يشكل العالمان العربي والتركي أهم دائرتين اضافة الى الدائرة الايرانية في المنظومة الحضارية الاسلامية، وهذا نظراً الى الوزن الثقافي والحضاري من جهة والديموغرافي والسياسي والجغراستراتيجي من جهة أخرى، ومما يبوئ هاتين الدائرتين مكانة خاصة، اشتراكهما في أربعة قرون من التاريخ المشترك تحت ظل الدولة العثمانية التي كان لها الفضل في حماية وتحصين الوطن العربي ضد التهديدات الخارجية الاسبانية والبرتغالية والايرانية، كما أن الوطن العربي من جهته أسبغ على الدولة العثمانية أهمية استراتيجية خطيرة، ووزناً دولياً متميزاً. وهو ما يجعل من هاتين الدائرتين أقرب من بقية الدوائر الى بعضهما البعض خصوصاً أنهما متجاورتان جغرافياً، اذ اضافة الى الحدود البرية، فإن كليهما ينتميان الى العالم المتوسطي ويسيطران على أغلب ضفافه. ومما يزيد في هذه الأهمية ما تشهده الساحة الدولية اليوم من متغيرات اتصالية واقتصادية وحتى جغراسياسية، اذ بالنسبة الى تركيا أصبحت ذات عمق استراتيجي مهم، بحكم امتدادها وتوجهها الى بقية العالم التركي في آسيا الوسطى، وهو ما يرشحها الى دور أكبر من الدور الذي كانت تضطلع به فيما مضى. أما الوطن العربي، وعلى رغم غلبة الدولة القطرية عليه، فإنه يشكل وحدة لغوية وحضارية متجانسة، ويعتبر ذا ثقل اقتصادي مهم ويتمتع بموقع استراتيجي في العالم يربطه بين القارات الآسيوية والافريقية والأوروبية، واشرافه على ممرات مائية استراتيجية. إلا أنه وبالنظر الى ما شهدته العلاقات بين الدائرتين العربية والتركية، نلاحظ أنها انتقلت من التواصل الى الانقطاع، ومن الانفتاح الى الانطواء والانغلاق بل والقطيعة. لقد اهتم العثمانيون بالدائرة العربية قبل فتح القسطنطينية وجسموا ذلك فعلياً منذ بدايات القرن السادس عشر بعثمنة كل من بلاد الشام ومصر ثم الولايات المغاربية الى أن أسدلوا رداءهم على كامل الوطن العربي باستثناء المغرب الأقصى منه. وتواصل ذلك مع شيء من الاختلاف بين كل قطر عربي وآخر الى الحرب العالمية الأولى. في هذه الفترة كان التواصل المعرفي يميز العلاقة العامة بين الطرفين، لكن أحداث الحرب العالمية الأولى كانت المفترق الذي جعلهما يدخلان في فترة من القطيعة التي قد تفتر حدتها أحياناً ولكنها تشكل الحالة العامة منذئذ والى اليوم. 1- استراتيجية التبادل المعرفي: تعود خطوط التماس بين العرب والأتراك الى حوالي اثني عشر قرناً، ولو اكتفينا بالمجال المعرفي لذكرنا أن الأتراك أخذوا من العرب أبجديتهم. ويحفظ لنا التاريخ أن ثاني أثر ثقافي تركي كان قد كتبه محمود الكشغري بين 1072 و1074م، هو عبارة عن معجم تركي - عربي، وهو الأول من نوعه، وقد أهداه صاحبه الى الخليفة العباسي المقتدي بالله. ولا شك في أن الثقافتين العربية والتركية بقيتا منذئذ مترابطتين ومتلازمتين تلاحماً وتفاعلاً وتناغماً على مدى أكثر من ثمانية قرون متتالية. غير أن ما يهمنا ليس البحث في الجذور البعيدة للتبادل المعرفي والتثاقف بينهما وانما الاقتصار على الفترة العثمانية وذلك للأسباب التالية: - ان الدولة العثمانية شكلت احدى أهم ثلاث دول عرفها التاريخ الاسلامي، وقد اعترف العرب بشرعيتها على أنها دولة خلافة، ومما يزيد في تلك الأهمية امتداد تاريخ العرب في ظلها حوالي أربعة قرون. - ان الانتماء الى الاطار السياسي