كنتُ جالساً أشاهدُ التلفاز، عندما انقطعَ التيّار الكهربائي فجأة، فغرقَتْ الغرفة في الظلام. لم أكن أخاف العتمة. لكنني تضايقتُ عندما نظرتُ حولي فلم أستطع أن أرى شيئاً. فنهضتُ لأجيء بالشموع الموجودة في الخزانة. حرَّكتُ يدي في الظلام وأنا أحاول النهوض، فوقعَتْ على شيء ليِّنٍ علمتُ بسهولة أنه فخْذي! ثم لامَسَتْ يدي شيئاً خشناً فعلمتُ أنه قماش الأريكة التي أجلسُ عليها. ثم ها هي تحتكُّ بشيء صلبٍ وبارد: إنه جدار الغرفة .. لقد أدهشني وأنا أتفحّصُ الأشياء على هذا الشكل أنني أرى بأصابعي بدَلَ أن أرى بعينيّ! ووجدتُ ذلك مسلّياً. استندتُ بكتفي إلى الجدار ومشيت. فسمعتُ في هذه اللحظة طَرْقاً على الباب: - طق .. طق .. طق .. طق .. مَنْ القادم لزيارتي في هذا الوقت؟ - طق .. طق .. طق .. طق .. أينَ بابُ الغرفة؟ كيف أجدُ الباب في هذا الظلام الدامس؟ رحتُ أتحسّسُ الجدار بيدي حتى وصلتُ إلى الباب الذي عرفتُهُ من خلال ملامستي لسطحه الخشب الأملس. فتحتُ الباب، وقلتُ للزائر الذي لا أراه: - تفضّل. فلم يدخل أحد.. وسمعتُ من جديد نقراً على الباب! عجباً ... الباب مفتوح وأنا أسمع نقراً عليه! كيف يحدثُ هذا؟ أحسستُ ببعض الخوف. لكنَّ خوفي ما لبثَ أن تلاشى عندما علمتُ أنَّ ما فتحتُه هو باب الحمّام وليس باب البيت. - طق .. طق .. طق .. النَّقْر على الباب لا يزال يتواصل. تابعتُ تحسُّسَ الجدار حتى وصلت إلى باب البيت، وفتحتُهُ، ومَدَدْتُ يدي لأتعرَّف إلى القادم من خلال ملامستي له، فقبضَتْ أصابعي على شيءٍ خَشِنٍ علمتُ على الفور أنّه لحيةُ جارنا! قال جاري: - هل تقرضُني شمعة؟ قلت: - أقرضُك .. تفضّل .. تفضّل. دخل جاري الى البيت، فتعثر بعد دخوله بقليل بطرف الأريكة، وسمعتُهُ يهوي إلى الأرض ويرتطم بالبلاط الصّلب. أسرعتُ لمساعدته، فدستُ على يده فصاحَ متألماً .. فرأيتُ أن من الأفضل أن أُحْضِرَ الشموع أولاً ثم أساعدُه، وتابعتُ المشي في الظلام نحو الخزانة حيثُ توجد الشموع. كانت يداي هما اللتان تحدّدان لي طريقي وتعرّفانني بالأشياء التي أصادفها. فاهتديت إلى الخزانة من خلال ملامستي لخشبِها الناعم المصقول. وبالطريقة نفسها اهتديتُ الى الشموع في أحد أدراج الخزانة ... الشموع الآن في قبضتي .. لكنْ، أين علبة الثقاب؟ كان عليَّ أن أبحث عن علبة الثقاب أولاً ثم عن الشموع .. هذا خطأ لن أكرّره في مرة قادمة. وجدتُ صعوبة في العثور على علبة الثقاب في إحدى زوايا المطبخ .. ولم أكدْ أشعل عود الثقاب، حتى عاد التيّار الكهربائي فجأة، وامتلأ البيت بالضّوء. بعد عودة الضّوء، اكتشفتُ شيئاً مدهشاً وهو أنني أستطيع أن أعرف ملامس الأشياء من دون أن ألمسها: فبلاطُ الغرفة صلبٌ وأملس. والعجين المُعدُّ لصنع الفطائر أعلم أنه ليّن دونما حاجة إلى لمسه. زجاج النافذة أملس أيضاً. والستارة خشنة. ها أنا أسمع في هذه اللحظة باب البيت ينطبق. فأنتبهُ لجاري الذي تركتُهُ ممدّداً على بلاط الغرفة، وأخفُّ لمساعدته فلا أجدُهُ حيث تركته. لقد ذهبَ هو الآخر من البيت مع ذهاب العتمة! أنا فتىً .. أنا فتىً مرتَّبٌ منظَّمٌ مُسدَّدُ لكلِّ شيءٍ خصَّني مكانُهُ المحدَّدُ وكلُّ مَنْ يعرفني على انتباهي يشهدُ فمكتبي منضَّدٌ ومجلسي مُمَهَّدُ والشيءُ إنْ طلبتُه فإنه لا يُفْقَدُ يكونُ دوماً ماثلاً هناك حيثُ أقصدُ أنا فتىً على النظامِ دائماً مُعَوَّدُ لا توجدُ الفوضى ولا الإهمالُ حيثُ أُوْجَدُ