ظل طير السمرمر عاملاً أساسياً في مكافحة الجراد حتى القرن التاسع عشر في هذه المنطقة من العالم. وهو طائر شبه اسطوري، كان هنالك اعتقاد بأنه يطير أسراباً فوق الرسول الذي يأتي بالماء من نبع مرصود في بلاد فارس. وحين يصل الماء الى المناطق المحددة، تنقض أسراب السمرمر على الجراد وتفتك به لتنهي الخراب الذي جلبه يذكر البديري الحلاق في يومياته لحوادث دمشق عما حدث في عام 1746 ميلادية: "وفي جمادى الأولى من هذه السنة وصل الجراد للشام، وكان حولها له سنين مخيم، فنزل على بساتينها، فأجل حتى لم يبق ولم يذر، فأرسل حضرة الباشا رجلين من أهل الجزيرة من أهل الخبرة يأتونه بماء السمرمر". "... وبهذا اليوم، وهو يوم الاثنين رابع عشر رجب، جاء طير السمرمر، وطلعت لملاقاته المشايخ وأهل الطرق بالاعلام والمزاهر وطبول الباز، ودخلوا بموكب عظيم بكت فيه خلق كثير، وعلقوه بمنارة الشيخ الأكبر في الصالحية، وفي منارة تكية المرجة، وفي منارات الجامع الأموي، وأبقوا في السرايا قرب من ماء السمرمر، وذكروا أن مرادهم أن يعلقوها في أراضي حوران". في مثل ذلك العام كان فولتير قد قطع شوطاً كبيراً من حياته العملية، واستقر كأكاديمي وعالم تاريخ لدى لويس الخامس عشر، بعد طول حياة وانجازات ومغامرات وسجون في عهد لويس الرابع عشر، "الملك الشمس" الذي كرس فرنسا دولة موحدة ممركزة. لا يمكن ان يكون هذا الفارق المتجسد حتى الآن، نتاج افتراق في الحياة والانتاج والعلم والدولة، ابتدأ في القرن السابع عشر كما يقول بعض الخبراء. هو أعمق - ولا بد - في الزمان. يقسم بعض الباحثين التجربة العربية في العصر الحديث الى ثلاث حقب: حقبة النهضة - أو العصر الليبرالي، والثورة القومية - عبدالناصر، ثم الضياع والتدهور المستمر حتى الآن. ويؤكدون ان المنطلق الى هذه التجربة قد كان عصر انحطاط وانحدار. ويخالفهم في ذلك بعض آخر، مقتنع ايضاً بفساد الحال في العصر العثماني وحاجته للاصلاح، ولكنه غير مقتنع بأن المسألة ذات طبيعة بنوية وفي الجذور. يتحدث الياس مرقص في كتاباته - أحاديثه - الأخيرة عن هذا الموضوع، ويرجع الانحدار الذي ساد ما بين اعوام 1500 - 1800م الى تراجع عدد السكان وانكماش الزراعة وغياب الأمن ونمو المصادرة وسقوط العقل في علاقات الناس مع انغلاق وحداتهم الاجتماعية، والى الخوف والفقر... وخصوصاً إلغاء الملكية وانعدام التراكم، وكل ما هو ضروري للتقدم. ويهزأ بمن يريد ألا نسميهم مستعمرين، ويتمنى لو كانوا مستعمرين - من الاعمار - فعلاً. ويأخذ على برهان غليون مسارعته للرد كلما هوجم العثمانيون، وايضاً طريقة فهمه للاغلبية والشعب والديموقراطية ومفهوم الدولة. فالعثمانيون أس الانحطاط، والأغلبية ليست كبرى الطوائف، والشعب لا يوجد كما توجد الطاولة، والدولة هي دولة الكلي - العام لا دولة على نسق دال، يدول، دولة. ومن يريد ان يفهم الانحطاط، ما عليه الا العودة الى يوميات البديري الحلاق وابن اياس أو الجبرتي. وقد كانت فترة المرض الأخيرة لمرقص غنية بالانتاج السجالي، الذي انتج الكتاب الضخم "نقد العقلانية العربية" وضمنه - في 900 صفحة - ملاحظاته على مجمل المشاركين في ندوة تونس عام 1987 حول العقلانية. وناقشهم بحرارة ملفتة، كأنه يساجلهم وجهاً لوجه، ويستنطقهم للرد عليه - هل يفعلون؟! وبعد هذا، جاء حواره الشفوي المسجل، الذي أجراه جاد الكريم الجباعي وحرره ونشره مؤخراً تحت عنوان "حوار العمر"، وركز فيه على نقاط عملية