لعل اكثر ما تستغربه الاوساط الشعبية المصرية منذ تحطم طائرة شركة "مصر للطيران" نهاية الشهر الماضي قبالة السواحل الشرقية للولايات المتحدة اكتفاء المسؤولين المصريين بالاجتهاد لمواجهة ما تنقله وسائل الاعلام الاميركية من معلومات يتم تسريبها من فريق الخبراء الاميركيين الذين يتولون التحقيق في القضية سواء في نيويورك أو واشنطن، ويتساءل المصريون عن الاسباب التي تمنع مسؤوليهم من اتباع الاسلوب ذاته باللجوء الى تسريب معلومات مضادة بواسطة المحققين المصريين في شأن ما يجري في الغرف المغلقة خصوصا تلك التي تتعلق بالكلام الذي نطق به أفراد طاقم الطائرة المنكوبة قبيل لحظات من تحطمها والذي سجل في الشريط الاسود الثاني للطائرة. ومنذ اللحظة الأولى للإعلان عن الكارثة شدد الرئيس حسني مبارك على ضرورة عدم استباق الأحداث والتوقف عن اطلاق التكهنات والتحليلات وانتظار نتائج التحقيقات، لكن حالة الغضب العامة التي تفجرت في الاوساط الرسمية والشعبية المصرية خصوصاً والعربية عموماً إثر ما اعتبرته تلك الاوساط "حملة مغرضة لإلصاق تهمة التسبب في الكارثة بأفراد الطاقم او أحدهم" استناداً الى معلومات سربت بواسطة المحققين الاميركيين عن عبارات صدرت على لسانهم، خصوصاً تلك التي نطق بها مساعد الطيار جميل البطوطي "توكلت على اللّه" لم يكن ليخففها اعتذار اميركي ضمني او اعتدال جاء. متأخراً في التناول الاعلامي الاميركي للقضية. وليس سراً ان الصحف المصرية سارعت الى توجيه الاتهامات الى جهات عدة تارة الى شركة "بوينغ" بالحديث عن أخطاء فنية في طائراتها، وتارة أخرى الى المطارات الاميركية بالاشارة الى امكان تسريب مواد متفجرة الى داخل الطائرة أدت الى الكارثة او بتوجيه اصابع الاتهام الى جهاز الاستخبارات الاسرائيلي موساد استناداً الى وجود 33 ضابطاً مصرياً على متن الطائرة. ولكون الاعتقاد سائد بأن "موساد" هو لجهة الوحيدة القادرة على اختراق كل ما هو اميركي، حفلت تلك الصحف بتحليلات وآراء لخبراء وأكاديميين لدعم الاتهامات، ولكنها لم تنشر معلومة واحدة أو حقيقة عن سير التحقيقات منسوبة الى مصدر رسمي، واكتفت بنقل المعلومات التي تتداولها وسائل الاعلام الاميركية ثم الرد عليها إذا لزم الأمر ذلك". والمؤكد ان الاحساس بالفجيعة لدى المصريين يفوق احساس الاميركيين بها، فالطائرة مصرية ووجود ضباط على متنها حرّك الشعور بنظرية المؤامرة، ووقوع الكارثة على بعد آلاف الاميال من ارض الوطن وعجز أسر الضحايا عن اتمام مراسم الدفن والجنائز هز الموروث العقائدي بعنف. لكن القضية فجرت مجدداً الحديث عن حرية تداول المعلومات وصعوبة الحصول عليها في مصر. فالموظف المصري أياً كان موقعه اكثر التزاماً من نظيره الاميركي ببيروقراطية الحكومة، وهو في النهاية مجرد موظف لا يتعاطى السياسة الا بالقدر الذي لا يحتمل ان يهدد مستقبله. ويشكو الصحافيون المصريون من مخاوف المسؤولين من وسائل الاعلام. والمرة الوحيدة التي اعلن فيها مسؤول معلومة تتعلق بالقضية لم يرحمه احد ولم يسانده أي مسؤول آخر. ونفى البيت الابيض ما أعلنه وزير النقل الدكتور إبراهيم الدميري عن ان تراجع السلطات الاميركية عن إحالة قضية الطائرة على مكتب التحقيقات الفيدرالي إف بي آي تم بناء على اتصال هاتفي جرى بين الرئيس حسني مبارك والرئيس بيل كلينتون. وتعرض الدميري لانتقادات حادة على رغم أنه لم يخض في تفاصيل ما يجري في التحقيقات ولم ينطق بكلمة عن ما ورد في التسجيلات. ولا يخفي بعض المصريين امتعاضهم من ان مصر "لم تعد تلعب سياسة". فالموقف من السودان يتحدد بناء على ما يصدر عن زعمائه من تصرفات. والموقف من القضية الفلسطينية يقوم على قبول ما يقبل به الفلسطينيون، والموقف من احداث خيطان في الكويت غلب عليه الحرص على العلاقة مع الكويت. لكن هناك من ينظر الى الأمر بطريقة مختلفة ويرى ان قضية الطائرة "لا تحتمل اللعب". فالمسؤولون المصريون بعيدون مكانياً عن الحدث، وكل المصريين وجدوا انفسهم فجأة في موقف رد الفعل وهم لم يختاروا ان يكونوا كذلك فاضطروا لأن يجتهدوا بشدة لنفي المزاعم في شأن انتحار البطوطي في مواجهة الآلة الإعلامية الأميركية الرهيبة، وبالتالي لم تكن لديهم الفرصة لاجتهاد آخر بعد ما باتوا في موقف لا يتحكم في الأمور. فالفعل هو الذي يحدد المسارات، والمصريون يجيدون دائماً اداء أدوارهم في مواقف رد الفعل. والمؤكد أن المحققين المصريين المشاركين في التحقيقات في نيويوركوواشنطن سيرفعون تقارير الى رؤسائهم وهؤلاء بدورهم سيطلعون عليها ثم يرفعونها الى رؤسائهم مع التوصية بالرأي. ولن يلجأ أي منهم إلى تسريب ما سمعه او اطلع عليه فمصلحة الدولة أهم من ان يعلم الآخرون حقيقة ما يجري.