الكتاب: تاريخ القضاء في مصر العثمانية 1517 - 1798 المؤلف: عبدالرازق ابراهيم عيسى الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة 1998 تناولت دراسات عدة - من وجوه علمية متنوعة - نظام القضاء وأوضاع القضاة وأحوالهم في العصر المملوكي، وأيضاً في القرنين التاسع عشر والعشرين، إلا أن اوضاع هؤلاء الاجتماعية والاقتصادية واختصاصاتهم ودورهم في الحياة السياسية والاجتماعية في العصر العثماني لم يحظ بالعناية التي تتناسب وذلك التطور الذي شهده قضاء وقضاة تلك الفترة. فلم تظهر عن قضاة العصر العثماني غير إشارات قليلة متفرقة بين متون الكتب التاريخية التي تناولت في المجمل تلك الفترة. والكتاب يعيد النظر الى هذا العصر ونظامه القضائي، خصوصاً أن اعتقاداً ساد بتدهور أوضاع القضاة، ونظم القضاء في العصر العثماني، من قبيل تعاطي القضاة الرشوة، وعدم تمتع معظمهم بالعدالة في الأحكام، كذلك انتشار الأمراض الاجتماعية والسلوكية بين زمرة القضاة آنذاك. يذهب المؤلف الى أن أوضاع القضاة ونظم القضاء تغيرت في مصر بعد الفتح العثماني، وأن جوهر هذه التغيرات ارتبط بالنظم السياسية السائدة آنذاك، والتي كان من أهمها تبعية وارتباط القضاة المصريين بهيئة القضاة في استانبول، وهو ما أبعد القضاة العثمانيين عن سطوة السلاطين واستغلال نفوذهم. ويقدم الكتاب رصداً للاختلاف، ففي العصر المملوكي تنوعت طرق التقاضي ونظم القضاء بين أربعة أنواع رئيسية قضاة الشرع - قضاة السياسة - قضاة المظالم - قضاة الحسبة وتداخلت الاختصاصات بين هذه الأنواع جميعاً في مناسبات عدة، ما أدى الى انحطاط أوضاع القضاة وانهيار نظم القضاة، وضياع الحقوق، وشيوع ظاهرة استخدام الحيل في التقاضي. كذلك، فإن العمل قضائياً بالمذاهب الأربعة مجتمعة كان أهم أسباب تفجر الصراعات المذهبية بين أقطاب القضاة، ما أضاع هيبتهم وأفقد أحكامهم الصدقية لدى العامة. واتضحت هذه المساوئ وغيرها عندما التقى السلطان العثماني سليم الأول بقضاة مملوكيين من الأسرى بعد موقعة "مرج دابق"، قبيل الفتح العثماني لمصر بعام واحد في شعبان 922 ه - آب أغسطس 1516م، إذ تأكد من انعدام كفاءة القضاة علمياً، وعدم قدرتهم على فهم أمور الشرع أو القياس الصحيح. ويرى المؤلف أن هناك أسباباً عدة لذلك الضعف العلمي أهمها أن علاقة قضاة الشرع بالسلطة آنذاك اتسمت بالتبعية التي قضت على أي استقلالية للقضاء، وعدم الدقة في اختيار القضاة على أسس علمية أو مقاييس خاصة، وكثيراً ما كان يتدخل الأمراء في الأحكام وفي شؤون القضاء، كذلك في اختيار القضاة أو تعيينهم. ورافق هذا الوضع سطوة رأس المال وسيادته في إدارة دفة الأمور عموماً. فلم يكن الشرع أو السياسة هما اللذان يحكمان، كما يؤكد المؤلف، الأمر الذي بلغ درجة من التردي جعلت السلاطين - آنذاك - ينظرون الى القضاة باعتبارهم مصدراً طيعاً ومهماً لتمويل خزائنهم. يذهب الكتاب الى أن فكرة "الدولة" لدى العثمانيين كانت بسيطة للغاية، "فقد تمثلت في الدفاع عن البلاد ونشر الأمن، كذلك بسط العدالة على الرعايا من خلال جهاز قضائي قوي ومستقر، تقوم عليه نخبة من علماء الشرع الإسلامي.. ومن