ثمة تساؤل يلوح في الافق عن دور منظمة الوحدة الافريقية لحل قضايا شعوب القارة، وعن صفة الاخفاق التي ترافق بعض ما يطرح في إطارها، فهل السبب في ذلك نقص علمي تعاني منه المواثيق والنظم والأحكام التي تسير هذه المنظمة؟ أم هناك أمور جوهرية نجهلها وربما يجهلها حتى من هم على رأس العمل في هذه المنظمة؟ المؤكد بأن فكرة انشاء هذه المنظمة الاقليمية كان من أجل توحيد القرار السياسي الافريقي وتطوير شعوب القارة والمساهمة في حل مشاكل الدول الأعضاء وخلافاتها السياسية منها والاقتصادية، لينعكس ذلك بدوره في صنع حال من الأمن والاستقرار والرخاء لشعوب القارة، وتخفيف العبء عن كاهل المواطن الافريقي، وتذليل الصعاب التي تواجهه. وتؤكد لنا السيرة السياسية والاجتماعية للشعوب الافريقية بأن هذه المنظمة وفكرة انشائها لم تكن محصورة في اتجاه ما يسمى بافريقيا السوداء وحركة الزنوج، كما كان يترقبها البعض أن تكون، وبالذات المشروع الانغلو - ساكسوني، بل كان لهذه المنظمة مساهمتها وأثرها البعيد في تعزيز الوحدة الافريقية عن طريق تأكيد الشخصية الافريقية وايجاد وحدة الفكر. ومن هنا كان للمنظمة دور مؤثر ومباشر في صنع القرارات الافريقية أو المساهمة في صنعها سلباً وايجاباً عبر مسيرتها الطويلة. ولسنا هنا بصدد محاكمة هذه المنظمة الاقليمية، ولا اطلاق الأحكام عليها جزافاً، ولكن من المفيد قراءة سير العمل الافريقي من الزاوية الاريترية كجزء من الحراك الذي تتولى المنظمة مهمات تأطيره وتطويره. وربما كانت علاقة الشعب الاريتري وعضوية بلاده في المنظمة حديثة العهد، لكن علاقة القيم الإنسانية والجغرافية جعلت من قدر الإنسان الاريتري ان يأخذ موقعه كجزء من شعوب هذه القارة. ولكوننا جزءاً من الكيان الافريقي، فالواجب يحتم علينا المساهمة، أقلها في أن نقول رأينا بصراحة في المنظمة، وتحديداً مواقفها الأخيرة من النزاع الحدودي الاريتري - الاثيوبي. فمنذ اندلاع الحرب الشرسة بين اريتريا واثيوبيا في أيار مايو 1998 ووسائل الإعلام تنقل لنا من وسط عيترية غبار المعارك مشاهد مروعة وكأنها انتحار جماعي، وبدأ المعنيون يسألون: إلى متى سيعيش إنسان هذه المنطقة في حال من القلق المستمر؟ ومن المستفيد من هذه الحرب؟ وأين دور منظمة الوحدة الافريقية؟ وفي محاولات عدة للإجابة على هذه الأسئلة، غابت عن كثيرين الخلفية التاريخية لشعوب المنطقة وعلاقة الأمتين الاريترية والاثيوبية. وهناك حلقات عدة تؤطر هذه العلاقة وتتأثر كل منها بالأخرى وبالظروف السائدة في البنية الاجتماعية والتاريخية. بدأت العلاقة تتطور بين الأمتين إلى الأسوأ وبدأت تستحوذ على الشعبين مثالية غير نبيلة، لأن الطرف الاثيوبي حاول وبشدة إدخال الجسد الاريتري في عصبية القومية الاثيوبية، أي أن الصراع بات بين قوى تحاول ان تصون مجتمعها وهويتها، وأخرى تتحرك لاحتوائه والهيمنة عليه، وكانت منظمة الوحدة الافريقية ملمة بهذا الواقع وخلفيته التاريخية. وبدأ يظهر الخلل عند الوصول إلى نقطة الدولة والسيادة المرهونة بشروط ثقافية وتاريخية وبيئية لتكون الأساس لإبراز هوية الانتماء، وهذا ما سعت إليه اريتريا، واعتبرته اثيوبيا خرقاً وتجاوزاً لعقيدتها الخرافية، وللأسف تقر منظمة الوحدة الافريقية بنزعة التجاوز الاثيوبية هذه جهراً. لأن للمنظمة فهماً ضيقاً يدور حول المؤشرات التي تحمل على أوجه التشابه في تلك البقعة الجغرافية وروابطها الثقافية المبنية تبعاً لمقتضيات الظروف التاريخية التي خلقت بدورها القيم الثقافية المشتركة للشعبين الاريتري والاثيوبي. علماً بأن المزج الثقافي