على رغم الرفاهية الاقتصادية والهناء الاجتماعي اللذين تنعم عنهما كندا، فإن خطرين رئيسيين يتهددان الاتحاد الكندي: "الأمركة" والتقسيم. فتمركز غالبية سكان البلاد في المدن تقريباً، من الولاياتالمتحدة يهدد بابتلاع العملاق الاميركي جارته ثقافياً، فيما تتوق نسبة مهمة من الكنديين الناطقين بالفرنسية الى الانفصال عن كندا، واقامة دولة لهم مستقلة في مقاطعة كيبيك. عشرة ملايين كيلومتر مربع جعلت من كندا ثاني اكبر بلاد العالم مساحة بعد روسيا. لكن على العكس من الفيديرالية الروسية او من جارتها الولاياتالمتحدة فان عدد سكان كندا لا يزيد على 27 مليون نسمة، اي نحو نصف عدد سكان ولاية كاليفورنيا. وعلى رغم تقسيم البلاد الى 10 مقاطعات تقع في منطقتين ذات اراض شاسعة تتجاوز القطب الشمالي، فان غالبية سكانها تتجمع في "حزام" ضيق على الحدود مع الولاياتالمتحدة التي يبلغ طولها 6379 كيلومتراً، وهي اطول حدود من دون حراسة في العالم. ويتميز الكنديون، من الناحية السكانية، بعاملين مهمين، الاول كونهم مدنيين، اذ يتمركز اكثر من 75 في المئة منهم في كبريات المدن المتاخمة للولايات المتحدة، والعامل الثاني هو تعدديتهم، اذ حافظ المهاجرون الذين أهّلوا وعمّروا كندا على مر العقود، على اصالاتهم وتقاليدهم، بعكس المهاجرين الى الولاياتالمتحدة الذين تخلوا عن جذورهم الثقافية لينصهروا في مجتمع اميركي تطغى عليه الثقافة الانغلو-ساكسونية. واستطاعت القوميات والاثنيات التي حلّت في كندا تشكيل تجمعات متمايزة ودينامية، متجنبة الوقوع في فخ الغيتوهات. ولعل الصفة التي أطلقها في حينه الرئيس الراحل جون كينيدي على الولاياتالمتحدة حين اعتبرها "أمة مهاجرين" تنطبق اكثر على كندا. ففي حين قامت الولاياتالمتحدة على ايدي مهاجرين تواصل وفودهم طوال اكثر من قرن، وطبعوا البلاد بثقافتهم، فإن الظاهر السكاني لكندا لا يزال في طور التشكيل نتيجة هجرة لم تتوقف بعد، على رغم دفق هائل شهدته على دفعتين في القرن الحالي حين كانت لا تعدّ اكثر من خمسة ملايين نسمة: الاولى قبيل الحرب العالمية الاولى، والثانية في اعقاب الحرب العالمية الثانية، مما رفع عدد سكانها الى حجمه الحالي، ومنحها هويتها الثنائية القائمة على "الانكليز" وهم الكنديون من اصل انغلو-ساكسوني او بريطاني، و"الفرنسيين" المتحدرين من اصل فرنسي، ويتمركزون في مدينة كيبيك. لكن هذا الصرح المزدوج اخذ يتداعى بفعل الصعوبات والمشكلات التي تعتمل في الثقافتين الرئيسيتين، الانكليزية والفرنسية، على رغم استفتاء العام 1995 الذي أقرّ بقاء كيبيك في الاتحاد الكندي، بفارق ضئيل جداً من الاصوات. "امبريالية ثقافية" ويبقى لكندا انجازها الآخر اي امكان تقاسم الجزء الشمالي من القارة الاميركية في ظل جارتها الولاياتالمتحدة من دون ان "تتأمرك" كلياً، على رغم تجمع سكانها على الحدود مع هذه الاخيرة مع ما يشكله ذلك من تبعات مهمة، فإن ذلك يعني مثلاً ان غالبية الكنديين تتلقى برامج اذاعات وتلفزيونات الولاياتالمتحدة، الامر الذي أثار قلق المثقفين الكنديين منذ العشرينات، حين اخذت تظهر بوادر "امبريالية ثقافية" اميركية، ثم في اعقاب الحرب العالمية الثانية في عزّ قوة الولاياتالمتحدة وسطوتها، الامر الذي شكّل تهديداً مباشراً ب "ضم" او ابتلاع ثقافي لكندا، لا سيما عبر التلفزيون. وفي حينه، تشكّلت عدة لجان ملكية ما بين العامين 1949 و1961 لمواجهة مشكلة هيمنة الثقافة