هنا كانت بداية اهتمام ورعاية للقضاء الشرعي، وهو ما انعكس بدوره على نظم التقاضي وممارسة القضاة للاختصاصات المحدّدة، وتغيرت معه أحوال المتقاضين أيضاً. ويؤكد المؤلف أهمية ارتباط الشرع بالقضاء العثماني كقضية أولتها الدولة العثمانية متابعة فائقة، واستمراراً لفكرة دعم الدين كمصدر للتشريع، "اعتبرت الدولة نفسها المدافع الأساسي عنه وعما يتصل به من أعمال". وقامت نظم القضاء والتقاضي العثمانية على ضربين أساسيين، هما: 1- قضاة الشرع الشريف. 2- قضاة السياسة، أو القضاء الزمني. ورغم تباين الاختصاصات بين النظامين السابقين، إلا أنهما جميعاً يحكمان وفق مبادئ الشريعة الإسلامية. واتسم النظام القضائي العثماني بالتسلسل، الذي جاء على قمته "شيخ الإسلام"، تليه الفئات القضائية الأخرى: "قضاة العسكر - القضاة من فئة المولى الكبير - القضاة من فئة المولى الصغير - المفتشون - النواب". وفسرت بعض الرؤى التاريخية منصب "شيخ الإسلام" آنذاك كمقابل لوظيفة "بطريرك لكل المسيحيين". وفسّره آخرون باعتباره تقليداً شائهاً للخلافة العباسية في القاهرة إبان حكم المماليك. لكن المؤلف هنا، يذهب إلى تفسير آخر: "إن لقب شيخ الإسلام أطلق على مفتي العاصمة في عهد السلطان محمد الفاتح ... تمييزاً له عن سائر زملائه من رجال الإفتاء الذين كانوا يعملون في الاقاليم، وأطلق هذا اللقب لإضفاء مزيد من الأهمية والتبجيل على مفتي العاصمة في مواجهة الطوائف الدينية غير الإسلامية، لا سيما أنهم جميعاً كانوا يمارسون اختصاصاتهم في مدينة واحدة". ويؤكد المؤلف حرص سلاطين العثمانيين جميعاً على تأييد سلطة "شيخ الإسلام" وتثبيت مركزه على رأس الإدارة برمتها. كان من اختصاصات "شيخ الإسلام" آنذاك أن "تحال إليه القضايا الجنائية التي يرى القاضي فيها بإعدام المتهم، قبل إصدار الحكم وتحال إليه مشاريع القوانين الوضعية قبل إقرارها بصفة نهائية لمعرفة ما إذا كانت تطابق الشريعة". كذلك فإن الدولة لم تكن تتحرك الى حرب من دون فتوى "شيخ الإسلام" بأن أهدافها لا تتعارض مع الدين. وكانت لأحكامه صفة النهائية ولا معقّب عليها. وألحق السلطان سليمان القانوني مكتباً فنياً ب"شيخ الإسلام" أطلق عليه آنذاك "باب فتوى" أو "فتوى خانة" وهو ما يعرف الآن بدار الافتاء. ولأهمية "شيخ الإسلام" في العهد العثماني، يذهب المؤلف الى أنه سُمي في قانون نامه محمد الفاتح ب"سر دار العلماء" رغم أنه لم يكن ضمن تشكيل "الديوان" السلطاني، إلا أنه كان يلعب دوراً رئيسياً في الإدارة والسياسة والفكر في الدولة. ويذهب المؤلف إلى أن مصر لم تعرف منصب "قاضي القضاة" في الدولة حتى عهد السلطان مراد الأول 761 ه - 1360م حين كثرت شؤون الجند وازداد عددهم وصنوفهم، فعين "خليل الأسود الجندري" قاضياً للقضاة وبحسب ابن إياس فإن "جلبي أفندي" كان أول قاضٍ للعسكر العثماني. ولعل من أهم التطورات في النظام القضائي العثماني هو إلغاء العمل بالمذاهب الأربعة. وأولت الدولة آنذاك القضاة اهتماماً ورعاية لتضمن لهم تأمين حياتهم الاجتماعية والاقتصادية، فحتى بعد التقاعد كان الواحد منهم يتقاضى راتباً يكفي معيشته. كذلك