هذا فرض على الشعب الاريتري، ولم يكن اختيارياً. كما تتوجس المنظمة من مسألة عربقة اريتريا عربية افريقية، وعليه كانت تقف وبشدة ضد استقلال اريتريا في كثير من المواقف، وهو أيضاً الهاجس نفسه الذي عانت ولا تزال تعاني منه اثيوبيا. ولكن لا بد من القول الآن بأن الموقف والموقع يختلفان تماماً على المستوى الشعبي والحكومي عن الماضي، وبأن المرونة التي ظهر بها أخيراً الجانب الاريتري في تعامله وعدم المطالبة بتعويضات عن حرب استمرت لأكثر من ثلاثين عاماً ودمرت البنية الأساسية الاريترية، لم تكن عفوية، بل كانت مشروطة ولو في الخفاء للحصول على مقابل سياسي واجتماعي وتاريخي، وفي إطار هذا المناخ بادر الخطاب السياسي الاريتري في تطبيع علاقات قوية ومد جسور للتعاون مع اثيوبيا، حتى النظام العالمي الجديد تنبه لهذا الود بين القيادتين الاريترية والاثيوبية ومن ثم زار الرئيس بيل كلينتون المنطقة وبارك مشروع القيادات الافريقية الشابة، وآخرون تساءلوا عن طبيعة العلاقة بين الرئيس الاريتري اساياس افورقي ورئيس الوزراء الاثيوبي ملس زيناوي، ولكن ما خفي كان أعظم، لأن العقل الاثيوبي يعيش تحت تأثير هاجس الحفاظ على شرف الحدود والقبيلة، وبدأ في خوض الاختبار الصعب الخاص باستقلال اريتريا وخروجها من بيت الطاعة والولاء والنفوذ المطلق، ولذا لم تقبل النفس الاثيوبية هذا التحول لأن المساس بالخارطة السياسية والجغرافية بالنسبة إليهم دمار لعقيدتهم، لأن هناك إرثاً مثقلاً تتوارثه أنظمة الحكم في هذا البلد. ويبدو ان التعامل في إطار منظمة الوحدة الافريقية مع أسمرا واديس ابابا يتم من خلال كون اريتريا حديثة العهد واثيوبيا الدولة التي تحتضن مقر المنظمة الافريقية، وهذه معادلة من الصعب التعامل في إطارها بإنصاف في أروقة المنظمة، فالنظام السياسي القائم على رأس الحكم في اثيوبيا يعي سلفاً بأن المنظمة ستقوم الأمور بهذه المعايير، وسيتم دعم مواقفه في كل الأحوال. نلاحظ ذلك من لغة الخطاب السياسي الاثيوبي، واطروحة المنظمة الداعمة له في الساحة السياسية الافريقية والدولية، والتي كان لها الأثر المباشر في تعكير الأجواء أكثر بين طرفي النزاع الاريتري والاثيوبي. فدور المنظمة الصامت دفع بالاثيوبيين التمادي تجاه الشعب الاريتري مجدداً، وبالتحديد ذلك الذي كان يعيش في المدن الاثيوبية، فقد تم طرد قرابة الثمانين ألف مواطن اريتري كانوا مقيمين في شكل دائم هناك، وتم الاستيلاء على كل ممتلكاتهم، بل حتى حاجياتهم الشخصية. ولدى المنظمة تقارير في هذا الشأن، لكنها لم تحرك أي ساكن، كذلك تم طرد ممثل اريتريا وسفيرها في المنظمة من دون استشارتها أي المنظمة، وكان بقرار من النظام الحاكم في دولة المقر، يومها كان يفترض ان تقف المنظمة ضد هذا القرار، لأنه قرار تم اتخاذه من دون العودة إلى مواثيق ونظم وأحكام المنظمة، بل أهانت فيه اثيوبيا كل الأعراف التي تسير المنظمة والديبلوماسية الافريقية، الكل توقع يومها اجراء صارماً من قبل المنظمة، حتى لو كان يضطرها ذلك لنقل المقر إلى أي دولة افريقية أخرى محايدة. وفي إطار هذه المظالم الواضحة، أي غيث يحلم به الشعب الاريتري أن يأتيه من هذه المنظمة التي أصبح موقفها شبه طرف في النزاع ولم تتخذ موقفاً صريحاً وواضحاً من الحرب الدائرة بين الدولتين اريتريا واثيوبيا، بل اتسمت تشريعاتها بنوع من الغموض. وحتى النخبة التي تؤهلها امكاناتها المساهمة في حل هذا الصراع اعتمدت على مشروع المنظمة كمرجعية، ولذا غابت عن المساهمة في مشروع السلام، ولو ان هذه النخبة تعي بأن الطرف الاثيوبي وحججه