الاميركية في كندا، ولتنظيم "مقاومة ابتلاع الولاياتالمتحدةكندا ثقافياً". ولم يتعد عمل اللجان تشجيع هيئة "الاذاعة والتلفزيون الكندية" C.B.C على بث البرامج الوطنية. لكن هذه التوجهات لم تلق يوماً دعماً شديداً من الحكومة الكندية التي تبدو غير مقتنعة بجدوى هذه المقاومة. ففي الفترة الاخيرة، اضطرت 11 محطة تلفزيونية تابعة للهيئة لاقفال ابوابها نتيجة سياسة حصر النفقات التي تمارسها الحكومة… في وقت تشير آخر استطلاعات رأي سكان كبريات المدن المتاخمة للحدود ان 80 في المئة من البرامج التي يشاهدونها اميركية. ولا تقتصر هذه الهيمنة على الاذاعة والتلفزيون، فالافلام الاميركية تحتل شاشات غالبية صالات السينما الكندية، فيما تهيمن المطبوعات الاميركية على اكشاك الصحف وعلى مبيعات الكتب في كندا. وحتى الرياضة لم تنج من "الاستعمار" الاميركي. فكل فرق رياضة "الهوكي على الجليد" الوطنية التي تخفق لها قلوب كل الكنديين، تلعب ضمن "جمعية الهوكي الاميركية". وحتى رياضة "البيسبول" التي استعارها الكنديون من الولاياتالمتحدة لقيت المصير ذاته، اذ تلعب أهم الفرق الكندية اليوم تحت لواء "جمعية البيسبول الاميركية"… والجائل في كبريات مدن كندا يخال نفسه في الولاياتالمتحدة بفارق انعدام القذارات التي تكسو شوارع المدن الاميركية، والطمأنينة الناتجة عن ندرة الجرائم والجنح في المدن الكندية. وحين تسأل كندياً عما يميز بلاده فيما عدا ذلك، عن الولاياتالمتحدة، ينفعل في وجهك ويقول: "تلك هي مشكلتنا. فالعالم يحبنا لأن احداً لا يعرفنا، اذ اننا في نظر العالم اميركيون، ولكن ألطف وأهدأ من الآخرين". فهو يشعر، كالعديد من الكنديين، بأن العالم يعتبره نسخة "مصغرة" عن الاميركي "الحقيقي". والأنكى من ذلك ان غالبية الاميركيين تعتبر الكنديين نسخة اكثر تواضعاً من ذواتهم. لذا يتذمر الكنديون من هذه الوطأة ويخشون على هويتهم من خطر هذا العملاق القابع على حدودهم جنوباً. وهو ما عبّر عنه رئيس الوزراء الكندي السابق بيار ترودو خلال زيارته واشنطن العام 1969، حين توجه الى الاميركيين بقول اصبح منذ ذلك الحين مثلاً: "ان الحياة بقربكم تشبه الى حدّ ما النوم الى جانب فيل. فمهما كان ودوداً ولطيفاً، لا يمكن الا ان تتأثر بأي حركة يقوم بها او همهمة تصدر عنه". ولحل هذه "الازمة" ذهب العديد من الكنديين نحو جذورهم، البعيدة جداً احياناً لاستعادة "هويتهم" الاصيلة، اذ نجد في بعض المناطق اشكالاً من نمط الحياة الفرنسي او الانكليزي محفوظة بشغف، واحياناً الى حدّ التعصّب. "عاشت كيبيك حرة" اما مسألة الثنائية الكندية، والتوزع الثقافي بين الانكليزية والفرنسية، فهي ازمة لا شك ستقود الى انفصال مقاطعة كيبيك ذات الثقافة الفرنسية، والى تقسيم كندا. فطوال 130 سنة، اي منذ قيام كندا الموحدة بعد اخضاع "الانكليز" مقاطعة كيبيك "الفرنسية" لم تتوقف نزعات "الفرنسيين" الى كيان مستقل في كيبيك، بتشجيع احياناً من فرنسا التي استعملت في الماضي، والى وقت قريب، قضية كيبيك ورقة في لعبة النفوذ في علاقاتها الدولية، ولا سيما في صراعاتها مع الامبراطورية البريطانية. وفي العام 1967، احتفلت كندا بعيدها المئوي بتنظيم "المعرض العالمي" في مونتريال، متباهية بانجازاتها الاقتصادية التي وضعتها في مصاف أعظم دول العالم من دون ان تعادي احداً. لكن شبح الانفصال الذي هام على الاتحاد الكندي طوال السنوات المئة هذه عاد الى الظهور حين خطب