في الفلسفة وفي مسألة النهضة العربية. في هذا الكتاب الأخير خصوصاً، يمكن تلمس مسألة الانحطاط في مقابل النهضة، والعلاقة مع الطروحات التاريخية والسياسية الملموسة. وفيه ينصح برهان غليون مراراً بالعودة الى البديري الحلاق. وفي لحظاته تلك كان يبدو كمن يستحضر عزيزاً الى عزيز. غطى البديري أكثر من عشرين عاماً في يومياته، ووصف الحياة كحلاق مثقف مهتم بالمفاصل الرئيسية للاحداث. فذكر الولاة والحج والغلاء والاسعار والقوى المتعددة المتصارعة من انكشارية وقبقول ودالاتية ويرلية وأشراف وزرباوات وغيرهم، تلك القوى التي كانت تتحارب بعضها مع بعض، ومع البدو وضاهر العمر، وتقف في وجه الحكام أحياناً، وتنهب وتدمر وتقتل الناس ومصالحهم طولاً وعرضاً، وعاماً اثر عام. حينما يتغير الوالي، كانت السلطة تضع يدها على أملاكه وأمواله ومحصول النهب الذي مارسه، وتنهب الناس في طريقها ايضاً. وحينما يكون للحاكم مصلحة في ذلك، يفرض الاسعار التي يراها، بل ويخفض قيمة العملة أحياناً، كأن يرسل المنادي ليقول ان القرش صارت قيمته ستاً وثلاثين مصرية بدلاً من أربعين، وان المصرية صارت بتسعة فلوس بدلاً من العشرة. وإذ أخذ أسعد باشا العظم دار معاوية، ليبني مكانها داره الكبيرة التي تعرف الآن في دمشق باسم "قصر العظم" أو "متحف التقاليد الشعبية"، "أخذ ما حولها من الخانات والدور والدكاكين وهدمها" وقطع ما لا حصر له من الشجر، وألزم معلمي الحرف بالعمل لديه دون غيره، وصادر الأعمدة والقباب من أصحابها، وأخلى طاحوناً أثرية من أعمدتها وحجارتها، وقطع الأنهار عن الناس حتى انتهاء بعض الاعمال... وصادر أعمدة من جامع يلبغا، وغيرها من بصرى الأثرية، ومن مدرسة الملك الناصر، وفك سوقاً ليستخلص مكونات عقوده. في بعض صراعات القوى المسلحة والمتوحشة، نهبت ألف وتسعمئة دار في دمشق، وفي بعض آخر نهبت أربعة وعشرون ألف دار ما عدا الدكاكين. تلك القوى كانت تغير على القرى أحياناً، فتنهب البساتين وتكسر الشجر و"تشلح البشر". فأين أصبحت الملكية، وهل يمكن ان يحدث التراكم، أو يوجد المجتمع كنسيج ناضج في ظل غياب دولة فيها حد أدنى من العام - الكلي؟! وهل يمكن ألا يحدث انحطاط وبوار وانكماش في السكان والانتاج والعقل الخاص والعام؟! حين تحدث مرقص مستعجلاً قبل موته، لم يكن يهجر، ولكن أثاره ما رآه أخطاء لدى الاقربين. المسألة أكبر من ذلك على كل حال. لماذا لا يُطرح احتمال أننا كنا "عثمانيين" بالفعل - ليس أتراكاً، بل عرب... عثمانيون - ؟! وحين استوطن الانحطاط، كان الأمر يتعلق بنا أيضاً، وليس كله "استيراداً". كان العثمانيون امتداداً لما قبلهم، لم يجبّ ما قبله هكذا بضربة سيف. الشيء المختلف لديهم، كان فيه تخلفهم وحصتنا منه: - كانوا غزاة أو مجاهدين كفتهم روحهم القتالية العالية أمر مقاومة خصومهم في البدء. واستمرت العسكرية شكلاً للسلطة ثم للمجتمع. فاعتمدت الزراعة - مثلاً - على نظام التيمار الاقطاعي العسكري، وكان الموظفون يحملون رتباً عسكرية، والعسكرة من ثم في كل شيء... كانت الناس في حال من الاحكام العرفية و"لا قانون" طوارئ على الدوام. - كانت السلطة العثمانية اكثر تمركزاً وقوة من أيام المماليك، ولكن المجتمع المستقر القادر على النمو بذاته كان عند المماليك أقوى منه عند العثمانيين. ومن هنا كانت فكرة مرقص صحيحة في جوهرها وان بدت تحمل شيئاً من المبالغة، حين قال ان العرب قد فقدوا استقلالهم بمجيء العثمانيين. - مع