فإن منصب "قاضي العسكر" اتسعت اختصاصاته، وكان لا يناله إلا العلماء الحائزون على رتبة التدريس. ومن هذه الاختصاصات الإشراف على الأوقاف ومحاسبة ناظرها، ومنها أن قاضي العسكر إذا عُيّن فيجب على الصدر الأعظم رئيس الوزراء حضور الحفل فلا ينيب أحداً عنه. كذلك خُصصت لكل "قاضي عسكر" عربة لتنقلاته وفي الحرب كانت خيمته تُنصب مجاورة لخيمتي السلطان والصدر الأعظم. ونهض قضاة العسكر في مصر العثمانية بدور بارز في الحياة السياسية، وبرغم سيطرة صناجق المماليك على الحياة السياسية وقتئذ، إلا أنهم كانوا يقدّرون قاضي العسكر لعدم رغبتهم في إثارة السلطان الذي كان يعتبر تقدير الناس للقاضي تقديراً للشرع. ويستدل المؤلف من بحثه في سجلات المحاكم ووثائقها الشرعية على أن "القضاة العثمانيين كانوا ينظرون الى المتقاضين نظرة واحدة، لا يفرّقون بينهم من حيث المنصب أو الغنى". درجت الدولة العثمانية - منذ البداية - على الفصل بين الولايات قضائياً وإدارياً، وظلت الأمور على هذه الحال، بلا تأثير على سلطة القضاء الشرعي وسيادته، الى أن اتسعت الدولة العثمانية وامتدت حدودها، وزاد عدد الأجانب والفئات الأخرى التي لم تكن تخضع لنظام القضاء العثماني، إنما لسلطة قضائية نابعة من قوانين بلادهم عبر قناصل هذه البلاد في مصر. الأمر الذي ترتب عليه - من وجهة نظر المؤلف - "خرق مبدأ اقليمية الشريعة الإسلامية وانحسار الولاية القضائية للقضاة" في أواخر فترة الحكم العثماني. وتعد فئة "الأشراف" إحدى الفئات التي كان لنقيبها الولاية قضائياً عليها، إذ تمتع "الأشراف" في العهد العثماني بمزايا قيمية ومعنوية مُنحت لهم لشرف انتسابهم الى النبي صلى الله عليه وسلم. ولكون العثمانيين من أنصار السُّنة. ويشير الكتاب الى فرقة أخرى لم تكن تخضع للنظام القضائي العثماني، وهي "فرقة الانكشارية" بما لها من امتيازات كالعفو وتخفيف العقوبات.. كل هذه العوامل أدت الى ضرر كبير في القرن الثامن عشر، ليس على سيادة القضاء الشرعي فحسب، بل كذلك على تماسك وقوة الفرق العسكرية للدولة نظامياً، إذ ظل كثير من أبناء الحرف والطوائف المهنية عسكراً بالاسم، حفاظاً على استمرار تمتعهم بتلك الامتيازات السابقة. أما من هم على دين آخر، فقد اعترف العثمانيون بحقوقهم القضائية الخاصة بهم، ويقول المؤلف: "لمّا كان الشرع الإسلامي خاصاً بالمسلمين، فقد خلّت الدولة الإسلامية بين أهل الملل الأخرى ومحاكمهم"، مشيراً الى أنها كانت محاكم كنسية رؤساؤها الروحيون يقومون فيها بدور القضاة. وألف هؤلاء عدداً كثيراً من كتب القانون آنذاك، ولم تقتصر محاكمهم تلك على أمور الزواج وغيره، إنما تعدت ذلك الى المواريث وحل النزاعات التي تخص مسيحيين. وحين فتح "محمد الفاتح" القسطنطينية، جمع النصارى لينتخبوا بطريركاً لهم فاختاروا جورج سيكولاديوس الذي اعتمده الفاتح رئيساً لهم، ويؤكد المؤلف أنه "منحه حق الحكم في القضايا المدنية والجنائية بكل أنواعها المختصة بالأروام"، إضافة إلى أن يكون معه مجلس من كبراء موظفي الكنيسة. وأعطى "الفاتح" الحق نفسه للمطارنة والقساوسة في الولايات والأطراف، وهو ما دلّ على فهم السلاطين