بعد ان وافق زعماء الأحزاب الاشتراكية على مسودة "اعلان باريس" التي ترسم استراتيجية حركة الاشتراكية الدولية في مجابهة تحديات العولمة في القرن الواحد والعشرين، شهدت احدى اجمل القاعات في العالم في قصر فيكيو التاريخي العريق بمدينة فلورنسا، عاصمة عصر النهضة الايطالية، قمة مصغرة استمرت اكثر من ساعتين تحت شعار "الاقتصاد الجديد: المساواة والفرص" شارك فيها كل من الرئيس الاميركي بيل كلينتون عن الحزب الديموقراطي ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير، ورئيس الوزراء الايطالي ماسيمو داليما، ورئيس الوزراء الفرنسي ليونيل جوسبان، والمستشار الألماني غيرهارد شرودر. اما العالم النامي فقد مثله الرئيس البرازيلي فيرناندو كاردوزو. ومؤتمر فلورنسا المصغر الذي يراد منه "أممية" جديدة هو في الواقع حلقة في سلسلة الندوات الموسعة التي عقدت في نيويورك في أيلول سبتمبر وستعقد الندوة القادمة في العام القادم في مدينة لندن. وهو يأتي تلبية لدعوة من المعهد الجامعي الأوروبي وجامعة نيويورك، لمساعدة احزاب اليسار على بلورة مدخل ايديولوجي جديد على ضوء الحاجة الى التجديد الايديولوجي وسط احزاب الاشتراكيين وغيرهم من احزاب اليسار الديموقراطي اثر تقويض وانهيار الاتحاد السوفياتي السابق والعديد من الصيغ الاشتراكية التقليدية. خلال تلك الساعتين من الندوة استخلص الزعماء الستة اليساريون اهم المعابر التقدمية للقرن القادم، بعد ان وقفوا عند قضيتين رئيسيتين هما: صورة الاقتصاد الجديد ومسألة الفرص والمساواة، والديموقراطيات وقيمها وحقوقها في القرن المقبل. وقد تمت مناقشة القضية الأولى، حيث اكد المؤتمرون على حتمية اقامة تآلف بين سياسة النمو والعدالة الاجتماعية، وذلك في اطار المناخ الذي تسيطر عليه ضغوط وفرص العولمة. وفي ما يخص القضية الثانية، تمت مناقشة الاستراتيجيات المناسبة التي تسمح بإدارة المشاكل الأساسية في القرن الواحد والعشرين بأساليب وطرق ديموقراطية. بيد ان السؤال الجوهري المطروح الذي ابرزه الحوار، والذي لا يزال متصلاً، يدور حول الطريق الثالث: هل يشكل مجرد خط اصلاحي داخل المنظومة الرأسمالية، ومظهر من مظاهر قدرتها على التجديد وامتصاص التحولات الراهنة التي يشهدها العالم، ام هو في الحقيقة بحث عن هوية جديدة ونموذج حضاري اوروبي لليسار والاتجاهات التقدمية على ضوء معاناة اليسار الحالي من ازمة في تحديد طريقه لتحقيق التقدم والازدهار؟ التسميات لا تزال مختلفة حول "الخط الثالث" او "الوسط الجديد" و"اليسار الحديث" أو "الديموقراطي الايديولوجي الثالث" كما طرحه كلينتون. لكن الطرح الايطالي الذي لم يحظ بكبير اهتمام، يستحق بعض العناية تبعا للدور التاريخي الكبير لليسار في ايطاليا، ولكون الحزب الايطالي شيوعيا سابقا. فالايطاليون لديهم قناعة بضرورة تأقلم الاشتراكية الديموقراطية مع المناخات الجديدة التي تتضمن عولمة التجارة، وهم يدركون بأن سرعة التطورات الاقتصادية والتكنولوجية من شأنها فرض ضغوط على حزبهم الكبير الذي يواجه تحديات كبيرة