الواهية لا تتعدى في كل الحالات اطار المصالح الأنانية والنظرة التوسعية، ولكن نتيجة لمواقف المنظمة المشكوك فيها يقف هؤلاء المختصون عاجزين أمام التوصل إلى صياغة مشروع قانون دولي يلزم طرفي النزاع للوصول إلى صيغة توفيقية، ولذا حتى المجتمع الدولي لم يكن على استعداد لإدانة اثيوبيا. فهل السبب في ذلك يعود لأن الحركة الكلاسيكية للعمل السياسي وآلية التعامل عودتنا بأنه وقبل أن تأخذ مشاكل الشعوب طريقها إلى مشروع قرار دولي، يجب ان تمر بمختبرات المنظمات الاقليمية؟ ويؤخذ برأيها مأخذ الجد؟ وفي كل الأحوال على هذه المنظمات ان تتسم بالحياد والحكمة في قراءاتها لكل الصراعات التي تتم في إطار اقليمها نظراً لجسامة المسؤولية التي تقع على عاتقها وخوفاً من نصرة الظالم. ومن خلال متابعتنا للصراع الاريتري - الاثيوبي كنا نلاحظ منذ البداية موقف المنظمة المنحاز إلى الجانب الاثيوبي، ومواقف المنظمات التي تعمل في إطار الأممالمتحدة، بل وفي فترة من الفترات تبنت هذه المنظمة مشروع القرار الاثيوبي ليكون ورقة عمل في حل النزاع مع اريتريا. وهذه الاخفاقات في إطار منظمة الوحدة الافريقية كانت واضحة من الوهلة الأولى، لأنها تتعامل مع مشاكل الدول الافريقية الأعضاء حسب خصوصية كل دولة وجيوسياستها على حدة منفردة، وهذا النمط في التعامل بدأ بدوره يشكل عائقاً كبيراً يقف أمام تطوير مختلف الحلول المثالية والمناسبة في مسيرة العقيدة الافريقية، وبشكل سريع دائماً تتأطر الارادة السياسية لمواقف الدول الأعضاء في المنظمة، ليكون القرار الافريقي تحت رحمة تجمعات ارهقت عبر الزمن حتى أصبح القرار السياسي الافريقي يؤخذ بأساليب عاطفية وبعيداً عن التصور العلمي والقراءة الجادة، وهذا النهج صنع بدوره فجوة بين صدقية المنظمة ومدى جدية المواطن الافريقي واستعداده التعامل معها مستقبلاً. هذه الوضعية تفرض علينا القول بأنه من المعروف أن العناصر السلبية والايجابية ترافق نمو الأمم، وتظهر الأفعال وردود الأفعال في حراكها، وهذا شيء طبيعي، ولكن ان تتصارع الشعوب بشراسة ويحترق الآلاف في لهيب هذه الحروب الخاطئة وإهدار الطاقات والامكانات البشرية، هي الكارثة بعينها ولا عذر فيها لمن فرضها. ومن الوهلة الأولى لاندلاع الحرب الاريترية - الاثيوبية كان في الامكان حصرها في إطار ضيق، ولكن النظام في أديس ابابا فضل لغة السلاح على الحوار، وحاول نقل المعركة من المناطق الحدودية إلى المدن بقصفه العاصمة الاريترية أسمرا، مما دفع بالصراع أن يتجاوز محليته ويأخذ طابعاً ومنحى خطراً، حيث وصل بسرعة إلى مسامع العالم، وبدأ دور منظمة الوحدة الافريقية المنحاز إلى الجانب الاثيوبي يظهر. وفي إطار هذا الاخفاق الذي بدأ يمارس يومياً، بدأ الكل يركن في البحث إلى المعلومة السطحية، ولعدم جدية المنظمة تبنت ما كان يعرف يومها بالمبادرة الأميركية - الرواندية! ولو أنه في الواقع لا يوجد هنالك شيء اسمه مبادرة أميركية - رواندية! والمطلع على الحقائق الأساسية لهذا الصراع يدرك تماماً هذه الحقيقة، أي كل ما في الأمر كانت هناك مجموعة اقتراحات ساهمت الحكومة الاريترية في صياغتها لتكون ورقة عمل بدائية تهيئ المناخ والأرضية لمشروع مبادرة سلام كاملة، ولكن لوجود مناخ آخر في أروقة المنظمة، تعثر العقل السياسي الافريقي في إفراز صيغ توفيقية أقلها لايقاف الاقتتال بين البلدين، ولذلك حاول الاستعانة بالعقلية الغربية، وهي عقدة تعاني منها شعوب كثيرة في افريقيا وآسيا. وتم استيراد سوزان رايس، إحدى موظفات الخارجية الأميركية، ولكن هذه المسكينة عادت من حيث أتت