آنذاك لروح السماحة الكامنة في الإسلام، وما ينطوي عليه من إخاء ورحمة، أما إذا حدث وتخاصم ذمّيان، أو ترافع مسيحيان أمام القاضي المسلم "فإنه يحكم بينهم طبقاً للشرع الإسلامي" وهم غير مجبرين على اللجوء الى قاضٍ مسلم بحسب قوانين الشرع نفسها. نشطت حركة التجارة في الدولة العثمانية، ونزح تجار أجانب كثيرون إلى مصر، وحصلوا على امتيازات عدة منذ عهد الدولة الأيوبية، تشجيعاً على التجارة والبقاء. ويبرر المؤلف حرص العثمانيين على استمرار ذلك النهج بخشيتهم من خسارة اقتصادية محتملة. إلا أن الدولة العثمانية لم تكن ضعيفة آنذاك لتضطر الى منح كل هذه الامتيازات والدفع دائماً لمصلحة استمرارها، الأمر الذي وصل الى أن تكون الامتيازات دائمة العام 1739م، بحيث لا تحتاج تصديقاً أو موافقة من كل سلطان جديد. وأحسب أن السبب في ذلك هو بساطة فكرة الدولة التي لم يتحول مفهوم العثمانيين لها حتى بعد اتساع أطرافها، والتي كانت تفرض تغيراً في المفهوم والممارسة، لا مسألة خشية الخسارة الاقتصادية. إن أخطر ما ارتبط بالامتيازات الأجنبية - في رأي المؤلف - هو ما سُميّ ب"البراءات" وهي عبارة عن أوراق يمنحها الأجانب لأهل البلاد، ينالون - بحصولهم عليها - الامتيازات التي ينالها الأجانب الاصليون، ما دفع عدداً غير قليل من ابناء البلاد العثمانية الى الدخول تحت تلك الحصانة بالحصول على هذه "البراءات". وقد أدى ذلك بدوره الى خلل قيمي واجتماعي، وأخذ وجه القضاء القنصلي الأجنبي القبيح يظهر وتزداد مساوئه شيئاً فشيئاً. كذلك فإن الكاتب يشير الى نقطة في غاية الأهمية وهي عدم قدرة الدولة العثمانية، في أواخر عهدها، على إدارة المعاهدات والتفاوض. فهي لم تكن في هذا الإطار بالدرجة التي كان يجب أن تتوازى مع قوتها واتساع سيادتها. وأحسب أيضاً - كما قلت - إن هذا ما كان ينبغي أن يكون منذ البداية، إذ أن الدولة العثمانية تساهلت بشدة في معاهداتها بحيث لم تحتفظ - على الأقل - ببعض الحقوق التشريعية والقضائية بخصوص الأجانب المقيمين على أراضيها، ما أدى الى الخلل الاشتراعي والقضائي. إن الامتيازات الاجنبية هي السوس الشّره الذي نخر عظام الدولة العثمانية، فتكررت هزائمها في القرن الثامن عشر، وثبتّت اختصاصات القضاة من دون تغيير تشريعي يتواكب مع تطور الدولة، وذلك أحدث خللاً في التعليم ما انعكس على تكوين القضاة وتعليمهم. وتسرب ذلك الضعف الى الهيئة القضائية. ويعتبر المؤلف أن الحملة الفرنسية تمثل فترة انتقالية في أوضاع القضاة ما بين العهد العثماني وعهد محمد علي وخلفائه الذين "حاولوا التملص من السيطرة العثمانية على القضاء"، ومن ذلك وضعهم العقبات أمام عمل قاضي العسكر العثماني، واستصدار القوانين المستمدة من أوروبا وإلغاء المحاكم الشرعية. اعتمد الكتاب على عدد من المصادر التأريخية المهمة، كذلك على الوثائق غير المنشورة التي جمعها المؤلف من "الشهر العقاري" ودار الوثائق القومية ودار المحفوظات العمومية، والمخطوطات المحفوظة، ودار الكتب المصرية، وغيرها من مخطوطات حُفظ بعضها في أرشيف فيينا في النمسا، وألحقت بالكتاب صور لست وثائق مهمة في هذا السياق. الكتاب: تاريخ القضاء في مصر العثمانية 1517 - 1798. المؤلف: عبدالرازق ابراهيم عيسى. الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة 1998. تناولت دراسات عدة - من وجوه علمية متنوعة - نظام القضاء وأوضاع القضاة وأحوالهم في العصر المملوكي، وأيضاً في القرنين التاسع عشر والعشرين، إلا أن اوضاع هؤلاء الاجتماعية والاقتصادية واختصاصاتهم ودورهم في الحياة السياسية والاجتماعية في العصر العثماني لم يحظ بالعناية التي تتناسب وذلك التطور الذي شهده قضاء وقضاة تلك الفترة. فلم تظهر عن قضاة العصر العثماني غير إشارات قليلة متفرقة بين متون الكتب التاريخية التي تناولت في المجمل تلك الفترة. والكتاب يعيد النظر الى هذا العصر ونظامه القضائي، خصوصاً أن اعتقاداً ساد بتدهور أوضاع القضاة، ونظم القضاء في العصر العثماني، من قبيل تعاطي القضاة الرشوة، وعدم تمتع معظمهم بالعدالة في الأحكام، كذلك انتشار الأمراض الاجتماعية والسلوكية بين زمرة القضاة آنذاك. يذهب المؤلف الى أن أوضاع القضاة ونظم القضاء تغيرت في مصر بعد الفتح العثماني، وأن جوهر هذه التغيرات ارتبط بالنظم السياسية السائدة آنذاك، والتي كان من أهمها تبعية وارتباط القضاة المصريين بهيئة القضاة في استانبول، وهو ما أبعد القضاة العثمانيين عن سطوة السلاطين واستغلال نفوذهم. ويقدم الكتاب رصداً للاختلاف، ففي العصر المملوكي تنوعت طرق التقاضي ونظم القضاء بين أربعة أنواع رئيسية قضاة الشرع - قضاة السياسة - قضاة المظالم - قضاة الحسبة وتداخلت الاختصاصات بين هذه الأنواع جميعاً في مناسبات عدة، ما أدى الى انحطاط أوضاع القضاة وانهيار نظم القضاة، وضياع الحقوق، وشيوع ظاهرة استخدام الحيل في التقاضي. كذلك، فإن العمل قضائياً بالمذاهب الأربعة مجتمعة كان أهم أسباب تفجر الصراعات المذهبية بين أقطاب القضاة، ما أضاع هيبتهم وأفقد أحكامهم الصدقية لدى العامة. واتضحت هذه المساوئ وغيرها عندما التقى السلطان العثماني سليم الأول بقضاة مملوكيين من الأسرى بعد موقعة "مرج دابق"، قبيل الفتح العثماني لمصر بعام واحد في شعبان 922 ه - آب أغسطس 1516م، إذ تأكد من انعدام كفاءة القضاة علمياً، وعدم قدرتهم على فهم أمور الشرع أو القياس الصحيح. ويرى المؤلف أن هناك أسباباً عدة لذلك الضعف العلمي أهمها أن علاقة قضاة الشرع بالسلطة آنذاك اتسمت بالتبعية التي قضت على أي استقلالية للقضاء، وعدم الدقة في اختيار القضاة على أسس علمية أو مقاييس خاصة، وكثيراً ما كان يتدخل الأمراء في الأحكام وفي شؤون القضاء، كذلك في اختيار القضاة أو تعيينهم. ورافق هذا الوضع سطوة رأس المال وسيادته في إدارة دفة الأمور عموماً. فلم يكن الشرع أو السياسة هما اللذان يحكمان، كما يؤكد المؤلف، الأمر الذي بلغ درجة من التردي جعلت السلاطين - آنذاك - ينظرون الى القضاة باعتبارهم مصدراً طيعاً ومهماً لتمويل خزائنهم. يذهب الكتاب الى أن فكرة "الدولة" لدى العثمانيين كانت بسيطة للغاية، "فقد تمثلت في الدفاع عن البلاد ونشر الأمن، كذلك بسط العدالة على الرعايا من خلال جهاز قضائي قوي ومستقر، تقوم عليه نخبة من علماء الشرع