نفسه فضلاً عن الروابط الحضارية والثقافية والدينية، أفسح المجال أمام نشوء ونمو التبادل المعرفي والانفتاح الثقافي بين فضاءات الدولة آنذاك خصوصاً منها الفضاءين العربي والتركي. وفي هذا الاطار كانت اللغة العربية قناة رئيسية للتعبير والاتصال. فقد كانت لغة الثقافة والمعرفة والعلم والأدب الرفيع. وكان ينظر اليها من الجانب التركي على أنها لغة القرآن الكريم والتراث الديني ولذلك كان التثاقف والتأثير المتبادل بين الجانبين العربي والتركي على أنها لغة القرآن الكريم والتراث الديني، ولذلك كان التثاقف والتأثير المتبادل بين الجانبين العربي والتركي أمراً طبيعياً ومرغوباً فيه. والحقيقة أن العربية لم تكن لغة دين وتراث ثقافي فحسب، وانما أيضاً لغة الكتابة المرجعية التاريخية لبعض الاعلام الأتراك أمثال حاجي خليفة الذي خلف لنا باللغة العربية أهم تأليف مرجعي على الاطلاق وهو "كشف الظنون عن أساسي الكتب والفنون" وهو عبارة عن مدونة كاملة لكل عناوين الكتب العربية المعروفة يومئذ على صعيد الساحة الاسلامية برمتها وهذا في منتصف القرن السابع عشر، وهو الأمر الذي لم يقم به ولا عالم عربي آخر بمثل هذه الدقة والتحري الكاملين. ثم ان اللغة العلمية التركية استعارت الكثير من المصطلحات العلمية العربية، كما اغتنت بالمفردات العربية، بما يعنيه ذلك من اتجاه نحو توحيد التصورات والمفاهيم. ويذهب أحد المهتمين بحقل البحوث اللغوية الى القول ان 60 في المئة من مجموع الألفاظ العثمانية المتداولة قبل تتريك اللغة ابتداء من سنة 1928 جاءت من اللغة العربية، ولم يقتصر ذلك على النخب الثقافية بل تعداه الى دوائر السلطة واتخاذ القرار وأصبح تعلم اللغة العربية أحد الشروط الأساسية لتولي المناصب العليا في الدولة مثل الافتاء والقضاء والتدريس، وحتى مراسلات بعض البايات الأتراك أنفسهم كانت باللغة العربية وتم ذلك على الخصوص بالنسبة الى المراسلات الرسمية للبايات بتونس ابتداء من سنة 1837. بل ان اللغة العربية قبل فترة الاتحاديين لم تحارب البتة في الولايات العربية جميعها، وكان التدريس والقضاء يتمان من خلالها، وهو ما يؤشر على أهمية التبادل الذي طال مجالات عدة مثل الفنون والفولكلور والمعمار وساهم في تشكيل الأذواق حتى تزاوجت بعضها مع بعض، وهذا الى درجة عدم تمييز خصائص كل منهما عن الآخر. كما لعبت الترجمة والنشر دوراً مهماً في التواصل بين الثقافتين العربية والتركية، ويكفي هنا أن نذكر أن الأتراك اكتشفوا العلاّمة ابن خلدون قبل العرب أنفسهم، وكان لهم بالتالي الفضل في إعادة كشفه لهؤلاء حتى احتل المكانة التي احتلها منذ القرن التاسع عشر لدى النخبة. ولعبت استنبول دور المركز الثقافي المهم الذي استقطب النخبة العربية، فمنذ بدايات ظهور الطباعة بها، سجل هذا الحضور عبر الطباعة والترجمة، اذ أن أول كتاب مطبوع ظهر بمطبعة استنبول هو "معجم الجوهري" وهو من أبرز المعاجم العربية، وترجم الى التركية منذ القرن 16 وظهر سنة 1728، ثم أعيد طبعه في ما بعد. ولعل ذلك يؤكد على أهميته كأداة عمل للدراسات الأدبية واللغوية. كما طبعت هذه المطبعة في أواخر عهدها رسالة في النحو تسمى "اعراب الكافية" لابن الحاجب، وكلا هذين الكتابين كان متبوعاً بترجمته التركية. كما ترجمت أمهات الكتب العربية في مختلف الفنون