عندما وضع المؤرخ التونسي أحمد بن أبي الضياف كتابه الحامل عنوان «إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان»، قبل قرن ونصف القرن تقريباً وقبل عقدين من احتلال الفرنسيين تونس عام 1881، كان يخامره على الأرجح شعور قوي بأن الإقليم التونسي قطع شوطاً بعيداً في التحول إلى كيان شبه وطني متمايز. فهو كان يعلم أن انضواء تونس في عداد ممتلكات السلطنة العثمانية كان انضواءً نظرياً يكاد يقتصر على دفع الجزية للسلطان مقابل تمتع ولاية تونس بنوع من الحكم الذاتي في ظل سلالة البايات الحسينية المنبثقة من فرقة عسكرية محلية، والتي حكمت تونس منذ القرن السابع عشر. وعهد الأمان الذي يؤرخ له ابن أبي الضياف هو إعلان إصلاحي أصدره محمد باي عام 1857 في سياق جهد لتحديث الجيش والإدارة واجتذاب أصحاب الأفكار الجديدة ولتثبيت الولاء للحكم لدى سائر الفئات الاجتماعية على غرار الإصلاحات العثمانية المعروفة ب «التنظيمات». وفي 1860 صدر «القانون السياسي» وهو نوع من الدستور، «فكان أول دستور يصدره بلد مسلم في العصر الحديث. وليس من الواضح من كان وراء فكرة الدستور هذه»، بحسب ما يلحظ المؤرخ البرت حوراني. في هذه الفترة بالذات لعب أحد أعلام النهضة، وهو خير الدين التونسي المملوكي الأصل، دوراً بارزاً في إطلاق ديناميكية إصلاحية تحاول التوفيق بين مبادئ الإسلام والانفتاح على العصر الحديث وتبني خطوطه العريضة في القانون والسياسة وتعهد المصلحة العامة. صحيح أنّ تجربة الحكم الدستوري هذه لم تعش طويلاً ولأسباب مختلفة داخلية وخارجية، لكنها تركت أثراً لا يستهان به. «فقد ساعدت على خلق وعي سياسي جديد في تونس، وعلى إبراز فئة من رجال الدولة المصلحين والموظفين والكتاب الذين قدّر لهم أن يلعبوا دوراً ضخماً في مجابهة الصعوبات، حتى مجيء الاحتلال الفرنسي الذي بعثرهم في 1881»، بحسب حوراني. وقد تشكلت هذه الفئة من خريجي مؤسستين اثنتين هما جامع الزيتونة، مركز التعليم الإسلامي التقليدي حيث لاقت دعوة محمد عبده الإصلاحية صدى ملحوظاً، والمدرسة الجديدة للعلوم العسكرية التي كان خير الدين المشرف الأول عليها. من الطبيعي ألا نجد مثل هذه الشواغل في أعمال مؤرخ آخر، تونسي الأصل والمنشأ والتجربة وهو ابن خلدون شيخ المؤرخين الذي شغلته في القرن الرابع عشر الصراعات بين البدو والحضر وقوانين تشكل العصبيات والسلالات الحاكمة وانهيار الدول بعد استتبابها. ويعني هذا أن الزمن التاريخي كان قد تبدل بالفعل. ومن الراجح أيضاً أن تونس لم تكن بعد «أمة»، في المعنى السياسي الحديث للكلمة، وهذا في نظر مؤرخ تقليدي كابن أبي الضياف الذي ينسج على منوال زميله المصري وسابقه عبد الرحمن الجبرتي حيث التاريخ يدور على «أخبار» الملوك والأعيان وتراجمهم. لكن تونس كانت غير بعيدة من التشكل كبلد قائم بذاته وذي خصوصية معينة، وذلك بسبب بعدها عن المركز العثماني وبسبب استقلال الأسرة الحسينية بتسيير شؤونها الداخلية، بل حتى الخارجية إلى حد كبير، مع تزايد الاحتكاك مع أوروبا عموماً ومع فرنسا الطامحة إلى توسيع امبراطوريتها في افريقيا الشمالية بعد احتلالها الجزائر خصوصاً. وإذا أضفنا إلى هذه اللوحة تلقف تونس المبكر