حالة اكتئاب حادة جعلتني أبلع أول علبة أقراص سقطت في يدي. لم تكن المحاولة الأولى للانتحار بل كانت الثانية، ومع ذلك نجيت منهابسهولة! لا أدري هل هو سوء حظ أم ساعة نحس حين ابتلعت تلك الأقراص، فقد كانت عبارة عن ملّين للأمعاء. لذلك أصبت بحالة إسهال حادة نقلت على إثرها إلى المشفى. أتذكر جيدا قبل عام تقريبا هذه السيارة بكل تفاصيلها، سقفها العالي، سريرها المتحرك، رائحة المعقمات، أسطوانة الأكسجين،هواءها البارد كعاصفة الثلج. وحين رميت بنفسي من أعلى البناية سقطت على سقفها حين كانت مارة بالصدفة في نفس الشارع، ونقلتني إلى المستشفى، ولم أُصب إلا برضوض وخدوش، مما جعل إدارة المستشفى تغرمني ثمن إصلاح السيارة، وبعدها أحالوني إلى قسم الشرطة لمعرفة أسباب الانتحار، ولما لم يجدوا عندي سبباً مقنعاً للانتحار، جعلوني أكتب تعهدا خطيا على نفسي بعدم المحاولة مرة أخرى وأطلق سراحي! هذه المرة تعاطف مع حالتي الطبيب، فنصحني بأن أتعامى عن الواقع، اقترح عليّ أن ألبس نظارة سوداء، أو أسد أذنيّ وأغمض عيني، وألا أشاهد نشرات الأخبار، أو أستبدلها بمسرحية فكاهية، أو بفلم مضحك، وأن أهجر مواقع التواصل الاجتماعي، وأن لا أتتبع الأخبار العاجلة. أخذت تنظر إليّ بدهشة، مددت يدي وسحبت معطفها الناعم، لففته على عينيّ حتى دخلت في أستار العتمة الحالكة. أخذت زوجتي تترجاني بأن لا أضر نفسي أو أقدم على الانتحارمرة أخرى على الأقل من أجل طفلنا الذي في أحشائها! لم أعرها انتباهي فأخذت أتحرك في غرفة المعيشة وأنا أتحسس الأشياء بيديّ. أخذت أجوب المكان فتارة أصطدم بأثاث المنزل، وتارة أتعثر به حتى سال الدم الدافئ بين أسناني فقمت بابتلاعه، مذاقه لم يكن بذلك السوء الذي كنت أعتقده ، وكنت في السابق أسارع إلى بصقه بقوة. تذكرت أحداث الأمس ولا أدري هل دخلت في يوم جديد أم نمت بعمق لساعات معدودة؟ هل أنا الآن في ليلٍ أم نهار؟ نهضت ببطء، دلفت إلى غرفة النوم وأنا أتلمس الطريق حتى وقعت يدي على طاولة الزينة حيث كنت أحتفظ بعلبة مسكن وضعتها من مدة غير طويلة حسب ما أتذكر. بحثت عنهافلم أجدها، قلّبت كل علبة وكل زجاجة، تحسست كل شيء فيها فلم أجدها، نفد صبري سريعا فرميت كل زجاجة عطر، وكل علبة أصباغ كانت على الطاولة، تكسر كل شيء فاختلطت الروائح في المكان. وقفت برهة أفكر في شكل العلبة حتى تذكرت شكلها. تقلصت عندي دائرة الافتراضات، فتحت أول علبة سكبتها في راحة يدي، ثم أخذت قرصا ولكني وجدته صغير الحجم، أعدت الأقراص في العلبة ووضعتها جانبا، أخذت علبة أخرى قبضتها بيدي، ثم أخذت أستذكر كيف كان غطاء العلبة،أحسست بكبر حجم الغطاء وبتعرجات غير مألوفة فيها، فوضعتها جانباً، أخذت علبة أخرى شككت أن تكون هي، فأخذت قرصا أدرته بين إبهامي وسبابتي، تأكدت من حجم القرص ثم وضعته على لساني حتى أتأكد من طعمه، فلما استيقنت منه ابتلعته، ثم ذهبت واستلقيت على الأريكة. بعد أن هدأت نوبة الألم جلست من رقدتي وناديت على زوجتي فلم تجبني،.. اليوم لا أدري كيف سأبدأ يومي؟ لذا أردت أن أكتشف نفسي أن أراها من الداخل حتى يتساوى عندي الوقت، لا فرق بين الليل و النهار، أردت أن أفتح كوة في قلبي وفي جدار العمى الاختياري؛ لأرى العالم من جديد، وبطريقة أخرى غير تشاؤمية، أردت أن أعيد بناء المفاهيم والتصورات المرئية فأخذت أتحسس أجزاء من جسدي، قسمات وجهي، ملمس شعري،أخذت أشم راحة يدي وساعدي، أخذت أتذوق طعم جلدي، ألعق أي شيء يسقط في يدي، أعبث به حتى يخصب خيالي! نسيت عماي ورحت أدور في الشقة وحواسي كلها متقدة، فهي دليلي الجديد، وحتى اكتشفت الأشياء من جديد. اكتشفت أن كل شيء له مفهوم مغاير عما كان في ذهني. فكل شيء له طعم ورائحة، وملمس. أعدت رسم كل شيء أكتشفه من خلال حواسي كلها، وليس فقط من نظرة خاطفة! مضى حين من الدهر وأنا على هذه الحال، لا أدري هل كانت أياماً أم شهوراً. أصبحت أرى في الظلمة، لا أحتاج عصا أو دليلاً. تحطم الحصن الذي طوق مخيلتي. اكتشفت أن البصر يقين يصيب الإنسان بالعمى الأخلاقي والمعرفي، في حين أن العمى مُطهّر للحقائق، وأن العتمة ليست بذلك الرعب من التصور الذي كنت أعتقده في الصغر حين تطفأ الأنوار، فيتنامى القلق في داخلي، وكأني وصلت لنهاية الحياة. والحال البائس الذي كنت أعيشه في النور سمعت شقشقة العصافير تلوح بالقرب من النافذة، فتوجهت إليها كي أفتحها. وحين اقتربت منها وطأت على شيء مرن أثار استغرابي، نزلت أتحسسه، وإذا بدفعة قوية على صدري أعادتني للخلف، وأسقطتني أرضا! رفعت العصابة عن عيني وأنا في حال الدهشة، وإذا بها زوجتي كانت تجلس هناك بصمت! وأنا الذي كنت أظنها طوال هذه الفترة أنها هاجرت المنزل بلا عودة، ولكن يبدو أني تعاميت عن الوجود في حين تعامت هي عن وجودي ، وصامت عن الكلام!