحديثة، من بينها تقنية الهاتف الجوال، لم يحقق لمبتكرته وحاملة براءة اختراعه عوائد مادية إلى أن قرر باحثان كنديان يتحدران من أصل عربي تصحيح خطأ شائع في عالم الأعمال. والباحثان هما حاتم زغلول الذي يحمل الدكتوراه في علوم الكهرباء المغناطيسية وميشال فتوش أستاذ علوم الهندسة الكهربائية والكومبيوتر في جامعة كالغاري، وكل منهما شخصية مرموقة في أوساط أبحاث الاتصالات بعدما حصلا على اجازة في العلوم من جامعة القاهرة أو عين شمس أو كلتيهما معاً قبل أن يهاجرا الى كندا مطلع الثمانينات ويستقرا في مدينة كالغاري في مقاطعة البرتا الكندية. الا أن الاعتراف بفضل النجمة الهوليوودية التي لا تزال على قيد الحياة لم يكن مجرد لفتة كريمة. اذ ينفرد الباحثان برصيد قوي من الانجازات التي يمكن أن يدعمها تملك الحقوق الاعلانية لبراءة أحد أهم الاختراعات السرية في مجال الاتصالات اللاسلكية، خصوصاً أن هذه الانجازات قامت على تصور عملي سعى الى دمج خصائص تكنولوجيا الاتصالات اللاسلكية وتقنيات نقل المعلومات لتطوير منتجات تخدم واحدة من أهم الصناعات الحديثة وهي انترنت. وتعترف أوساط البحث الكندية بتميز الانجازات التي حققها زغلول كباحث ورجل أعمال وفتوش كباحث وأكاديمي أصاب النجاح ولكنه يشعر بالامتنان العميق لموطنه الأصلي. اذ قال ل"الحياة" ملخصاً البدايات: "لحين بدأت دراساتي العليا في جامعة تورونتو انتابني بعض القلق ازاء المؤهلات الأكاديمية التي جئت بها الى كندا ولكنني اكتشفت بسرعة أنني كنت على خطأ شديد". ولتسويق منتجات أبحاثهما المشتركة أسس الباحثان شركة خاصة في كالغاري باسم "واي - لان" ورأس زغلول الشركة وادارتها التنفيذية لكنها بقيت مغمورة لفترة من الزمن ولم تجد رواجاً مهماً إلا بعد ادراج أسهمها في بورصة تورونتو منتصف تشرين الأول اكتوبر الماضي وصدور مؤشرات عن مدى اهتمام عمالقة صناعة الاتصالات في أميركا الشمالية، وفي مقدمها "سيسكو سيستمز"، بتقنية نقل المعلومات لاسلكياً بسرعة واستطاعة عاليتين وكلفة زهيدة. وخلال شهر واحد من ادراجها في بورصة تورونتو ارتفعت أسهم الشركة بنسبة تقترب من 300 في المئة اذ قفزت من نحو 11.40 دولار أميركي للسهم في منتصف تشرين الأول الى 35.50 دولار في نهاية الشهر التالي، وتراجعت أسعارها بشكل طفيف الى 34.20 دولار بداية الشهر الجاري. لكنها بقيت محتفظة بمستوى يناهز سعرها الأسمي الذي لم يزد على مبلغ 1.65 دولار للسهم بنحو عشرين ضعفاً. وتحقق للشركة هذا الأداء القوي على صعيد قيمتها السوقية على رغم أنها لم تحقق أرباحاً في عامها المالي الفائت 1998 إذ بلغت قيمة مبيعاتها نحو 3.9 مليون دولار فيما تجاوز صافي خسائرها مبلغ أربعة ملايين دولار، كما أنها تتوقع أن تبلغ خسائرها في العام المالي الجاري نحو 1.3 مليون دولار، ما دفع بعض المراقبين الى ارجاع أداء الأسهم الى ثقة أسواق المال التقليدية بتقنيات انترنت ولا سيما ما يستجيب منها لحاجة المتصفح الى السرعات والاستطاعات العالية. لكن المراقبين يعتقدون أيضا أن شركة "واي-لان" تمتلك المنتجات المناسبة ليس فقط لجهة الأداء والكلفة بل أيضا لجهة تلبية احتياجات سوق تتوسع بمعدلات عالية، لا سيما في أميركا الشمالية التي تعتبر أكبر الأسواق المستهلكة لخدمات انترنت والتي يتوقع أن تشهد في السنوات الخمس المقبلة اقبالاً نشطاً على الحلول المبتكرة لتعميق تجربة التصفح بكلفة زهيدة ومن بينها الأنظمة اللاسلكية لنقل المعلومات. وتضم حقيبة منتجات الشركة ثلاثة أجيال من الأنظمة اللاسلكية أهمها حتى وقت قريب جهاز يوفر خدمة انترنت بسرعة تراوح بين 1.2 و 2 ميغابت/ثا، ما يعادل 50 ضعف السرعة التي تتيحها المودمات التجارية ذات السرعة 33.6 كيلوبت/ثا. ويغطي هذا الجهاز الذي يحمل اسم "هوبر بلاس" دائرة نصف قطرها 12 كيلومتراً ويعمل ضمن موجات تراوح ذبذباتها بين 902 و 928 ميغاهيرتز وهناك نموذج يعمل