يقف في مقدمتها الخيار بين الحفاظ على الترابط الاجتماعي التقليدي الذي تميز به الحزب الشيوعي الايطالي السابق او الحزب الديموقراطي اليساري الحالي، وبين ضرورة التحول الى مجتمع المعلومات الذي يعني في ابرز جوانبه تبني سياسة الحرية الاقتصادية التامة. وهذا الموقف الاخير يعني تعدد مراكز اتخاذ القرار، وضعف المركزية الحكومية، وتزايد حركة رأس المال على حساب العمل، وتزايد المنافسة بين النظم الاجتماعية، وتزايد قوة وسطوة حملة الاسهم في تسيير اقتصاديات الدولة. ويصفه نقاده بانه يؤدي، في النهاية، الى خلق حالة عدم التوازن الاجتماعي في نظام التوزيع، مثل التأمين الصحي، ونظام الاعانات الاجتماعية، والبطالة، الى الحد الذي قد ينذر بهيمنة المساهمين ليضعوا أنفسهم محل ديكتاتورية الطبقة العاملة. وهنالك اليوم من يؤكد، في المقابل، على ان "الطريق الثالث" هو الطرق الوحيد لتقدم الديموقراطية الاشتراكية الى الأمام في مواجهة تحديات العولمة عبر مواكبتها. فلقد انتهت اصولية السوق الحرة، ولم يعد في مقدور احدٍ الارتداد، لأن هذا الطريق هو محاولة الديموقراطية الاشتراكية تحديث نفسها على ضوء التغيرات والتأثيرات المهيمنة على حياة الشعوب الأوروبية والمتمثلة في العولمة، بما يعني زيادة وتكثيف المنافسة الاقتصادية العالمية. ان جوهر فكرة الطريق الثالث يقوم على عملية تحديث عميقة لمؤسسات المجتمع الكبرى، وهذا يعني، حسب وجهة نظر المؤيدين، تقليص السلطة المركزية لصالح السلطات المحلية، ولصالح المسؤولية الشخصية، الى جانب الروح الجماعية والرعاية لبرامج التوظيف والاستثمار في التعليم وتحفيز الابداع لأجل تخفيض عبء الضرائب على المشاريع والاستثمارات الكبيرة. كما ان الدولة يمكنها تولي مهمة الاشراف والتوجيه العام من دون ان تكون المحرك والمنفذ المباشر. ويؤكد هؤلاء على ان توفير خدمات عامة بمستوى لائق هو همّ اساسي من هموم الديموقراطيين الاشتراكيين. ذلك ان "الوعي الاجتماعي لا يمكن قياسه بمقدار الانفاق العام" ولكن بمقدار الفعالية الناتجة عن ذلك الانفاق. كما يطالب هؤلاء باعادة النظر التقليدية في ارتباط هذه الاحزاب بالطبقة العاملة واعتماد سياسة تمتد جذورها الى سواد الناس خصوصاً الطبقة الوسطى الناشئة. يبقى ان نقول ان الطريق الثالث الذي يراد جعله العمود الفقري للسياسة الاجتماعية الاقتصادية والسياسية لهذه الاحزاب التي تطمح الى قيادة أوروبا في القرن الحادي والعشرين، يبقى مشروعاً مركزياً في ارجاء القارة، وان التشديد والثقة بصوابية هذا النهج لا يعفيان من كونه قادرا للاتساع لكل شيء ولا شيء في الوقت نفسه. فهو يبدو في احيان كثيرة مجرد عبارة طنانة تتعمد اعطاء وزن فكري للانجراف نحو اليمين، ومن جهة اخرى يبدو وكأنه حقاً ثورة جديدة تتعرض للديموقراطية البرلمانية ولمسايرة التغيرات ومجاراة العصر وإيجاد فلسفة مغايرة تكون قادرة على التعامل بمنطق الاستقطاب الثنائي الذي ميّز الفكر الغربي منذ عصر النهضة، وإيجاد الحل الوسط الذي يكون قادراً على التعامل مع المتناقضات.