قبل توقيع اتفاق "شرم الشيخ" بفترة قصيرة، استدعى ياسر عرفات رئيس الوفد المفاوض الدكتور صائب عريقات الى غزة، ليستوضحه عن العوائق التي تؤخر صدور اعلان البيان المشترك. وأخبره عريقات بأن رئيس الحكومة الاسرائيلية ايهود باراك يرفض استكمال قائمة المعتقلين وذلك بامتناعه عن اضافة خمسين اسماً من المساجين الفلسطينيين، مكتفياً باطلاق سراح مئتين فقط. ومع ان وقائع ذلك الاجتماع المغلق ظلت مجهولة، إلا أن نتائجها كانت مرسومة على وجه عريقات بطريقة تشير الى طبيعة النقاش الحاد الذي جرى بينهما في الداخل. ذلك انه خرج مسرعاً من مكتب عرفات ثم طلب من السائق التوجه فوراً الى أريحا. ولكنه لم ينس اطلاق عبارات الامتعاض والاعتراض قبل ان يغادر المكان، مردداً انه لم يعد يحتمل تقديم المزيد من التنازلات السياسية... والمزيد من التراجع المهين. بعد انقضاء فترة قصيرة على هذه الحادثة أصدر أبو عمار قراراً بتعيين ياسر عبدربه، رئيساً للوفد الفلسطيني لمفاوضات الوضع النهائي، على أن يجري ذلك باشراف وتوجيه المرشد والوريث أبو مازن. ولقد تعرض هذا القرار لاجتهادات مختلفة، خصوصاً وأن صائب عريقات لم يخسر مهمته كمفاوض بشأن المراحل الانتقالية الثلاث التي نص عليها اتفاق أيلول سبتمبر. وفسر المراقبون هذه الخطوة بأنها خروج على قواعد احتكار المناصب الرئيسية التي تميزت بها "فتح" عن سائر المنظمات. وربما أراد عرفات من وراء اختيار ابن يافا لمثل هذه المهمة المستحيلة اعطاء الانطباع بأن جميع الفلسطينيين، بمن فيهم جماعات الشتات والمخيمات يلتقون في المواقف المبدئية مع "فتح". وفي تفسير آخر يطرحه خصوم عرفات ما يشير الى وجود نية مبيتة من وراء منح عبدربه أعباء مسؤولية تاريخية يعجز عن تحملها الديبلوماسيون المحترفون. وفي رأي هؤلاء ان رئيس السلطة الفلسطينية اختار رئيس منظمة صغيرة تدعى "فداء"، على اعتبار أن فشله لا يشكل إحراجاً للورقة التفاوضية الفلسطينية. كما وأن نجاحه المستبعد لا يشكل أي خطر على دور عرفات المركزي. تفسير الصحف الاسرائيلية يركز على اظهار الاسلوب الذي يتبعه ايهود باراك... وعلى محاولة تقليد معلمه ومكتشفه اسحق رابين الذي كان يفضل استخدام القنوات السرية في المفاوضات. والدليل على ذلك ان لقاءات أوسلو تمت وراء الكواليس وداخل الغرف المغلقة. من هنا القول إن اختيار سفير اسرائيل في الأردن عوديد أران، لرئاسة الوفد المفاوض مع الفلسطينيين، ليس أكثر من واجهة ديبلوماسية تخفي وراءها ضابطاً متقاعداً سبق له أن خدم في جهاز الأمن. ولقد تمت عملية الانتقاء بموافقة ياسر عرفات، لأن الضابط جوزيف جينوسار هو شريك تجاري للمستشار المالي لدى رئيس السلطة الفلسطينية. أي شريك خالد سلام اسمه الأصلي محمد رشيد المحتكر كل العمليات التجارية والصفقات التي تتم بين غزة وتل أبيب. ويبدو أن جينوسار فشل هو الآخر عبر قناة المفاوضات السرية، في اقناع عرفات بالموافقة على الاطار السياسي للحلول المقترحة. والثابت ان باراك أصرّ على ان تكون الخطوط الحمراء الأربعة التي أعلنها بعد فوزه في الانتخابات هي الدليل لمضمون المحادثات. وتتمثل النقاط الأربع بالثوابت التالية: لا عودة لحدود ما قبل عام 1967... ولا لازالة المستوطنات في الضفة الغربية... لا للتخلي عن القدسالشرقية... ولا لنشر جيش أجنبي غربي نهر الأردن. ولكي يؤكد باراك حرصه على تنفيذ هذه الثوابت فقد طلب من السفير عوديد تسليم عبدربه وثيقة مكتوبة تلخص هذه الشروط، اضافة الى إيضاحات جديدة تتعلق بمصير المستوطنات، وموضوع اللاجئين. وتقول الوثيقة ان القسم الأكبر من الاسرائيليين الذين يقيمون حالياً في الضفة الغربيةوغزة سيبقون تحت السيادة الاسرائيلية... وان لاجئي 1948 حوالى 3 ملايين لا يمكن القبول بعودتهم الى اسرائيل. وفي أفضل الأحوال تشير الوثيقة الى احتمال قبول