قصة: أندريه شديد أندريه شديد من أصول لبنانية، من مواليد القاهرة في 20 مارس 1921 لعائلة لبنانية هاجرت إلى مصر، التي عاشت فيها صباها، قبل أن تعود الى لبنان لسنتين وتستقر في باريس منذ العام 1946 إلى أن وافتها المنية سنة 2011. كتبت غير نوع أدبي (الشعر، الرواية، القصة، القصة القصيرة والمسرحية وغيرها)، وفازت بالعديد من الجوائز الأدبية منذ العام 1966، سواء في الشعر أو في القصة القصيرة، وأشهرها جائزة مالارميه وجائزة الأكاديمية الملكية البلجيكية وجائزة الأكاديمية الفرنسية وغيرها. أصدرت شديد ما يزيد على ثلاث عشرة رواية وقصة قصيرة، منها «اليوم السادس» (1960)، «الباقي على قيد الحياة» (1963)، «الآخر» (1969)، «المدينة الخصبة» (1972)، «نفرتيتي وحلم اخناتون» (1974)، «درجات الرمل» (1981)، «البيت من دون جذور» (1983) «الصبي المتعدد» (1989) «المرأة ذات الرداء الأحمر» (1992).. التي أخذنا منها قصة الوشاح. ولقد جرى اقتباس روايتين من أعمالها للشاشة الكبيرة «اليوم السادس» (من اخراج: يوسف شاهين، وبطولة داليدا) و«الآخر» (من اخراج برنار جيرودو، وبطولة فرنشيسكو رابال) كما جرى اقتباس روايات وقصص قصيرة للمسرح، مثل: «نفرتيتي وحلم اخناتون»، و«الآخر» و«درجات الرمل». **** - ها أنت قد استعددت يا أم جميل! إذن سيأتي هذا المساء. هل أنت متأكدة؟ - معي رسالته. ردت العجوز. هنا. وطبطبت بكفها على صدرها. - فليسمع منك الله. عقب نجم. قرية أم جميل منتصبة فوق التلال كعدد من القرى اللبنانية تحضن البحر الأبيض المتوسط بنظرة واحدة. جبل شامخ مغطى بالثلوج. سماء دائرية... يمكننا تتبع مسار الطريق الأسفلتية إلى الساحل وهي تتلوى بين أشجار الصنوبر والزيتون. أرض صهباء على جنباتها حيث كروم العنب تسير بجانب التلة والبيوت. عند مدخل المدينة تواجهك فسقية منحوتة في الصخر. تشبه المدينة من فوق سعفة نخل مشرعة على البحر. ابتعد نجم والمعول فوق كتفه. - اسمع. قالت العجوز. ساحبة الرسالة من مخبئها كي تطلعه على مضمونها. فجأة تبدأ بسرد محتواها: «أمي العزيزة. في ليلة 31 دجنبر. سأصعد عندك. سنمضي السهرة معا. ابنك المحب جميل». كانت تستلذذ الكلمات الأخيرة متوقفة عند كل حرف. - يجب أن أسرع. قاطعها نجم. إذا تأخرت هذا المساء، فإن زكية والأطفال سيقلقون. إلى الغد. انصرف مدندنا، وعندما ابتعد قليلا التفت قائلا: - سهرة سعيدة. أبلغي جميلا سلامي. هزت العجوز كتفيها: «أعلم جيدا ما تفكر به!» يشبه الآخرين. الكل يدعي أن ابنها شاب فاشل. «يلاحق الفتيات ويبدد أمواله في القمار، ويحس بالمهانة لأن أمه قروية» هذا ما يشيعونه. مجرد إشاعات. هي تعرف حقيقة ابنها. تعرفه جيدا أفضل من الآخرين. سيموتون غيظا لأنه أذكى منهم جميعهم. منذ أربع سنوات اختار الرحيل. ألا ينبغي على الأقل أن نتفهم دوافعه؟ حياة مختلفة لرجل الأعمال غير الحياة العادية لساكني القرية. «ما إن أستطيع، فسأحضر» كتب في كل مرة. لم يكذب ما دام بعد ساعات سيكون هنا. رغم المسافة ورغم وسائل الترفيه في المدينة -خصوصا مساء العيد- سيكون هنا. وحدهما سيسهران معا فقط وحدهما. غدا سيزوران الجيران وسيشاهدونها وهي تسير إلى جانب ابنها. سيكون هذا جميلا وعظيما... ربما ستشد ذراعه! تتخيله غدا يرتدي سترة جديدة ومنديل جيب جديدا. وهذه اللؤلؤة على ربطة العنق التي تباهى بها في صورته الأخيرة. سيطرقان الأبواب. جنبا إلى جنب كي يتمنيا للكل عيدا سعيدا. سيرى الجيران جيدا أن جميلا لا يتعير من أمه. « ابنك الحبيب» همست لنفسها متذكرة كلمات الرسالة. يعهد لأم جميل بأشق الأعمال في ثلاثة أو أربعة منازل ثرية تشتغل بها: تكشط البلاط. تغسل السطوح والشرفات. تنظف الشراشف. تمسح النوافذ الكبيرة. تبدو هزيلة لكنها صلبة كجذر وصبرها لا حدود له. ما إن يعود الأطفال من المدرسة حتى يتحلقوا حولها نازعين أحذيتهم كي يتعلموا السير مثلها بخطى مشابهة على بساط أو على ممشى الحصى. كانت تجمع شعرها داخل منديل أحمر قان تعقده على شكل مثلث وتحته جديلتان صغيرتان وحميميتان تتأرجحان كحبل بوداعة. كان الصغار يلقبونها ب« الموهيكانس الأخير» لأن جلدها مدبوغ بسبب عادة مضغ التبغ. كل ما كانت تقوم به من أعمال يأخذ طابع الطقس: إعداد المدفأة، إذكاء النار... كانت تضع ثمار الصنوبر فوق مجموعة متشابكة من العساليج، أسفلها حزمة من الأعواد. تضرم النار بعود ثقاب تدس يدها بمهارة تحت الصقالة مقرفصة بقدمين حافيتين تراقب خيط النار وهو يتحول إلى لهب، لسان، ودوار. على الرغم من أن العجوز معتادة على هذا المشهد، إلا أنها لم تستطع أن تزيح عينيها عنه عامدة إلى التلاعب بأصابعها مبرزة للاطفال ظلالا هي صور شخوص أو طائر أو سيف. لكن في فترة الاعياد، فأم جميل لا تغادر قط منزلها. كانت الساعة قد تجاوزت الخامسة. وكان الليل يرشح من الطبقات النحاسية التي تزين الافق. غرفتا ام جميل مبلطتان ومفتوحتان على بعضهما. يبدو بياضهما حديثا. نرى بداخلهما ثلاثة مقاعد مغلفة بأغطية من القماش. خزانة وصندوق عتيق. بجوار النافذة وفوق المنضدة شجرة أرز صغيرة مزدانة بكرات براقة وشموع ملونة. كانت تفوح رائحة الصابون والثياب المكوية من كل مكان. وضعت أم جميل المائدة في مكان بارز وغطت خشبها الأبيض بسماط منشى وضع فوقها خمسة عشر صحنا تبدأ بعصافير مشوية وتنتهي بقطع حلوى محشوة بجوز الهند واللوز. لا ينقص الطعام أي شيء. أخرجت من خزنة الطعام زجاجة مشروب منعش غلفتها بمنديل ووضعتها داخل وعاء طيني مصبوغ بالأحمر. وداخل صحن فارغ وضعت الهدية وهي عبارة عن وشاح نسجته بنفسها. في الغرفة الثانية نرى سرير الشاب معدا ولا ينقصه سوى أن يندس تحت الأغطيته اللامعة. فوق الوسادة منامة جديدة. أما العجوز فستنام فوق الفراش الأرضي. كانت مدخراتها المالية محدودة. ما يكفي لسداد حاجياتها، لكن فيم سينفع المال إن لم يصرف على يوم كهذا اليوم؟ تدق الساعة ثماني دقات. كانت أم جميل متوترة بملابسها الجديدة وهي تمشي حتى نهاية الغرفة. كيف سيكون انطباع ابنها؟ وقفت أمام المرآة، عدلت منديل رأسها. هل شاخت؟ كانت عيناها صغيرتين، فحاولت تمطيطهما، لكنها لم تستطع تحمل مجهودها. مسدت الملمس الناعم لسترتها. نفضت بظاهر كفها بعض الغبار العالق بتنورتها البنية. ثم انحنت لتبسط كميها الصوفيين. كانت قدماها متدفئتين، لكن حذاءها الملمع يضيق على قدميها. لا بد من تحمله كي لا يجدها جميل مختلفة عن نساء المدينة. حوالى التاسعة دقت الساعة مرة أخرى. كان صندوق السنديان الذي لمعته العجوز حتى انمحت أصابعها يبرق في مكانه. في العاشرة فكرت أم جميل أن ابنها على وشك الوصول فأسندت جبينها إلى زجاج النافذة. كانت المنازل المجاورة تشبه مصابيح من الورق. حاولت أن تحافظ على بترول الفوانيس وفتيل الشموع التي ستعطي فيما بعد شعلتها الكاملة لأنها كانت مترددة من إضاءة البيت برمته. مضت ثلاثون دقيقة وهي هكذا وجهها ملتصق بزجاج النافذة. ودون وعي. وجدت نفسها، فيما بعد أمام الباب تدير مقبضه، متجاوزة عتبة الباب. في الخارج هواء صقيعي خدر ساقيها. أصرت أن تبقى في مكانها محاولة اختراق عتمة مشاهدتها. على المسلك المبتعد عن الطريق المعبد المنزاحة عن القرية والمرتقية على طول الحديقة. لا تميز أي ملمح ومع ذلك كانت بالمرصاد لأي صوت متمنية أن تسمع طقطقة خطوة، صوتا مناديا، لكنها لا تسمع غير صوت الريح التي تندفع بهبات على الشرفة. كانت مصحوبة أحيانا بغناء خافت وضحكات في الجوار. كانت مشرئبة تخمن إذا ما ظهرت في أسفل الطريق الأسفلتية الأضواء. يقولون إن ابنها غني. ولا بد أنه يملك سيارة. تتخيله برضى أمام مقود سيارته. لكن الطريق غارقة في الظلمة والتلال المحيطة لا تلمع إلا بأضواء المنازل. إذا تطلع أحد الجيران في هذه اللحظة بالذات من نافذته، فإنه سيصيح: «تعالوا لتنظروا إلى الظلمة هناك في بيت أم جميل» وحينها سيبدأون بالثرثرة أن جميلا لم يحضر وربما لن يحضر أبدا. تمطط الفوانيس ظلال الأشياء مانحة إياها مسحة حزينة. عادت أم جميل إلى بيتها بسرعة وبضربة مكبس أججت الضوء الخافت للفانوسين المعلقين على كلابين عاليين. الساعة تجاوزت الحادية عشرة. يجب الاسراع كي يبدو كل شيء في جو الاحتفال بحثت عن المقعد الصغير وصعدت فوقه. اشعلت شموع الصنوبرة الواحدة تلو الأخرى. بدأت الفتائل تختلج، هبت من الباب المنفرج رياح قوية. ولكن لماذا إغلاق الباب؟ بين الفينة والأخرى سيكون جميل هنا. وعندما سيرى ظهر أمه، سيتقدم بدون ضوضاء، سيحضن جسدها ويقبل رقبتها. كان يتميز دائما بطبع فكاهي، ثم ستدعي أنها ارتعبت كثيرا. الشجرة تتلألأ والظلال تتراقص كوحوش ذات ريش، وأزهار ونجوم. لكن لا أحد دفع الباب ودخل... نزلت أم جميل من على المقعد. يا لها من شيخوخة في المفاصل! دست كفها تحت الصدرية كي تطمئن: الرسالة ما زالت في مكانها. عرفتها من ملمس الظرف والطابعين البريديين. دارت حول المائدة وغيرت موضع الابريق والهدية «هذا فصل الشتاء ولا ينبغي أن تترك وشاحك» لا بد أن جميل يقود سيارته بنوافذ مفتوحة. ستلح عليه» يجب يا بني أن تفكر بالتدثر من البرد». منتصف الليل إلا ربع. مرة أخرى تقف أم جميل على عتبة الباب حاملة فانوسا بيديها. تنظر إلى البعيد شاعرة بتشنج في اليدين وفي ربلة الساق. قدماها أيضا تؤلمانها إلى درجة أنها حاولت خلع حذائها. ورغم ذلك فليس هذا الجسد الهرم ما يؤلمها كثيرا... هل من الممكن إيقاف عقارب الساعة؟ «إذا حل منتصف الليل فلا جدوى من الانتظار» منتصف الليل. الباب موصد بالمزلاج. نظرتها شاردة ومثبتة على ميناء الساعة الأبيض حيث العقربان يفترقان. تبدو هذه الساعة ذات الاطار الخشبي كتابوت. الأجراس تقرع. وأمام ناظريها يطلق بعض الجيران شهبا نارية. يتراقصون يصافحون ويتواددون إنها بداية عام جديد. «إذن سيعلم الجيران كل شيء. ماذا سيقولون؟ ماذا سيفضل من سمعة أم جميل؟» همهمت العجوز وهي تفتح النافذة. تذهب وتجيء. تشغل المذياع «هيا بسرعة، سأتصرف كما لو أن جميلا حاضر». ها هي في المطبخ تحضر سلة كبيرة تلقي فيها جزءا كبيرا من الطعام. حركاتها سريعة جدا إلى درجة أنها لم تعد تشعر بالألم. عبرت الباب الصغير حاملة السلة قاصدة التلال المجاورة. وعلى جنبات شجرة صنوبر حفرت حفرة وطمرت الطعام كله. أثناء عودتها أعادت السلة والرفشة إلى مكانهما. كانت مضطربة. تزيح غطاء السرير وتبعثر المنامة وتفصل الخفين. تفتح زجاجة المشروب، تذوب الشموع صانعة بقعا حمراء وصفراء وخضراء على الأرضية. والهدية يا أم جميل؟ تقص الشريط وتمزق المغلف. ماذا ستفعل بالوشاح؟ تحيط به عنقها. وأخيرا استكانت على الكرسي. بدأ الفجر يطرق النوافذ. حاولت استدراج النعاس. عند نهاية الصباح طرق أحدهم الباب: - أين جميل؟ سألت الجارة مقتحمة برأسها الباب المفتوح. - جاء ورحل، أجابت العجوز فورا. أشغال مستعجلة. لم تمكنه من البقاء. - هذا مؤسف! - خمس عشرة ساعة من السفر! استغرق خمس عشرة ساعة فقط من أجل تقبيلي. لكن تفضلي يا منصورة. - لدي أشغال كثيرة، أراك في وقت لاحق. - لحظات فقط. ألحت أم جميل. (جذبتها من يدها لتريها السرير المبعثر والمنامة والخفين) انظري إلى الفوضى التي تركها، كما ترين لم يتغير. - الفوضى لا شيء، واصلت المرأة. إنه مع ذلك، ابن طيب. - نعم، إنه ابن طيب . - أنا سعيدة من أجلك يا أم جميل. - انظري إلى ما أكله! - أجل. لقد شرفك بحضوره. كان لديك في خزنة الطعام ما يطعم عائلة بأكملها. - إنه قوي! - فليحمه الله. لكن الآن سأنصرف. تعلمين الأعياد تضاعف الأشغال. - كم ثرثرنا وكم ضحكنا معا. تلح أم جميل عليها مدركة أن جارتها ستخبر الجميع بما دار بينهما. - ستحتفظين بذكرى جميلة. - نعم ذكريات جميلة. - في الحقيقة لا شيء يعوض غياب الابن. - لا شيء. وقبل أن تعبر العتبة. سألت منصورة: - ماذا تضعين حول عنقك؟ لم أر أبدا هذا الوشاح. - هذا؟ إنه الهدية... - أية هدية؟ - الهدية التي أحضرها جميل. - إنه وشاح جميل، سيدفئك بالتأكيد. - ابني دائما قلبه كبير. وهي تغادر خارج المنزل قالت الجارة: - تعالي عندنا في الخامسة سيكون الأصدقاء والعائلة... لتحدثينا عن كل شيء. - سأحضر. وعندما غادرت الحديقة كررت منصورة: - تعالي في الخامسة... ولا تنسي أن تضعي وشاحك. كي يراه الجميع. وبعيدا تلتفت مرة أخرى: - إلى اللقاء. ولا تنسي الوشاح خاصة... لتخرسي الألسن السيئة.