الرئيس الفرنسي آنذاك الجنرال ديغول في جموع غفيرة من اهالي كيبيك تجمعوا تحت شرفة دار بلدية مونتريال في تموز يوليو 1967، اعلن في نهاية خطابه "عاشت كيبيك حرة!". فقامت قيامة لم تقعد بعد، خصوصاً وان ديغول كان حاضراً وقتها في هذا البلد للمشاركة في احتفالات انقضاء قرن على تأسيس كندا الموحدة. وكان خطاب الرئيس الفرنسي بمثابة صك اعتراف وتأييد لانفصاليي كيبيك في صراعهم لاستقلال المقاطعة عن النصف الآخر وتشكل "الحزب الكيبيكي" بزعامة رينيه ليفيك، ونال 23 في المئة من الاصوات في انتخابات المقاطعات العام 1970. وعلى رغم هزائم انتخابية لاحقة مني بها الحزب الكيبيكي بسبب عمليات ارهاب نفّذها انفصاليون، وكذلك تنازلات منحتها حكومة ترودو الى اهل كيبيك، ومن بينها قانون لغات البلاد الرسمية الذي جعل من الفرنسية اللغة الرسمية الثانية في كندا، لم تخمد شعلة الانفصال في المقاطعة . وتحولت الشعلة الى حريق حين حقق الحزب الكيبيكي انتصاراً كبيراً في انتخابات العام 1976 ونظم زعيمه ليفيك على الفور حملة سياسية تقود الى انفصال كيبيك، خصوصاً حين سنّ قانوناً يجعل من اللغة الفرنسية وحدها اللغة الرسمية في كيبيك، وتم تشكيل "لجنة اللغة الفرنسية" لتكون نوعاً من بوليس لغوي مهمتها ازالة كل اثر لغوي انكليزي من المقاطعة. طلاق ولقيت هذه التدابير ردود فعل سلبية من "الانكليز" والشركات "الانكليزية"، فغادروا المقاطعة بأعداد ضخمة حارمين اقتصاد كيبيك من موارد مهمة. لكن العام 1980 شهد عودة الامور الى نصابها، حين رفضت غالبية اهل كيبيك اقتراح الانفصال في استفتاء حول مصير المقاطعة، وهُزم انفصاليو ليفيك في الانتخابات اللاحقة. وفي العام 1987، صدرت عن حكومة برايان مولورني المحافظة بادرة حسن نيّة تجاه كيبيك حين وقّعت وثيقة تقرّ للمقاطعة صفة "مجتمع متميز"، فخمدت النار تحت الرماد حتى بداية التسعينات حين عادت القلاقل تعتلج في أهل كيبيك من دون ان يتمكن احد من تبرير اسباب دقيقة لعودة الشعلة الانفصالية. ولعل افضل ما قيل في هذه الاسباب ما اقترحه الصحافي الكندي دون جونسون حين قال: "لقد أعلمونا بكل بساطة ان اهل كيبيك يشعرون بالمهانة، وان الوضع القائم غير مقبول". وتابع مقارناً الوضع بزواج في طريقه الى الانهيار "حيث لا يتمكن اي من الفريقين من وضع اصبعه على سبب معين، وحيث كلاهما يعلم ان الطلاق افضل". ومهما تكن اسباب التذمر الكيبيكي الاخير، يبدو اكثر فأكثر ان الاتحاد الكندي القائم منذ 130 سنة يتجه لا محالة نحو الانفصال، بمعزل عن نتائج الاستفتاء الاخير في تشرين الثاني نوفمبر 1995، حين فاز مؤيدو البقاء في الاتحاد بغالبية بسيطة جداً 0.6 في المئة. وفي حال قيام اهل كيبيك بخطوات جديدة في مستقبل قريب نحو الانفصال من الارجح ان يمتنع باقي الكنديين عن اقناعهم بالعودة الى الحظيرة. فالناس هنا، خصوصاً غير الكيبيكيين، يقولون لك بتذمر شديد: "في كل مرة يضرب الكيبيكيون بأقدامهم على الارض، يعطونهم ما يريدون. وهم يطالبون باستمرار بمعاملة متميزة. فاذا شاؤوا الرحيل، لندعهم يفعلون ذلك". وجاءت نتائج استطلاع رأي أجري اخيراً تؤكد ذلك اذ ان 75 في المئة من الكنديين الناطقين بالانكليزية يرحبون بانفصال كيبيك. ما يعني ان الحكومة الكندية غير قادرة على اقناع الانفصاليين بالعودة عن قرارهم من دون ان تثير حفيظة باقي الكنديين، وما يعني ايضاً ان حظوظ كندا في البقاء على شكلها الحالي باتت ضئيلة.