عودة خمسين ألف لاجئ من مخيمات لبنان، على أن يتم ذلك في اطار جمع شمل العائلات وخلال مدة لا تقل عن العشر سنوات. ومثل هذا الاجراء يقتضي التشاور مع اسرائيل لأن قرار العودة خاضع للرقابة، ولقدرة الدولة الفلسطينية على استيعاب هذه الأعداد اقتصادياً واجتماعياً. ويتوقع باراك ان تمارس الولاياتالمتحدة تأثيرها السياسي والمادي بهدف توطين اللاجئين في أماكن اقامتهم، وجمع الأموال الضخمة من أجل التعويض عليهم. هذا الاسبوع فوجئ باراك برفض عرفات المصادقة على خرائط إعادة الانتشار العسكري، وانتقل من موضوع السلام المرحلي الى مفاوضات الوضع النهائي. وشدد في مطالبته على ضرورة انسحاب اسرائيل من القدسالشرقية، ومن منطقة أبو ديس بالتحديد، قبل التوقيع على اتفاق نهائي حول حجم الأراضي الفلسطينية. وكان من الطبيعي ان تحرج هذه الخطوة الوسيط الأميركي لأن اسرائيل ربطت موضوع التقدم على جبهة الانسحابات بمسألة التقدم على جبهة المفاوضات النهائية. ومثل هذا التلازم المشروط سيؤدي حتماً الى شلل عملية السلام... والى إرباك الحكومة الاسرائيلية التي أوحت خلال المحادثات بأن المقر المقبل لسفير الدولة الفلسطينية سيكون في أبو ديس وليس في القدسالشرقية. والمؤكد ان عرفات استغل وجود المبعوث الأميركي دنيس روس في المنطقة، لكي يرفض شروط الانسحاب الاسرائيلي، ويفجر العملية السلمية عن طريق افتعال أزمة كبرى يصعب على الرئيس كلينتون تجاهلها. خصوصاً وأنه ذكّر الولاياتالمتحدة بمرجعية القرار 242 وبأن القدسالشرقية هي أرض محتلة ينطبق عليها القرار المذكور. ولقد فشل دنيس روس في حل الخلاف بين الجانبين لأنه أبلغ باراك وعرفات بأن واشنطن لا تستطيع اتخاذ القرارات الصعبة نيابة عن اسرائيل والسلطة الفلسطينية، ولكنه أعرب عن استعداد بلاده لتقديم الضمانات في حال اتفق الفريقان على اتخاذ قرارات مصيرية. يتساءل المراقبون عن جدوى هذه الخطوة التكتيكية التي أقدم عليها ياسر عرفات في مواجهة باراك، وما إذا كان مطلب الحد الأقصى الفلسطيني سيؤدي الى الحصول على الحد الأدنى؟! صرح الرئيس كلينتون في تركيا بأن الطرفين المختلفين سيباشران قريباً في إضفاء المرونة على مواقفهما المتشددة بحيث يقبل باراك بزيادة نسبة مساحة الدولة الفلسطينية مقابل تراجع أبو عمار عن المطالبة بتطبيق كامل القرار 242. ومن المؤكد ان المستوطنين قادرون على منع رئيس الحكومة من تحقيق هذا المطلب، لأن ذلك يجعل من أراضي الدولة الفلسطينية وحدة مترابطة جغرافياً، بعكس ما يخطط له الاسرائيليون. أي تقسيم الضفة الغربية الى خمسين جزيرة متباعدة، مبعثرة تحاصرها المستوطنات المسلحة، والطرق الالتفافية مع السيطرة الاسرائيلية الكاملة على المعابر والموانئ والمطارات. ويتوقع دنيس روس ان يؤدي انقطاع الحوار الاسرائيلي - الفلسطيني الى عقد قمة في الولاياتالمتحدة تجمع بين كلينتون وباراك وعرفات من أجل انقاذ المفاوضات. علماً بأن المباحثات التي بدأت يوم الاثنين الأسبق، كانت تؤسس لعقد قمة ثلاثية مطلع العام المقبل في حال أحرزت التقدم المطلوب. في حال فشلت واشنطن في انقاذ المفاوضات على المسار الفلسطيني، فإن بارك يستعد للانعطاف باتجاه الجنوباللبناني لكي لا يخسر قوة اندفاع عملية السلام. ولقد شجعه وزير التعاون الاقليمي شمعون بيريز على الانسحاب الفوري دون انتظار تاريخ السابع من تموز يوليو سنة ألفين، كما وعد الناخبين. وحجة بيريز ان جميع المساعي التي قام بها الوسطاء للتوصل الى تفاهم مع سورية قد فشلت... وأن المؤسسة العسكرية أصبحت جاهزة لعرض البدائل الدفاعية. وفي تصوره ان النشاطات الجوية المكثفة تؤمن الغارات الانتقامية في حال واصلت المقاومة اللبنانية ضرب الجليل الأعلى بعد الانسحاب الى الحدود الدولية. ولقد نصح وزير الخارجية الفرنسي هوبير فيدرين بانسحاب القوات