يحار المرء كيف يتعاطى مع الكتاب الجديد الصادر حديثاً عن خير الدين التونسي الذي قاد احدى التجارب الاصلاحية المبكرة في العالم الاسلامي من 1873 الى 1877. فخير الدين حاول انقاذ تونس من قبضة الاستعمار، لكنه فشل وغادر البلد ليتلقفه الباب العالي ويعينه لاحقاً صدراً أعظم. لعل أهم ما في سيرة خير الدين كتابه الذي ضمّه رؤية اصلاحية ترمي الى تحديث العالم الاسلامي وشكل أول مشروع متكامل من نوعه ما جعله يلاقي صدى واسعاً من ايران الى المغرب، لأنه لم يكن مشروعاً لتونس وإنما للعالم الاسلامي الذي جابه تحديات شبيهة بظاهرة العولمة المعاصرة. والدليل على تأثير الكتاب الواسع على النخبة العربية في القرن الماضي هو ان مكتبة الاسكندرية طلبت 50 نسخة منه، وان رفاعة رافع الطهطاوي اطلع عليه ونشر فصولاً منه في صحيفة "الجوائب" ذات الانتشار الواسع وأعيد طبعه في الاسكندرية ثم في اسطنبول، واطلع المصلح مدحت باشا وأفراد الطبقة السياسية العثمانية عليه وترجمه السفير الايراني في باريس الى الفارسية. يشعر قارئ كتاب "مراسلات الوزير الأكبر خير الدين" بالدهشة بل بالصدمة لأنه يكتشف شخصية ثانية لصاحب "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك" هي نقيض ما تعلمناه وقرأناه عن قوة شكيمته والتماع ذكائه وشدة جرأته. والكتاب هو عبارة عن رسائل خير الدين الى محمد الصادق باشا الذي حكم تونس من 1859 الى 1882 ووقع على معاهدة الحماية او الانتداب في قصر باردو يوم 12 أيار مايو العام 1881 وتعليقات الأخير عليها وتشتمل على 188 وثيقة تعتبر جزءاً من الوثائق التي تسلمها محقق الكتاب الدكتور عبدالجليل التميمي من رئيس الحكومة السابق، أيام الاستعمار، محمد صالح مزالي قبل وفاته، وتضم مراسلات خير الدين مع الشيخين محمد بيرم الرابع وبيرم الخامس ومع محمد البكوش والجنرال رستم وجوزيف رافو الذي كان يتولى منصب وزير الخارجية، اضافة الى رسائله لمحمد الصادق باشا. تتعرض المقدمة التي وضعها التميمي الى دور السنوات الثلاث التي اقامها خير الدين في باريس في انضاج رؤيته الاصلاحية والخطوات التي قام بها بعد عودته الى تونس، وتعيينه وزيراً للبحرية ثم عضويته في لجنة شرح قانون عهد الأمان للرأي العام التي اسندت له رئاسة العديد من اللجان المنبثقة منها، وصولاً الى اعلان الدستور سنة 1861 وتشكيل المجلس الأكبر المؤلف من 60 عضواً بوصفه السلطة الاستشارية العليا للبلاد، وهو ما اعتبر انقلاباً دستورياً حقيقياً ليس فقط في تونس بل في العالم العثماني برمته. الا ان صراعه مع الوزير الأكبر مصطفى خزندار ادى الى استقالته من الوزارة ومن رئاسة المجلس وابتعاده عن المسرح السياسي سنة 1863، وكان في سن الأربعين. وعكف الرجل على قراءة الصحف والمجلات الفرنسية التي اشترك في العديد منها، كما قام بالعديد من الزيارات لأوروبا والدولة العثمانية تجاوزت عشرين زيارة، ثم دون ملاحظاته في كتاب "أقوم المسالك" الذي استغرق تحريره خمسة اعوام ولقي رواجاً واسعاً، وتوج هذا المسار التصاعدي بتكليفه بالوزارة الكبرى وهو في سن الخمسين وبقي على رأسها أربعة اعوام. جوانب خفية اهم ما في الوثائق المنشورة مثلما يقول المحقق انها تكشف هزال المستوى التعليمي للباي الملك الصادق واحتقاره للفضاء الواقع خارج العاصمة تونس، لكنها تكشف ايضاً الحدود الضيقة التي يلتزم بها الوزير الأكبر