الإسلامي.. ومن هنا كانت بداية اهتمام ورعاية للقضاء الشرعي، وهو ما انعكس بدوره على نظم التقاضي وممارسة القضاة للاختصاصات المحدّدة، وتغيرت معه أحوال المتقاضين أيضاً. ويؤكد المؤلف أهمية ارتباط الشرع بالقضاء العثماني كقضية أولتها الدولة العثمانية متابعة فائقة، واستمراراً لفكرة دعم الدين كمصدر للتشريع، "اعتبرت الدولة نفسها المدافع الأساسي عنه وعما يتصل به من أعمال". وقامت نظم القضاء والتقاضي العثمانية على ضربين أساسيين، هما: 1- قضاة الشرع الشريف. 2- قضاة السياسة، أو القضاء الزمني. ورغم تباين الاختصاصات بين النظامين السابقين، إلا أنهما جميعاً يحكمان وفق مبادئ الشريعة الإسلامية. واتسم النظام القضائي العثماني بالتسلسل، الذي جاء على قمته "شيخ الإسلام"، تليه الفئات القضائية الأخرى: "قضاة العسكر - القضاة من فئة المولى الكبير - القضاة من فئة المولى الصغير - المفتشون - النواب". وفسرت بعض الرؤى التاريخية منصب "شيخ الإسلام" آنذاك كمقابل لوظيفة "بطريرك لكل المسيحيين". وفسّره آخرون باعتباره تقليداً شائهاً للخلافة العباسية في القاهرة إبان حكم المماليك. لكن المؤلف هنا، يذهب إلى تفسير آخر: "إن لقب شيخ الإسلام أطلق على مفتي العاصمة في عهد السلطان محمد الفاتح ... تمييزاً له عن سائر زملائه من رجال الإفتاء الذين كانوا يعملون في الاقاليم، وأطلق هذا اللقب لإضفاء مزيد من الأهمية والتبجيل على مفتي العاصمة في مواجهة الطوائف الدينية غير الإسلامية، لا سيما أنهم جميعاً كانوا يمارسون اختصاصاتهم في مدينة واحدة". ويؤكد المؤلف حرص سلاطين العثمانيين جميعاً على تأييد سلطة "شيخ الإسلام" وتثبيت مركزه على رأس الإدارة برمتها. كان من اختصاصات "شيخ الإسلام" آنذاك أن "تحال إليه القضايا الجنائية التي يرى القاضي فيها بإعدام المتهم، قبل إصدار الحكم وتحال إليه مشاريع القوانين الوضعية قبل إقرارها بصفة نهائية لمعرفة ما إذا كانت تطابق الشريعة". كذلك فإن الدولة لم تكن تتحرك الى حرب من دون فتوى "شيخ الإسلام" بأن أهدافها لا تتعارض مع الدين. وكانت لأحكامه صفة النهائية ولا معقّب عليها. وألحق السلطان سليمان القانوني مكتباً فنياً ب"شيخ الإسلام" أطلق عليه آنذاك "باب فتوى" أو "فتوى خانة" وهو ما يعرف الآن بدار الافتاء. ولأهمية "شيخ الإسلام" في العهد العثماني، يذهب المؤلف الى أنه سُمي في قانون نامه محمد الفاتح ب"سر دار العلماء" رغم أنه لم يكن ضمن تشكيل "الديوان" السلطاني، إلا أنه كان يلعب دوراً رئيسياً في الإدارة والسياسة والفكر في الدولة. ويذهب المؤلف إلى أن مصر لم تعرف منصب "قاضي القضاة" في الدولة حتى عهد السلطان مراد الأول 761 ه - 1360م حين كثرت شؤون الجند وازداد عددهم وصنوفهم، فعين "خليل الأسود الجندري" قاضياً للقضاة وبحسب ابن إياس فإن "جلبي أفندي" كان أول قاضٍ للعسكر العثماني. ولعل من أهم التطورات في النظام القضائي العثماني هو إلغاء العمل بالمذاهب الأربعة. وأولت الدولة آنذاك القضاة اهتماماً ورعاية لتضمن لهم تأمين حياتهم الاجتماعية والاقتصادية، فحتى بعد التقاعد كان الواحد منهم يتقاضى راتباً يكفي معيشته. كذلك