بذبذبة 2.4 غيغاهيرتز. وركزت "واي-لان" اهتمامها منذ البداية على تصنيع أجهزتها وبيعها للمستهلك عبر سلسلة من الوكالات التجارية أو بواسطة عقد صفقات مباشرة مع الجامعات والخدمات الصحية والمؤسسات المالية وشركات الاتصالات كالصفقة التي عقدتها أخيراً مع شركة "غلوبال كاست" التابعة لشركة "تيليا" السويدية بقيمة 36 مليون دولار وصفقتها المبدئية مع شركة التلفزيون البريطانية Tele2 UK المتوقع أن تراوح قيمتها بين 50 و100 مليون دولار. وأشار زغلول ل"الحياة" في اتصال هاتفي من مقر الشركة في كالغاري أن نشاطات تسويق "هوبر بلاس" شملت أسواقاً عدة في الشرق الأوسط من بينها مصر والسعودية والكويت وتضمنت اقامة مشاريع في السعودية بشكل خاص حيث يتم التسويق عن طريق واحدة من كبريات شركات الاستشارات السعودية الناشطة في مجال انترنت وخدماتها. وأضاف: "من البديهي أننا وضعنا احتياجات بلداننا العربية في مخيلتنا ونحن منهمكون في أبحاثنا وتطوير منتجاتنا". ولفت فتوش الذي لا يشارك في ادارة "واي-لان" ولكنه شريك في الأبحاث ويمتلك حصة من أسهم الشركة الى أن "هوبر بلاس" يمثل تطوراً مهماً في أبحاثهما وقال: "بدأنا أبحاثنا في نهاية الثمانينات وجاءت باكورة منتجاتنا عام 1989 على شكل مودم لاسلكي بسرعة منخفضة ومدى طويل ثم تمكنا من تطوير أبحاثنا لانتاج جيل ثان، وهو جهاز هوبر بلاس الذي طرح في الأسواق عام 1997 ويمتاز عن الجهاز الأول بسرعته العالية". الا أن تطوراً دراماتيكياً حدث في أعمال زغلول وفتوش حين انتجا أخيراً نظاماً أطلقا عليه اسم الدائرة المحلية المغلقة I.Will وهو قادر على نقل المعلومات بسرعة 30 ميغابت/ثا. وامتاز النظام الجديد عن سابقيه ليس فقط بسرعته العالية بل أيضا باستخدام تقنية كان الباحثان طوراها وضمنا حقوقها الحصرية بموجب طلب تقدما به الى الجهات المختصة عام 1992 تحت اسم W.O W.OFDM-Wiede-band Orthogonal Frequency-division Multiplexing وتصاعد التطور الدراماتيكي مع اعلان "سيسكو سيستمز" بداية الشهر الماضي تشكيل كونسورتيوم لتطوير منتجات لاسلكية لنقل المعلومات باستخدام تقنية تشابه التقنية المسجلة لشركة "واي-لان" وتعرف باسم V.OFDM ويعتقد فتوش أن خطة الكونسورتيوم تشكل تعدياً على حقوق "واي-لان" ويرى أن تنفيذ هذه الخطة يوجب على الكونسورتيوم إما الحصول على ترخيص من الشركة أو شراء براءة اختراعها. وامتنعت "سيسكو سيستمز" عن التعليق على مسألة التعدي على براءة الاختراع لكن زغلول أشار الى أنه نقل مخاوفه في هذا الشأن الى الشركة المذكورة التي قالت في ردها أنها لا تعتقد أن خطتها تشكل تعديا على حقوق شركة "واي-لان". ودعت "واي-لان" عدداً من الشركات الناشطة في تقنيات الاتصالات اللاسلكية لعقد لقاء في سانتا كلارا كاليفورنيا في الاسبوع الأول من الشهر الجاري على أن تستضيفه بالتضامن مع شريكتها شركة "فيليبس اليكترونيكس" التي سبق أن منحتها "واي-لان" ترخيصاً لتحميل تقنيتها على رقاقات يجري تطويرها لاستخدامها في أجهزة لاسلكية لنقل المعلومات ويتوقع أن يحضر اللقاء بعض أعضاء الكونسورتيوم الذي دعت سيسكو الى تشكيله. ووصف زغلول اللقاء بأنه: "خطوة مهمة الى الأمام بالنسبة لشركة صغيرة مثل واي-لان ومصادقة على أننا اخترنا التقنية المناسبة". ولاحظ في الوقت نفسه أن اللقاء ليس محاولة للاستقطاب بل بادرة "سلمية". واختلف المراقبون في تقويم ما سيحدث في الأسابيع المقبلة لكنهم اتفقوا على أن "واي-لان" خرجت من دائرة الشركات الصغيرة وباتت مؤهلة للاستفادة من امكانات سوق الأنظمة اللاسلكية التي توقعت مؤسسة "كاهنرز إنستات غروب" أن تشهد انتعاشاً قوياً في المستقبل المنظور اذ يرحج أن يقفز عدد مستخدمي هذه الأنظمة من 2.3 مليون شخص السنة الجارية الى 23 مليون مستخدم بحلول سنة 2003 حيث ستشكل نسبة 20 في المئة من الشبكات الداخلية لنحو 200 ألف شركة في الولاياتالمتحدة وحدها.