أطل ضوء خافت من نافذة صغيرة. يغطيها روشان متواضع ووحيد في غرفة أبي.. كانت أصوات طرقعات الزنك المحيطة بحظائر المواشي، ونباح الكلاب يعلو... ويهبط في ليلة من ليالي الشتاء القارص الملبدة بالغيوم الماطرة... الرياح تحرك الأوراق المتراكمة في الحي، فترسل أصواتًا متناحرة.... حينما أتذكرها أحس بحقيقة تهمس في عقلي ووجداني معًا... تقول: “أن تكون قريبًا من الأشياء والأصوات بكامل حواسك يعني قربك من الحياة... يعني تفاعلك مع نبض الحياة من حولك”. *** كنت في الأعلى أحشر جسمي الصغير في النافذة... ومن ثقوب الروشان الباهت أتابع بقعة ضوء مهترئة.. يرسلها عمود النور الخشبي الوحيد في حينا القديم. الآن وأنا مقبلة على الستين ما زلت أبحث عن الوضوح في أشتات الضوء المتكاسلة.. ما زلت أبحث عن الوعي واللاوعي في منظر عمود النور الخشبي وخطوط الضوء وهي تنبعث منه. ..... ألفته في وجداني جذع شجرة برقّّة جناح فراشة..... كثيرا ما تعلقت به أرتقيه.... أو ألتف حوله فأستنشق رائحة الخشب القديم المتأكسدة هكذا احتوى عقلي براءة الطفل الصغير في حكمة الكهل العجوز إنها ومضات الماضي تطفو وتلح على الإنسان في مكان يُجهض فيه كل شيء كان علينا أن نعيش حياة قاسية نجتر الجوع والفقر. هناك في الماضي. قبل أن يتحول الفقر إلى قيم سلبية كان ذلك منذ زمن بعيد قبل أن ننظم إلى طابور الانتهازية التي تخدع وتحول البشر إلى قيم ممسوخة مهترئة.............. *** “في زمان كانت روسيا تبارك... والكل يسير تحت راية الاشتراكية، كبطل يواجه قط الجيران قسوة القدر والإهمال... يثب في حاوية نفايات ليس فيها غير علبة تونة واحدة؟؟!! بلسانه الأحمر لعق القط علبة التونة... ثم دس رأسه في علبة زيتون يوناني... عَلِق فيها. وإذ به يقاتل كفارس بذراعين مقطوعين... أصوات الطرقعات ازدادت طق طق طق طق طق طق طق طق طق طق........... طق طق طق طق....... طق طق........ طق طق ظنت أمي أن أحدًا يطرق الباب ما زلتُ فوق في النافذة خلف الروشان في الضوء الخافت أنظر.... وأتابع القط يصارع الموت أما أخي الأكبر فقد هرع إلى الباب يبحث عن الطارق وحين ولج القط التائه باحة الدار قدمت أمي مهرولة - اتركه.. يا ولدي - متوحش... صعب تخلصه القط جثى على الأرض كالبعير صاح بصوت متقطع.. تبعه أنين متواصل.. ومكتوم.. انبعث من جوف العلبة لأول مرة في حياتي أشعر بالرغبة في احتضان قط مع خوفي الشديد والدائم منه *** رائحة تربة مختلطة بالمطر ومثقلة برطوبة البحر تنعبث في المكان... القط المسكين لا زال جسده ملقى على البلاط المغسول بالمطر ألم وشقوة وحسرة انتابتني حين بدأ جسم القط النحيل ينتفض..... حاول أخي جاهدا تخليصه دخل في عراك دامٍ معه خدشه القط في أماكن متفرقة وخلّف جرحًا غائرا في إبهامه... خرجت دماء كثيرة... غطت سطح العلبة صاحت أمي بقوة - اتركه... يموت... لا يعورك - كيف أتركه يموت؟!... لازم أخلصه صيحات القط توقفت... حركاته أخذت تتباطأ... مما سهّل تخليصه تركت علبة الزيتون جرحا غائرا في عنقه... وطعمًا حزينًا أتجرعه... أنا... حينما أرى قطط اليوم.... ممدة فوق وأسفل.. عن يمين.... وعن شمال الحاويات.. قد وصلت إلى حد التخمة..؟؟!! أطعمة متعفنة... كتب وجرائد ومجلات.... أواني وخردوات.... بقع زيت سوداء اللون كريهة الرائحة تغطي أسطح الحاويات.... هنا وهناك ؟؟! لم نتجاوز خط الفقر إلا قليلا!!؟