بعقدة نفسية سياسية سلبية. ونتيجة لذلك راح ضحية الحرب قرابة المئة وخمسين ألف قتيل من الطرفين، وبسرعة تبنت المنظمة المبادرة الأميركية - الرواندية، وتم التطبيل لها، وتدخل في الموضوع رؤساء بعض الدول الافريقية لايجاد صيغة توفيقية بين طرفي النزاع، ولكن سرعان ما تأكدوا بأنه لا يوجد نص صريح في هذه المبادرة. وعاد الكل إلى موقعه. والنظام الحاكم في اثيوبيا كان يعي تماماً لهذه الحقيقة، أي عدم وجود مشروع سلام متكامل تحتويه المبادرة المذكورة، ولهذا سارع بقبول الاقتراح الذي عرف بالمشروع الأميركي - الرواندي. أما أسمرا فكان لها نوع من التحفظ تجاه هذا المشروع الذي رأت فيه بأنه يحتوي على مبادرة مبتورة يتكللها عدم الوضوح والانصاف معاً لمن اراد تسميتها مبادرة. وفجأة انتقل المشروع إلى بوركينا فاسو وإلى عواصم أخرى ونظام اديس ابابا ينفذ مخططاته دون رقيب، ولأن كل الجرائم ترتكب ضد الاريتريين بعلم منظمة الوحدة الافريقية، فما كان أمام المجتمع الدولي بدوره إلا أن يستنكر ولكن بتحفظ شديد. وحتى القرار الذي صدر من الولاياتالمتحدة وأيده مجلس الأمن والخاص بايقاف القصف الجوي بين الطرفين، تجاوزته اثيوبيا، وكانت تقصف المدن والقرى الاريترية جهراً وأمام أعين العالم. فأي وحدة افريقية هذه؟ هل نعتمد لدينا بأن الوحدة الافريقية قصرية؟ وحتى لو اردنا القول، حسب ادعاءات البعض، بأن اريتريا كانت ترفض مبادرة الوحدة الافريقية ولا تريد السلام، وان الاثيوبيين يرغبون في السلام وقبلوا بهذه المبادرة وتلك وكل المبادرات! فكيف سيتم تفسير الموقف الاثيوبي الأخير وبعد قبول اريتريا بالمبادرة وموافقتها على الطرح الافريقي وتأكيد ذلك في القمة الافريقية الأخيرة في العاصمة الجزائر؟ هل لم تكن واضحة للمنظمة وللمجتمع الدولي الادعاءات والحيل الاثيوبية؟ والآن وبعد أن أصبح كل شيء واضحاً من قبل الاثيوبيين ورفضهم الرسمي من خلال مؤسساتهم الدستورية لمشروع السلام الافريقي، ألم يتأكد ذلك للمنظمة الاقليمية وللعالم بأن الرهان على اثيوبيا أصبح مشروخاً، وهل هنالك اجراء تم اتخاذه من قبل المنظمة تجاه اثيوبيا؟ ثمة افتراض يقول إن الحرب التي أشعلتها اثيوبيا مع اريتريا تحوي في الخفاء مشروع توسع من أجل تغيير الخارطة السياسية والجغرافية للمنطقة وحول البحر الأحمر بما فيه الدول التي تقطن شواطئه العربية. وان نهج القيادات الاثيوبية مهما اختلفت عقيدتها السياسية هو نفسه، ذلك الذي يعيش تحت تأثير كيمياء تفاعل النفس المهوسة بفنون التوسع. لذلك يبدو ان لا مجال في قضية من هذا النوع للانتماءات المزدوجة والحلول التوفيقية، لأن فلتان العيار السياسي سيفتح المجال أمام كل الطامعين للتدخل بحجج استراتيجية تتمثل في حماية البحر الأحمر والملاحة الدولية، وفي هذا الإطار سيجد النظام في أديس ابابا ضالته أقلها لكي يجد لنفسه منفذاً بحرياً على شاطئ البحر الأحمر، وهو الحلم الذي يراود حكام اثيوبيا منذ القدم. لذا على الأمة العربية والافريقية والمجتمع الدولي أن يعوا مسؤوليتهم تجاه المنطقة بأثرها والمخاطر التي تدور حولها بزعامة اثيوبيا، لأن كل المؤشرات تدل على ان المنطقة مقبلة إلى ويلات لن يفيد الندم أمام عظمتها. ونطالب بشدة منظمة الوحدة الافريقية ان تكون محايدة وتبتعد عن مخطط التبعية الذي يمارس تجاهها من قبل اثيوبيا بصفتها دولة المقر، وأن تعطي مساحة واسعة للقرار السياسي الافريقي، أي عدم افرقته أكثر مما ينبغي، واشراك الآخرين مثل جامعة الدول العربية والأممالمتحدة والفعاليات السياسية الأخرى. * كاتب اريتري مقيم في لندن.