أحد الملامح الأساسية للروح الحديثة يتمثل في القدرة على حفز الناس للاهتمام بما يجري في عالمهم، ومحاولة التأثير فيه باتجاه السياقات التي يرغبون فيها، بديلاً من انتظار ما سيجري في العالم الآخر، حيث لا دور للبشر هنا سوى الانتظار الساكن لما تأتي به الأقدار. إنها النزعة الدنيوية التي استبطنت جل فلسفات الحداثة، وإن اتخذت طابعاً مادياً راديكالياً في بعضها، وروحانياً معتدلاً في بعضها الآخر، فجميعها اتفق على ضرورة استيلاد الإنسان من جديد، وبالأحرى إعادة اكتشافه بوصفه قطباً ثانياً للوجود، يسعى إلى تكريس حضوره في مواجهة الحضور الطاغي لله، قطب الوجود الأول. في هذا السياق وافق هيغل ضمنياً على صورة الإله المسيحي المؤنسن، أي المتعالي الذي قرر الهبوط إلى الأرض، والحلول في يسوع المسيح لتحقيق مهمة سامية. غير أن هذا الإله لدى هيغل، حمل مسمى (العقل الكلي) أو (الروح العالمية)، تلك التي لا تحقق كل إمكاناتها إلا عبر اندراجها الكامل في ظروف مكانية وزمانية معينة، على ما تفرضه تلك الظروف من حدود وقيود. ففي عمله الأثير «ظاهريات الروح»، نجد أن الروح الكلي يجد أقصى درجات تحققه فقط في عقل الإنسان، ومن ثم تعين على هذا الإنسان أن يتخلى عن فكرة الإله المتعالي بإطلاق، والإنسان الدوني بإطلاق، وأن يتصرف على أنه هو الآخر ينطوي على بعد رباني، ومن ثم يصبح قادراً على اتخاذ المبادرة الصحيحة، والفعل الإيجابي إزاء حياته ومصيره هنا على الأرض، وليس في الملكوت السماوي. ما قصد إليه هيغل، وإن عبر منظومته المفاهيمية الخاصة جداً، هو ما كان روسو قال به سلفاً وهو قابلية الإنسان للكمال. لا يعني روسو هنا ذلك الكمال الإلهي بالطبع، الذي يعني كمال الذات والصفات، أو لا تناهي القدرة والمعرفة، بل فقط قدرة الإنسان على ترقية ذاته بالتعلم، والتربية المستمرين، خلاصاً من وصمة الخطيئة الأولى التي طبعت تاريخ المسيحية، خصوصاً الكاثوليكية. فالأمر لديهما معاً، هيغل وروسو، إنما يتعلق بقدرة الإنسان المنفردة على تحقيق الخلاص من دون رعاية الكهنوت، على ذلك النحو الذي صبغ تاريخ المسيحية، وصنع روحانية العصور الوسطى الأوروبية، التي تمحورت على الركود والسلبية والعجز. أطلق الإصلاح البروتستانتي في الوعي الأوروبي نزعة فردية عميقة أخذت في الإجهاز على الروح الجمعية الموروثة، حيث تعين على المؤمن المسيحي الآخذ بمذهب الإصلاح أن يقف وحده أمام الله، من دون سند سوى الكتاب المقدس، بعيداً من سلطة الكهنوت، وأساليب التفسير المعهودة والمقننة بمقولات الباباوات السابقين، وكبار القديسيين، الأمر الذي أدى إلى بروز إيمان فردي باتت معه الحقيقة الدينية مسألة ذاتية بصورة متزايدة، تعتمد على قرائح وأذواق الناس المختلفين في القراءة والتفسير، الأمر الذي سمح بتدشين النقد الرفيع للكتاب المقدس، وأدخل العقل والتاريخ إلى فلك النص. كما أدى الإصلاح البروتستانتي إلى حفز الكنيسة الكاثوليكية لإصلاح نفسها على نحو ما