فإن منصب "قاضي العسكر" اتسعت اختصاصاته، وكان لا يناله إلا العلماء الحائزون على رتبة التدريس. ومن هذه الاختصاصات الإشراف على الأوقاف ومحاسبة ناظرها، ومنها أن قاضي العسكر إذا عُيّن فيجب على الصدر الأعظم رئيس الوزراء حضور الحفل فلا ينيب أحداً عنه. كذلك خُصصت لكل "قاضي عسكر" عربة لتنقلاته وفي الحرب كانت خيمته تُنصب مجاورة لخيمتي السلطان والصدر الأعظم. ونهض قضاة العسكر في مصر العثمانية بدور بارز في الحياة السياسية، وبرغم سيطرة صناجق المماليك على الحياة السياسية وقتئذ، إلا أنهم كانوا يقدّرون قاضي العسكر لعدم رغبتهم في إثارة السلطان الذي كان يعتبر تقدير الناس للقاضي تقديراً للشرع. ويستدل المؤلف من بحثه في سجلات المحاكم ووثائقها الشرعية على أن "القضاة العثمانيين كانوا ينظرون الى المتقاضين نظرة واحدة، لا يفرّقون بينهم من حيث المنصب أو الغنى". درجت الدولة العثمانية - منذ البداية - على الفصل بين الولايات قضائياً وإدارياً، وظلت الأمور على هذه الحال، بلا تأثير على سلطة القضاء الشرعي وسيادته، الى أن اتسعت الدولة العثمانية وامتدت حدودها، وزاد عدد الأجانب والفئات الأخرى التي لم تكن تخضع لنظام القضاء العثماني، إنما لسلطة قضائية نابعة من قوانين بلادهم عبر قناصل هذه البلاد في مصر. الأمر الذي ترتب عليه - من وجهة نظر المؤلف - "خرق مبدأ اقليمية الشريعة الإسلامية وانحسار الولاية القضائية للقضاة" في أواخر فترة الحكم العثماني. وتعد فئة "الأشراف" إحدى الفئات التي كان لنقيبها الولاية قضائياً عليها، إذ تمتع "الأشراف" في العهد العثماني بمزايا قيمية ومعنوية مُنحت لهم لشرف انتسابهم الى النبي صلى الله عليه وسلم. ولكون العثمانيين من أنصار السُّنة. ويشير الكتاب الى فرقة أخرى لم تكن تخضع للنظام القضائي العثماني، وهي "فرقة الانكشارية" بما لها من امتيازات كالعفو وتخفيف العقوبات.. كل هذه العوامل أدت الى ضرر كبير في القرن الثامن عشر، ليس على سيادة القضاء الشرعي فحسب، بل كذلك على تماسك وقوة الفرق العسكرية للدولة نظامياً، إذ ظل كثير من أبناء الحرف والطوائف المهنية عسكراً بالاسم، حفاظاً على استمرار تمتعهم بتلك الامتيازات السابقة. أما من هم على دين آخر، فقد اعترف العثمانيون بحقوقهم القضائية الخاصة بهم، ويقول المؤلف: "لمّا كان الشرع الإسلامي خاصاً بالمسلمين، فقد خلّت الدولة الإسلامية بين أهل الملل الأخرى ومحاكمهم"، مشيراً الى أنها كانت محاكم كنسية رؤساؤها الروحيون يقومون فيها بدور القضاة. وألف هؤلاء عدداً كثيراً من كتب القانون آنذاك، ولم تقتصر محاكمهم تلك على أمور الزواج وغيره، إنما تعدت ذلك الى المواريث وحل النزاعات التي تخص مسيحيين. وحين فتح "محمد الفاتح" القسطنطينية، جمع النصارى لينتخبوا بطريركاً لهم فاختاروا جورج سيكولاديوس الذي اعتمده الفاتح رئيساً لهم، ويؤكد المؤلف أنه "منحه حق الحكم في القضايا المدنية والجنائية بكل أنواعها المختصة بالأروام"، إضافة إلى أن يكون معه مجلس من كبراء موظفي الكنيسة. وأعطى "الفاتح" الحق نفسه للمطارنة والقساوسة في الولايات والأطراف، وهو ما دلّ على فهم