التصوير والتأمّل والتساؤلات والغموض الشفّاف، هذه هي العناصر الأشدّ بروزًا في قصيدة الشاعر زهير أبو شايب. عناصر تمنح متعة القراءة، المتعة التي تبلغ حدّ النشوة. فالقصيدة مزيج من عوالم عدّة، لغوية وبلاغية وفلسفية وسرديّة، هي التي تمنحها خصوصيّتها وتفرّدها. الأمر ليس جديداً في تجربة الشاعر الفلسطينيّ الحائز جائزة محمود درويش (2012)، فمنذ بداياته الشعريّة، كانت ثمّة بذرة «غريبة»، ومختلفة عمّا نسمع ونقرأ في الشعر الفلسطيني خصوصًا، والعربي عمومًا، لجهة قدرته على خلق «توليفة» شِعريّة مضبوطة الإيقاع، في بناء بلا زوائد، وقادر على «القول» بلا أي صراخ، خصوصًا حين «يقول» فلسطين (ه) هو، على نحو ما، غير مباشر في غالب الأحيان. هذا الشعور تعمل على ترسيخه مجموعته الشعرية الجديدة «مطر سريّ» (الدار الأهلية، عمّان 2016)، المجموعة التي تبدو وكأنّها كُتبت، بأقسامها الخمسة، بوصفها قصيدة واحدة، ما يجعلها تخرج من كونها مجرّد مجموعة قصائد متفرّقة، لذا فهي تستحق اسم «كتاب شِعريّ»، من حيث وحدة الموضوع أوّلاً، وأدوات العمل وأسلوبه ثانياً، والرؤية التي تحكم النصوص/ النصّ بأجزائه ثالثاً، ومن حيث الخلاصة التي تقودنا إليها، ولا يمكن «اختزالها» أو تفسيرها حتّى. منذ عتبة العنوان «مطر سريّ»، حتّى آخر سطر فيه، يأخذنا أبو شايب إلى عوالمه المحتشدة بالمُدهش، البريّ والطبيعيّ، الإنسانيّ الدافئ والحميميّ، عبر صُوَر وتأمّلات في موضوعة «الحبّ»، ضمن مستوياته المتعدّدة، الحبّ الذي يتّخذ صورة «المحلوم به» أو التجربة «المعيشة»، أو كلتيهما معاً. ما يجعلنا أمام «قصيدة حبّ» تنأى عن لغة الغزل المبذول في الشعر العربيّ، لتغوص في عوالم الشاعر بأبعادها الإنسانيّة والوجودية الأعمق. على مستوى البناء الهندسيّ/ الفنّي للديوان، وبعد العنوان، يأتي الإهداء، ذو الدلالة الساطعة على موقف أبو شايب من الثورة السورية، ومن الطاغية أيضًا، إذ يهدي كتابه «إلى سوريّة: أمّي الكبرى، إلى السوريّين: أهلي الذين يتوهّج دمُهم في عتمة الطاغوت». ويقسم الشاعر ديوانه إلى أبواب بعناوين خمسة كبيرة، في كل باب مقتطف من أحد كبار المبدعين، من التراث الإنسانيّ، وإحدى عشرة قصيدة/ مقطوعة، أي أننا أمام «خمس وخمسين قصيدة حبّ». حُدوس وأسئلة نبدأ الديوان بعنوان «بعضُ الفراشات وبعضُ النّار»، ومقتطف من أوفيد ( 43 - 17 - ق.م)، الشاعر الرومانيّ صاحب «فنّ الهوى» و»التحولات «، حيث يستعير أبو شايب، فقرة عن الكتابة والحبّ مدخَلًا لهذا الباب، هي «ابسُط الشمع فوقَ ألواح الكتابةِ الملَساء، قَبْلَ أن تَخُطَّ عليها الكلِمات، واهمِسْ لكِتابِكَ بنيّاتكَ، حَمِّلْهُ نبضَ وجدانكَ وانبهارَكَ بمفاتنها، وأضِفْ ضَراعاتِ الحُبِّ عُربونًا لتستميلَها، فمِن قَبلُ استَمالَت الضَراعةُ قَلبَ أخيل». ما يعني أنّنا هنا أمام «تضرّع» الشاعر للحبيبة. فأيّ ضراعة؟ وفي مجموعة تحمل عنوان «مطر سريّ»، ثمّة ماءٌ كثير، ولكن ليس ثمّة حضور كبير لمفردة المطر، فهي تمتلك حضورًا «قليلًا»، لكنّه كثيف وعميق. أمّا الحيّز الأساس في المجموعة، فهو ل «عالَم الحبّ»، عالَم ينطوي على صور «حبّ» ملتبس، بين أن يكون حبّ رجل/ امرأة، ذكورة/ أنوثة، كما يبدو للوهلة الأولى، لكنّ ثمّة أبعاداً «سِريّة»، وراء هذه الصورة الظاهرة؟ فنحن حيال صور ونماذج من الحبّ والعشق والاشتهاء، صور تحيل على ما هو أبعد من ثنائية ذكورة/ أنوثة. ويختصرها هذا البيت من نصّ موزون مقفّى «لأنني أنتِ، أَنسى أنّكِ امرأةٌ/ تُسبّبُ الليلَ، أنسى أنّني رجلُ»! القصيدة الأولى في الباب الأول، بعنوان «قبل عينيكِ»، نتوغل فيها، فنجد أننا في بحر من المعاني الكثيفة والعميقة، نمضي في رحلة زمنية/ مكانية، حيث «كانت الوردةُ لا تَرمُزُ في الشِعرِ إلى شيْءٍ/ وكانَ البَحرُ لا يَبعُدُ عن صورتهِ إلاّ قليلاً؟»، و «ربّما كنتُ رَماديّاً قليلاً قبل عينيك»، وما «بعد عينيكِ» حيث «مُذْ قُلتِ لعِينَيْكِ: انظُرا كَيْ تَرَيا، غِبتِ/ تَرينَ البحرَ/ لكنْ لا تَرينَ الجبَلَ الغارقَ في البَحرِ». نحن هنا في رحلة التحوّلات والفرق بين ما «قبل» وما «بعد»، وهو فرق في «الرؤية»، رؤية قد تعني الإبصار، وقد تعني الحدس والتخيّل، حيث عبارة «غبتِ» ذات الإيحاء الصوفيّ. ثم يكمل الشاعر بما يحيل على المعنى «الرؤيويّ» للفعل «رأى»، بل تحضر الإحالة الصوفية على نحو أشد سطوعاً، لنتابع «مَوجودونَ في الحُلْمِ الّذي لَم تَرَهُ عَيناكِ/ مَوجودونَ في مُستقبَلٍ نجهَلُ من أيِّ الحكاياتِ سيأتي/.../ فانظُري في حُلْمِكِ الآنَ هُنا حتّى تَريني/ وانظُري في حُلُمي حتّى ترَيْ نَفْسَكِ أنتِ». فأيّ امرأة هي هذه، وأيّ حبّ هذا الذي ينطوي على قدر من «الحُلوليّة» بين العاشق والمعشوق؟ هل هو «حلول» المتصوّف ولكن في صورة امرأة؟ ربّما كان هذا، لكن ماذا عن المستقبل الذي «نجهل من أيِّ الحكاياتِ سيأتي» في النصّ؟ هنا تتداخل أبعاد «الحكاية» ودلالاتها، وتفتح القصيدة أبوابها للقراءات والتأويلات المتعددة، بما يتيح التساؤل عن «طبيعة» الأنثى، أهي امرأة أم بلاد، أم هي «الأنثى» الحلميّة التي يقول لها وعنها «جئتِ من حلُمي، وأنّكِ لن تَكوني في مكانٍ ما سوى هذي القصيدة». الواقعيّ والحلميّ ذلك كلّه، وغيره الكثير، هو مما يحيلنا على عالم «مخلوق» من الأحلام والرؤى التي تنتمي إلى «غيب» ما، عالم يتخطى الموجود إلى «المفقود». والواقعيّ إلى «الحلميّ». يتداخل الروحانيّ بالجسديّ/ الشهوانيّ، كما في قصيدة «دعيني هنا» يتساءل بطل القصيدة «تَعرِفينَ هُنا أينَ توجَدُ؟..»، ويجيب «حيثُ يَغتسلُ القَلبُ في الشهَواتِ/../ حيثُ غِيابُكِ يَحرُسُ غَيبوبَتي/ إذا شئْتَ أن تتَذوّقَ أعذبَ ما في الوجودِ/ فَعِشْ في خطَرْ»، فال «هنا» هو مكان على الحافة، حافة هي «الخطر»، وهو استعارة من (نيتشة). وقريباً من هذا «الخطر»، تأتي من نصّ آخر رؤية مماثلة «أبحَثُ عن شهَواتٍ أقلَّ رمادًا»، أي على الحافة، حيث الرماديّ غالباً ما يحيل على «الوسط». وتظل قصيدة أبو شايب تحلّق في دائرة رؤى فلسفيّة «مكسوّة» بالشعر، وشعر مكتنز بأسئلة الحياة الفلسفية، الحياة