تجسَّد في قرارات مجمع (لا ترانت)، التي جددت مرتكزات الكاثوليكية في فرنسا وإيطاليا، وأدت إلى بروز الكنيسة الإنغليكانية في إنكلترا، الأمر الذي انتهى بتكريس ثنائية العقلانية والفردية في ثنايا الوعي الغربي الحديث، لا على أنقاض الدين كما يتم الترويج الساذج، ولكن على أنقاض إدراكه الخرافي، وفهمه المتعصب. وهكذا تراجعت التصورات التقليدية المهيمنة حول الإنسان العاجز والقاصر، المنتظر داخل كهف، المحكوم بحركة الكواكب والنجوم. وفي المقابل ولدت تصورات عن إنسان جديد فاعل، خلاق، مبادر، لم تعد أقداره خاضعة لحركة النجوم والكواكب كما كرَّس التقليد البابلي القديم/ وجاوبته معظم التقاليد في أنحاء العالم القديم الأربعة، كي ينطلق إلى أبعد الآفاق، وبسرعات تتنامى وقدراته على تطوير ممكناته، نحو كل الآفاق التي يرغبها الآن، أو يطمح إليها في المستقبل. لقد أعتقته النزعة الفردية المحايثة للروحانية الحديثة من وطأة ما سماه الفيلسوف الفرنسي برجسون، ب (الدين الساكن) وحررته من (الزهد في العالم)، حيث يكون المؤمن مجرد ذرة في التيار الدافق لحركة العالم، مغترباً عنه، وإن ادعى السمو عليه من منطق الضعف إزاءه، فلا يعدو حينئذ أن يكون علامة على نمط عيش مهجور في الواقع، أو رمزاً يشير إلى عصر بائد، وذلك على منوال (البوذي التقليدي، والمسيحي القروسطوي، والمسلم الدرويش). وإن كنا نتحفظ عن مقولة الدين الساكن بإطلاق، في مقابل الدين الدينامي بإطلاق. فثمة أديان تميل إلى السكون (كالمسيحية والبوذية) ولكنها عرفت مراحل تاريخية وتحولات كبيرة وظواهر عديدة اتسمت بالدينامية. وثمة، في المقابل، أديان ذات طابع دينامي بالأساس (كاليهودية والإسلام) ولكنها عرفت ظواهر زهدية ومراحل مغتربة اقتربت بها أحياناً من حالة السكون. وفي المقابل أزاحت الروح الحديثة الإنسان نفسه إلى فلك (الزهد داخل العالم)، حيث المؤمن شخص فاعل في العالم، لم يفقد اهتمامه بعالمه، بل فقط أعاد توزيع اقتصاديات جهده الإنساني بين ما هو جوهري/ أخلاقي في هذا العالم، وبين ما هو ظاهري/ انتهازي، مركزاً على الأول، نافراً من الثاني. وهكذا يصير المؤمن هو ذلك الإنسان الحر، الذي يحمل على عاتقه ثقل العالم بأكمله، باعتباره مسؤولاً أخلاقياً عنه... لم يتحول إلى مجرد ذرة في خضمه، يفتقد الحضور والتأثير والفعالية، ولم يصبح مترعاً بدنيويته، بل يبقى متسامياً فيه، لدرجة تمكنه من الشهود عليه. ولعل الفارق بين هذين المفهومين (الزهد في العالم)، و(الزهد داخل العالم) هو نفسه الفارق بين مفهومين مغايرين للوجود ترسم معالمهما الفلسفة الوجودية، كأعتى فلسفة إنسانية في الدفاع عن الذات الفردية. أولهما مفهوم (الدازين) لدى هايدغر، حيث الإنسان هو (الموجود – هناك)، الذي ألقى به في العالم، يعاني الإغتراب والقلق جراء ما يمكن أن يصير عليه. وثانيهما مفهوم (الوجود لأجل ذاته) حيث تمكن الإنسان من امتلاك وجوده الذاتي، بتوقفه عن الإنصات إلى الناس