الاسرائيلية وانما في اطار اتفاق اقليمي مع دمشق، لا في اطار مواجهة أو هدنة موقتة. كذلك اقترح نيلسون مانديلا اثناء زيارته للمنطقة، ولقائه مع رئيس الدولة الاسرائيلية عيزر وايزمان. وطرح نفسه كوسيط دولي رسمي مؤكداً ان كلينتون يعجز عن القيام بهذا الدور لأن الأسد يعتبره منحازاً ونصيراً لاسرائيل. وقال ان الثقة التي أولاها اياه الأسد تمكنه من احراز اتفاق سلام خلال فترة قصيرة. ولما استشير الرئيس الأميركي بموضوع وساطة مانديلا، ادعى بأن الظروف غير مواتية لأن اسرائيل ترفض الانسحاب الى خط 4 حزيران يونيو 1967. وهي تزعم ان الخط الأول للحدود تقرر في كانون الأول ديسمبر 1920 بين الانتداب الفرنسي لسورية وبين الانتداب البريطاني في أرض فلسطين اسرائيل لاحقاً. وفي عام 1952 أصرت دمشق على المطالبة بخط وقف اطلاق النار، وبالوصول الى حدود المياه في اليرموك وطبريا ومنطقة مصب نهر الأردن شمال شرق سهل الحولة. وترى الوزيرة اولبرايت ان أساس الخلاف ينبع من مصطلحين متعارضين: اسرائيل تقول بالحدود الدولية... وسورية تطالب بخطوط الرابع من حزيران. وبما ان اسرائيل ترفض تطبيق القرار 242 على أساس الرجوع الى حدود ما قبل حرب 1967، فإن ما يسري على القدسالشرقيةوالضفة الغربية تريد تطبيقه على مرتفعات الجولات لئلا يتحول الى سابقة لمطالب مستقبلية للتنازل عن أراض احتلتها في الضفة وغزة. المؤسستان العسكرية والسياسية اختلفتا على خطة الانسحاب من جنوبلبنان وموعد تنفيذها. والخطة كما أوجزتها الصحف الاسرائيلية تتلخص بانسحاب من طرف واحد في حال عدم التوصل الى اتفاق مع سورية. وبخلاف الخطط السابقة التي أمنت الحماية لأفراد "جيش لبنانالجنوبي" وعائلاتهم عن طريق بناء قرية صغيرة قرب الحدود... فإن ايهود باراك مصرّ على إبقاء قوات لحد في مواقعها. ولقد وعد بتوسيع رقعة نفوذها وتزويدها بالدبابات والمدرعات وابقاء المرشدين والمستشارين الاسرائيليين. وفي كل مرة يتعرض جيش لحد لصواريخ المقاومة اللبنانية لا بد من توفير مظلة جوية لحمايته. ويبدو أن بيريز أيد هذه الخطة بدليل أنه طالب بالاسراع في تنفيذها، شرط أن تزداد الغارات الجوية وعمليات القصف. ولكن جهاز الأمن العسكري يعارض الانسحاب من طرف واحد، خصوصاً وان "حزب الله" سيصبح في حل من تفاهم نيسان، وسيركز ضرباته على قرى الجليل الأعلى. وهذا ما لمح اليه الرئيس الأسد أثناء استقباله وزير خارجية فرنسا فيدرين، وقوله "ان سورية لن تمنع اسرائيل من الانسحاب، لكن مشكلة المقاومة ستبقى قائمة في وجهها". لهذا السبب امتنع نائب باراك افرايم سنيه عن تأييد خطة الانسحاب من طرف واحد، محذراً من مغبة السقوط في الأوهام. وفي رأيه ان تعزيز جيش لحد بمجندين جدد 2500 عنصر لا يقيه من الأذى المتواصل، حتى لو استمر الطيران الحربي في تأمين مظلة الحماية. ويرى المراقبون ان ابقاء جيش لحد في خط الدفاع الأول يهدف الى تأجيج الخلافات الداخلية بين اللبنانيين... والى تحريك النعرات الطائفية التي ظهرت مؤشراتها في الاعتداءات المتواصلة على الكنائس. وفي تقدير ايهود باراك ان انطوان لحد قد يضطر الى اعلان الجنوب منطقة منفصلة عن الجمهورية اللبنانية، مثلما فعل تشومبي في اقليم كاتنغا عام 1962. عندئذ تتدخل اسرائيل مع الدول الغربية لتوفير الظروف العسكرية التي وظفتها أميركا في كوسوفو. وهي تتخيل ان المناخ الدولي المهيمن على النظام الأمني الجديد يسمح لاسرائيل وللدول المعنية بسلامة المنطقة، بأن تقلد روسيا في الشيشان، وتركيا في شمالي العراق. وفي ظل هذه التوقعات المتشائمة يطالب المسؤولون في لبنان بضرورة التصدي لمثل هذه المغامرات العسكرية، وذلك عن طريق تحصين الوحدة الوطنية، وتقوية الجبهة الداخلية، ومنع التدخلات الخارجية من احداث الارباك السياسي المطلوب أو نسف مكاسب الوفاق! * كاتب وصحافي لبنان