السلاطين آنذاك لروح السماحة الكامنة في الإسلام، وما ينطوي عليه من إخاء ورحمة، أما إذا حدث وتخاصم ذمّيان، أو ترافع مسيحيان أمام القاضي المسلم "فإنه يحكم بينهم طبقاً للشرع الإسلامي" وهم غير مجبرين على اللجوء الى قاضٍ مسلم بحسب قوانين الشرع نفسها. نشطت حركة التجارة في الدولة العثمانية، ونزح تجار أجانب كثيرون إلى مصر، وحصلوا على امتيازات عدة منذ عهد الدولة الأيوبية، تشجيعاً على التجارة والبقاء. ويبرر المؤلف حرص العثمانيين على استمرار ذلك النهج بخشيتهم من خسارة اقتصادية محتملة. إلا أن الدولة العثمانية لم تكن ضعيفة آنذاك لتضطر الى منح كل هذه الامتيازات والدفع دائماً لمصلحة استمرارها، الأمر الذي وصل الى أن تكون الامتيازات دائمة العام 1739م، بحيث لا تحتاج تصديقاً أو موافقة من كل سلطان جديد. وأحسب أن السبب في ذلك هو بساطة فكرة الدولة التي لم يتحول مفهوم العثمانيين لها حتى بعد اتساع أطرافها، والتي كانت تفرض تغيراً في المفهوم والممارسة، لا مسألة خشية الخسارة الاقتصادية. إن أخطر ما ارتبط بالامتيازات الأجنبية - في رأي المؤلف - هو ما سُميّ ب"البراءات" وهي عبارة عن أوراق يمنحها الأجانب لأهل البلاد، ينالون - بحصولهم عليها - الامتيازات التي ينالها الأجانب الاصليون، ما دفع عدداً غير قليل من ابناء البلاد العثمانية الى الدخول تحت تلك الحصانة بالحصول على هذه "البراءات". وقد أدى ذلك بدوره الى خلل قيمي واجتماعي، وأخذ وجه القضاء القنصلي الأجنبي القبيح يظهر وتزداد مساوئه شيئاً فشيئاً. كذلك فإن الكاتب يشير الى نقطة في غاية الأهمية وهي عدم قدرة الدولة العثمانية، في أواخر عهدها، على إدارة المعاهدات والتفاوض. فهي لم تكن في هذا الإطار بالدرجة التي كان يجب أن تتوازى مع قوتها واتساع سيادتها. وأحسب أيضاً - كما قلت - إن هذا ما كان ينبغي أن يكون منذ البداية، إذ أن الدولة العثمانية تساهلت بشدة في معاهداتها بحيث لم تحتفظ - على الأقل - ببعض الحقوق التشريعية والقضائية بخصوص الأجانب المقيمين على أراضيها، ما أدى الى الخلل الاشتراعي والقضائي. إن الامتيازات الاجنبية هي السوس الشّره الذي نخر عظام الدولة العثمانية، فتكررت هزائمها في القرن الثامن عشر، وثبتّت اختصاصات القضاة من دون تغيير تشريعي يتواكب مع تطور الدولة، وذلك أحدث خللاً في التعليم ما انعكس على تكوين القضاة وتعليمهم. وتسرب ذلك الضعف الى الهيئة القضائية. ويعتبر المؤلف أن الحملة الفرنسية تمثل فترة انتقالية في أوضاع القضاة ما بين العهد العثماني وعهد محمد علي وخلفائه الذين "حاولوا التملص من السيطرة العثمانية على القضاء"، ومن ذلك وضعهم العقبات أمام عمل قاضي العسكر العثماني، واستصدار القوانين المستمدة من أوروبا وإلغاء المحاكم الشرعية. اعتمد الكتاب على عدد من المصادر التأريخية المهمة، كذلك على الوثائق غير المنشورة التي جمعها المؤلف من "الشهر العقاري" ودار الوثائق القومية ودار المحفوظات العمومية، والمخطوطات المحفوظة، ودار الكتب المصرية، وغيرها من مخطوطات حُفظ بعضها في أرشيف فيينا في النمسا، وألحقت بالكتاب صور لست وثائق مهمة في هذا السياق