وثرثرتهم، ومحاولة إنتاج وعيه الخاص، ضمن صيرورة دائمة للتعلم يسميها هايدغر ب (التصميم). هذا التصميم هو الحرية التي تخلص (الموجود - هناك) من سطوة الناس، حيث الحرية الإنسانية قيمة تعلو على الأشياء والموجودات لتصير بحق جوهراً للوجود، فماهية الكائن الإنساني معلَّقة بحريته، ومن المستحيل تمييز الحرية كنشاط إرادي، عن الإنسان ككائن واقعي. ولكنها في المقابل لا تخلصه من سطوة العالم، خصوصاً من العدم الذي يدفع به نحو الموت. في سياق تلك النزعة الإنسانية، اكتسب الفكر الحديث نزعة تقدمية، فلم يعد هناك، بحسب مرسيا إليادة، زمناً مقدساً يرتبط بلحظة بداية العالم وخلق الإنسان، يتوجب دوماً العودة إليه، باعتباره الزمن الإلهي، لأن كل ابتعاد عنه ليس إلا تدهوراً في حياة الإنسان الكلية، وضموراً في بنيته الأخلاقية، وسيراً على الطريق نحو الهاوية. وفي المقابل، صار هناك زمن إنساني (تاريخي) جديد، ينطلق من وقائع ويرصد أحوالاً، ويسير في اتجاهات يمكن للفرد التأثير الإيجابي فيها، كي يصل إلى مراده منها. ولا يعني ذلك أن الإنسان تخلى كلية عن محاولة استبطان معنى لحياته، يتجاوز أسر الوقائع اليومية، والحاجات الدنيوية وكأنه كائن بيولوجي محض، ولكنه تمكن من إعادة صوغ ذلك المعنى بمنحه أفقاً إنسانياً متسامياً سماه (التاريخ). ففي ذلك التاريخ الذي يرصد المسيرة الحضارية للبشرية يمكن المرء أن لا يذوب في وقائع حياته اليومية، وأن لا يظل منتظراً حالماً بتفاصيل الحياة الأبدية، وأن يحاول تحقيق مُثُله العليا على الأرض، حيث الرغبة في الخلود، دفعاً لخطر الفناء والذوبان في الخواء واللامعنى، هي الحافز والمحرك لأنبل السلوكيات الإنسانية، حينما يسعى الأفراد العظام من المفكرين والفلاسفة والعلماء والحكام إلى التضحية بالصحة والمتعة وربما الحياة نفسها في سبيل إعلاء ما يعتقدونه أهدافاً عظيمة، وغايات أخلاقية تحقق مصالح بلادهم وشعوبهم، أو تدفع بحركة البشرية كلها إلى الأمام على مضمار التقدم. لقد تراجع إذاً الفهم القديم (الدائري) للزمن، المفعم فقط بأحلام العود الأبدي إلى نقطة بداية مقدسة صارت معياراً يتحكم بالحضور الإنساني في العالم، وهي نقطة ليس ثمة طريق للتأثير فيها لا من قبل هذا الجيل ولا سابقه أو لاحقه، فكل ما يملكه الإنسان حيالها هو مجرد حنين بالعودة إليها، أو التوق إلى ملامستها في عالم متجاوز، وزمن قدسي سوف يعود من جديد، حيث الدائرة مغلقة، والحركة دائرية بين بداية ونهاية، لا سيطرة للإنسان عليهما. وفي المقابل ولد زمن جديد (خطي) مفعم بأحلام التقدم إلى الأمام، وبالثقة في قدرة الإنسان على تحسين أوضاعه الراهنة، ورعاية خططه المستقبلية التي تجعله دوماً في موقع أفضل بمرور الزمن. لقد انتقلت النقطة الموعودة من الماضي إلى المستقبل، وتم استبدال مشاعر الحنين إلى ما فات، بمشاعر التطلع إلى ما هو آتٍ، وأحاسيس الخوف من الجديد، إلى الإحساس بالتوق إلى الأكثر جدة، بأمل الوصول إلى الأفضل دائماً.