بأبعادها الماديّة والروحانيّة، وقد تجلّت في صور من الحبّ، تتسرّب في رؤى كأنّها «مطرٌ سريّ»، حاملة فلسفة حبّ الحياة وشهوة التحليق، وسوى ذلك من «علامات» الجنون. فنحن هنا حيال صور من النحت في الماء، أو الحفر في الهواء. نحن أمام ذات خلاقة، من جانب، ومن جانب مقابل هي ذات تبحث عن «رحِمٍ» يلدُها، ونبقى في منطقة التباس «الأنثى» التي يرادُ منها ولها أن تكون «ولّادة»، حتّى حين نقترب من صورة الأنثى/ الوطن والبلاد والتاريخ، كما في قصيدة «كم سماؤكِ شرقيّة»، حيث تظهر الأنثى في غموض يشفّ عمّا ترمز إليه هذه الشرقيّة، فهي: شهرَزاديّةٌ/.../ تتنقّلُ عاريةً في الجبالِ الّتي قَبْلَ روما/ وظَلّتْ بكاملِ رُمّانهِا الملَكيِّ/ تُطلُّ على ظِلِّها/ وهْوَ يَمتدُّ أخضرَ أخضرَ/ من سَفحِ جَلعادَ حتّى فلَسطينَ/ وكواكبُها دائمًا تتَسلَّلُ/ بينَ المنازلِ والذِكرياتْ». ومع ذلك، فهذه مجرّد قراءة تحتاج إلى المزيد من «الإشارات» لتدعمها، إذ يظلّ السؤال: عن أي «ظلّ» يجري الكلام هنا؟ وعلى رغم بعض الإحالات التراثيّة لصور «المطر»، الذي هو عنوان المجموعة «معي مطرٌ جاهليٌّ»، إلا أنها تأخذنا إلى المزيد من الأسئلة، كما في قول الشاعر «أبحث عن شهَواتٍ أقلّ رمادًا/ وعن مطرٍ غيرِ هذا/ جريء ومتّسخٍ..»، كما أنّه يحمل أسماء أخرى تحيل عليه «الشتاءُ تأجّل من أجلنا/ لا شتاء ولا أنتِ»، وكذلك في صورة «أنا ماءُ السماء/ أحلُم أن أهطل تحت الثياب»، لكنّ الأكثر مدعاة للتساؤل هو ارتباط المطر بالجنون في «مطرٌ مسّني يا سَماءُ وغيّرَني، مسَّني وتغيّرْ/ وأنا مطرٌ ليس أكثر/ مطرٌ دافئٌ ليس أكثرْ/ وأنا أنتِ، لكنّني لَم أعُدْ أتذكّرْ». نختم مع عنصر «الحكي» المدهش، متمثّلاً في تساؤل شخص القصيدة الموجّه إلى الحبيبة، الصديقة، وما ينطوي عليه هذا التساؤل الشعريّ، من تفاصيل سردية، هي بين الوصف والتصوير والتأمّل «ألا تحلمين بنافذة شبْهِ مفتوحةٍ/ يَتسرّبُ ضَوْءُ المدينةِ مِنها وضَوضاؤُها/ وتُطلُّ على البَحرِ/ في فندُقٍ يتكوّنُ من: غُرفةٍ ليسَ فيها سوى مقعدَيْنِ وطاولةٍ وسريرٍ صغيرٍ عَليْنا/ ونحنُ معًا نتَبدّدُ في الضَوءِ، عُضوًا فعُضوًا؟». ربّما كان في استعارة الشاعر من كتاب إريك فروم «فنّ الحبّ»، ما يحيل على طبيعة «الحبّ» في مجموعة القصائد التي تحت باب «سماء شرقيّة»، يقول فروم: «إذا استطعتُ أن أقولَ لشخصٍ آخَرَ: إنّي أحبُّكَ، فيجبُ أن أكون قادرًا على أن أقولَ: إنّني أحبّ فيكَ كلَّ شخصٍ، أحبُّ من خلالك العالَمَ، أحبُّ فيكَ نفسي أيضًا». عمومًا، لا أرى أنّني قلت ما ينبغي عن المجموعة، ويظل الحديث عنها ناقصاً، لكن لا بدّ من الإشارة إلى الحضور «العفويّ» للقصيدة بالنثر، كما هو الحال في نص «أحمل ناري بيدي»، حيث في نهاية القصيدة شاعر يتكلم مع قصيدته ليكمل كتابتها. لكنّها غائبة، فيخاطبها «غيبي كما يحلو لكِ. سأجدك في الغياب. المكان الذي أنتِ فيه هُو أنا. سأحبسُكِ فيّ، وألعقُكِ مثلما تلعقُ العتمةُ جُدرانَ البيوت، وسأفقدُك، وأبحث عنكِ مثلَ أعمى».