للديناميكية التي أطلقتها التنظيمات العثمانية، مفسحة في المجال لدور سياسي وإداري أكبر وغير مسبوق للأسر المحلية وعائلات الأعيان خصوصاً في المدن التي شكلت عصب السلطنة طوال أربعة قرون، وإذا أضفنا كذلك توافر نسبة عالية من التجانس الإثني واللغوي والديني، لا يعود هناك أي مبالغة في القول إنّ تونس استجمعت، قبل الاحتلال الفرنسي وأثناءه وبعد الاستقلال، عدداً من الشروط التي تؤهلها لأن تكون وطناً وأمة. هذا التمهيد ضروري لوضع الحدث التونسي في المنظار العقلاني الذي يستحقه ويستدعيه في آن. فما جرى ويجري في تونس منذ شهر ونيف وحتى هذه الساعة حدث تاريخي بكل المقاييس. توصيف الحدث هذا ليس بلا دلالة. هل هو هبّة أم انتفاضة أم ثورة؟. ليس ترفاً ذهنياً الخوض في الفوارق بين هذه الأوصاف والتعريفات وما يترتب عليها. وقد ذهب بعض المتخصصين في الفلسفة السياسية إلى استبعاد أن يكون هذا الحدث ثورة في المعنى المعهود للكلمة، نظراً الى غياب المشروع الثوري عن أفق الاحتجاجات الغاضبة التي اندلعت إثر إقدام محمد بوعزيزي على إضرام النار في نفسه. هذا الرأي لا يخلو من وجاهة نظرية إذا شئنا المقارنة مع كبرى النماذج المعروفة وبغض النظر عن موقفنا منها، مثل الثورة الفرنسية أو البولشفية أو حتى الإيرانية. وماذا لو كانت الحالة التونسية نوعاً من التجريبية التي تسم مجتمعات تتجاذبها مُثل وأفكار وتصورات لا تنتظم في مدار مرجعية ثقافية واحدة؟ فلنقل إن معطيات المواجهات المتنقلة قبل فرار الرئيس المخلوع، والمعطوفة على عفوية صارخة في التعبير عن سخط شعبي عميق، ترجّح الظن في أن نكون حيال انتفاضة عاميّة لم تكن تمتلك لا خطة ولا برنامجاً واضحين. اتساع رقعة الاحتجاج وانتقالها من مدن الداخل المهمشة هي وأريافها إلى مدن الساحل وضواحيها، حيث تتركز السلطة والثروة والفئة الوسطى الناشطة وأصحاب المهن الحرة، وظهور علامات التصدع في قوى النظام الذي تخترقه تباينات وخلافات مكتومة، في الجيش وداخل الحزب الحاكم، كل ذلك سرّع في اكتشاف الناس لقوة صرختهم وفي الانتقال خلال أيام قليلة من منطق الانتفاضة العامية إلى منطق معالجة جذرية أشبه بثورة. وليس مستبعداً أن يكون حصل ضغط خارجي وداخلي لإزاحة بن علي وزوجته وحاشيتهما العائلية من الواجهة بسرعة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من النظام قبل فوات الأوان. وقد فات الأوان بحسب ما يستفاد من إصرار الشارع على محاسبة كل الذين سمحوا طوعاً أو كرهاً لبطانة الرئيس أن يحقنوا المجتمع بجرعة لا تطاق من «البلطجة» العارية. يحق للتونسيين أن يوسعوا دائرة المحاسبة في كل الاتجاهات من دون كيدية أو انتقام. وأول المحاسبة أن يكف اللاهثون إلى العثور على صورتهم عن العصرنة الزائدة للانتفاضة كالقول إنها نتاج التويتر والفيسبوك وثورة الاتصالات، على أهمية الدور الذي لعبته هذه في تناقل المعلومات. وقد قيل إن الثورة الإيرانية صنعتها أشرطة الكاسيت والثورة البلشفية صنعتها الجريدة. الذين نزلوا إلى الشارع وواجهوا رجال الأمن هم صانعو الانتفاضة. التغطية وإن متأخرة، كما حصل في فرنسا مثلاً، ستأتي بالتأكيد وسيكون على أصحابها أن يبرروا صمتهم المخجل.