الغزو والجباية والعسكرة انطلاقاً من العشيرة كعصبية لجأت الى بناء جيش من الغرباء المنقطعين عن أصولهم الانكشارية، كانت المرحلة العثمانية عهد انتصار وهيمنة شاملة للتصوف، الأمر الذي ولد فرقاً جديدة قامت بالتوليف مع العسكرة الحاج بكتاش والانكشارية، أبو الهدى الصيادي والسلطان عبدالحميد. وعلى رغم كل ذلك، يبدو اننا لم نكن مجرد شعب قد تم احتلال بلاده أو استعمر وطنه - ويا ليتها كانت بالفعل - بل كان هنالك انتماء الى العثمنة، و"انتماء" - من ثم - الى التأخر، لا يعفي منه احتماء بمسؤولية "الإمبرياليات". وحين كتب يوسف الحكيم - المسيحي اللاذقي، مثل مرقص - ذكرياته من العهد العثماني، كان يتحدث انطلاقاً من مثل هذا الانتماء. قبل انتهاء الحكم العثماني بعشرين أو ثلاثين عاماً، قام أربعة أشخاص بتأسيس جمعية "تركيا الفتاة"، وكان أحدهم ألبانياً والثاني أرمنياً والثالث تركياً والرابع عربياً. وحين قامت الحركات العربية الأولى كانت دعوتها "اللامركزية"، حتى تملص الأتراك أنفسهم واستقروا بقوة وعصبية متصاعدة على مبدأ التتريك. آنذاك ارتفع لواء التحرر من الاتراك، وبشكل متصاعد ايضاً. لم يمنع هذا من استمرار آثارهم طويلاً في البنية النفسية الاجتماعية، وانعكاسها مادياً في العمل العسكري المشترك مع السوريين هنانو وضد الفرنسيين، على الرغم من افتراض اعتمال الشماتة في صدورهم اثر غدر الحلفاء بالعرب. لقد كان انحطاطاً، ولم تكن الحال حال دولة اسلامية تآمر عليها الغرب وفك روابطنا بها وحسب، بل دولة - لا دولة/ تحدرت من الخلايا المتحمسة للرباط والغزو الى نوع من الاقطاع العسكري ثم عسكرة المجتمعات وتشريع نهب الداخل الجباية وتضخمه العنيف بعد تراجع نهب الخارج الحرب، وفي ظل غياب نوعي للعنصر الثالث في مجتمعات الاستبداد الشرقي الأشغال العامة. نحن عشاق البراءة، تملصاً من المسؤولية العملية ومن مواجهة الموقف. وإذ كنا - أين صرنا؟! - في قلب حال الانحطاط، لن يكفينا رمي الذنوب على "العثمانيين" للبراءة من "دمنا"، ولا رمي إرثنا المكروه الى الآخرين. ما بين الجامعة الاسلامية والاستقلال العربي، وما بين تسييس الافغاني وتربوية محمد عبده، وما بين اللحاق بالغرب حتى وهو يتآمر علينا أو الالتحاق بعثمانية قد اندثرت، وما بين علمانية منسوخة أو منحرفة عن جوهرها وأصولية تدير ظهرها للحاضر والمستقبل... ضاع ويضيع الوقت. فبالنسبة للعلمانية، لم نرها بمنأى عن الفاشية، لا في تركيا ولا في تجارب عربية، كالعراق وبعض الجزائر مثلاً. وهي كذلك شأنها شأن القومية والطهرانية اذا تفاقمتا ضمن العصبة. وفي النماذج يدل تاريخ روبسبيير على ذلك، من عهد إرهابه الى ديانته الجديدة الى تسمية الأشهر بأسماء جديدة، لأن هناك "فجراً جديداً للانسانية"، و"عصراً جديداً للجماهير". وهي في ذلك - أيضاً - مكافئة للأصولية ان غالت وتفاقمت. العلمنة ممكنة ان اشترطت بالديموقراطية، وخصوصاً بمفهوم الشعب. والتقدم الى المستقبل ممكن لمن يتمسك بالماضي والمواصفات الوطنية ان اشترط بالديموقراطية، وبمفهوم الشعب ايضاً. يمكن لهذا ان يؤسس لكلمة سواء لا تتناقض مع غيرها. وربما يسهل عندئذ تجنب المأزق المستمر الذي يحصرنا به العلمانويون والعثمانويون، والذي يبعث على اليأس من التقدم... فكل تقدم هو تجسيد في الواقع لممكنات "على حساب ممكنات اخرى، هي ممكنات من وجهة نظر أكثر تجريداً وأقل تاريخية". كما قال مرقص في كتاب آخر. * كاتب سوري.