خير الدين لدى تناوله للقضايا التي تحتاج لأخذ رأي الباي فيها. بل ان هذه الحدود تتحول الى محرمات لا يمكن الاقتراب منها عندما يتعلق الأمر بالدستور الذي اعلنه مدحت باشا في اسطنبول وتداعياته المباشرة على تونس، اضافة الى الخوف الذي لازم الوزير الأكبر من طرق امهات القضايا الاقتصادية والاجتماعية والهيكلة الادارية التي تعيشها البلاد. واستدل المحقق بالتفاصيل الكثيرة التي كان خير الدين يستشير فيها الباي مما يدل على انه "لم يكن طليقاً في اخذ قراراته الاصلاحية الجوهرية وانه لم يتمكن من فرض منظومته الاصلاحية على محمد الصادق باشا او اقناعه بوجوب تبني الدستور، بل ترك الحبل على الغارب ولم يدخل معه في حوار تفرضه عليه مسؤوليته كوزير اكبر". اكثر من ذلك، يتوقف المحقق عند الاخطاء النحوية واللغوية التي تتضمنها المراسلات ليستنتج ان خير الدين لم يحرر كتاب "اقوم المسالك" بنفسه وانما لعب مجمع المتنورين الزيتونيين نسبة الى جامع الزيتونة دوراً اساسياً في "الاعداد للصيغة النهائية، اللغوية والنحوية، للكتاب وكذلك ايضاً في وضع القاعدة الأساسية الاصلاحية لمنهجه ورؤيته التحديثية". كان معروفاً، قبل صدور هذه الرسائل الجديدة، ان نخبة من المثقفين في مقدمها الشيخ سالم بوحاجب وأحمد بن أبي الضياف ومحمد السنوسي هي التي تعاونت على صياغة الكتاب - المرجع، لكن قيمة الوثائق التي نشرها التميمي تكمن في كونها كشفت "عديد الحقائق التي كانت مغيّبة في تاريخ تونس الحديث وتحديداً خلال العقدين اللذين سبقا فرض الحماية الفرنسية". ومن هذه الحقائق ان "محمد الصادق باشا لا يحسن على الاطلاق تحرير رسالة بسيطة وان كثرة التعابير الشعبية تترجم عن هذا المستوى الهزيل جداً والمخجل في كثير من الاحيان". ومنها ايضاً ان الاخطاء اللغوية والنحوية الصادرة عن خير الدين تبدو عجيبة عندما تأتي ممن سهر على تحرير "اقوم المسالك" بمنتهى العناية اللغوية، خصوصاً اذا علمنا ان خير الدين حرر الرسائل بخطه شخصياً ومضاها بنفسه، ما حمل التميمي على استنتاج مؤداه ان "اقوم المسالك" مؤلف انجز على ايدي خير الدين وسالم بوحاجب في الوقت نفسه وراجعه عدد آخر من المصلحين. بل ان المحقق يذهب الى أبعد من ذلك في استخلاصاته بعد عرض الاقسام الستة من المراسلات فيقول مثلاً "ان المجتمع التونسي ابتلي بهذه الشخصيات الجاهلة والمهزوزة من خلال سلوكها ومنطقها وبعدها عن الواقع الاجتماعي والحضاري لتونس، مما ادى بالبلاد الى الهلاك والقضاء عليها وهو الأمر الذي كان وراء احتوائها من قبل فرنسا التي كانت تعرف جيداً مواطن الضعف والتردي ليس فقط السياسي بل الاخلاقي والمادي والحضاري ايضاً". ربما يكون هذا الحكم قاسياً لأن النخبة السياسية التونسية في القرن التاسع عشر كان فيها الفاسدون امثال مصطفى خزندار ومحمود بن عباد مثلما كان فيها خير الدين والجنرال حسين وأحمد بن أبي الضياف. وإذا كان صحيحاً ان المصلحين لم يكونوا قديسين ولا كانوا ابطالاً خارقين فإن علينا ان نتعامل معهم بوصفهم بشراً لهم نقاط ضعف بما فيها قلة السيطرة على ناصية اللغة والأدب. غير ان المهم في تجربة خير الدين انه كان الزعيم الذي تحلقت حوله نخبة من المفكرين والكتّاب لتصوغ مشروعاً نهضوياً يعتبر الأول من نوعه في العالم الاسلامي، ولا ينتقص من دوره كونه كان اقل قدرة على الكتابة البلاغية من أكثريتهم.