المعرفية الى اللغة التركية، وهذا ما يدل على عمق وتجذير أواصر التبادل المعرفي والتأثير المتبادل في حركة تصاعدية طوال كامل العصر الحديث بين الفضاءين العربي والتركي. ونتج عن كل ذلك أن مكتبات استنبول تحتوي اليوم على حوالى 300 ألف مخطوطة عربية من أصل حوالي 3 ملايين مخطوطة عربية موجودة في أنحاء العالم بما فيها الفضاء العربي، أي أن حوالي 10 في المئة من التراث العربي المكتوب تحتضنه استنبول لوحدها وهو ما يدل على دورها كمركز استقطاب معرفي عزز التبادل الثقافي وساهم في تصنيع وتفعيل التراث العربي فضلاً عن حمايته وصيانته من الاضمحلال طوال العهد العثماني كله. غير أن هذا الدور كانت تنافسها فيه عواصم عربية أخرى لعبت دوراً ثقافياً متكاملاً يشع على استنبول في حد ذاتها وعلى الجاليات التركية في البلاد العربية. من ذلك الدور الذي قام به كل من الأزهر وبدرجة أقل الزيتونة ودمشق، حيث كانت هذه المراكز مقصداً لطلبة العلم من مختلف ارجاء الامبراطورية ومن بين الأتراك أنفسهم خصوصاً بالنسبة الى أزهر أرض الكنانة. كما استقطبت استنبول خريجي تلك المراكز الاقليمية واستفادت من خبراتهم المختلفة. ويكفي أن نذكر هنا مدى تأثير الحركة الاصلاحية المصرية والتونسية على تشكيل النخبة الاصلاحية بالأناضول، فقد ظهر كتاب خير الدين التونسي "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك" متسلسلاً على أعمدة صحيفة "الجوانب" الاستنبولية باللغة التركية، وكان له التأثير البعيد على الاصلاحيين العثمانيين آنذاك خصوصاً على أكبر مصلح عثماني وهو مدحت باشا. مثله في ذلك مثل التجربة الاصلاحية الشاملة التي قادها محمد علي في مصر والتي استرعت اهتمام الاصلاحيين بالأناضول بقوة واعجاب وخوف وجعل العثمانيين، مثقفين وكتاباً وسياسيين، يطالبون من دون تأخير بمحاكاة تلك التجربة الاصلاحية النموذجية المصرية في الفضاء الأناضولي. ان حركية التنظيمات العثمانية بدءاً من كلهانة الى خط همايون تستمد قناعاتها وشرعيتها من نجاح تجربة محمد علي الاصلاحية الجبارة، وهو الأمر الذي جعل استنبول، بعد ذلك بقليل، مقصداً للنخب جميعها خصوصاً عندما التجأ اليها عشرات من القيادات الفكرية والدينية والسياسية العربية منها على الخصوص، كما أنها احتضنت عدداً مهماً جداً من المثقفين العرب نذكر منهم على سبيل المثال حسونة الدغيس الطرابلسي وهو أول عربي تولى رئاسة تحرير جريدة "تقويم وقائع" باللغة الفرنسية باستنبول وأحمد فارس الشدياق الذي أشرف على جريدة "الجوانب". انعكس هذا التجاوب والانفتاح المعرفيان على الصورة التي كان يحملها كل طرف عن الآخر. اذ أن صورة العربي في الأدب التركي في القرن التاسع عشر كانت عموماً طيبة وايجابية. فالعرب هم ممثلو دين وحضارة وعلم وفن واخلاق، كما أنهم يتصفون بالزخم الثقافي وبظاهرة التسامح، أما صورة التركي في الوسط العربي فقد بقيت متميزة وفي كثير من الأحيان اتسمت بالغطرسة اذ كانت تعكس الرفعة الاجتماعية والسياسية والعسكرية. وحافظت الجاليات التركية في المحيط العربي على خصوصياتها وروابطها القديمة مع اندماج جزئي في المجتمعات المحلية مثل الكراغلة. وهذا خلافاً لمجتمع العلماء والمكتبيين والمدرسين الأتراك الذين كانوا يكنون الاحترام والتقدير بل والاعجاب اللامتناهي لأمة العرب وعلمهم وحضارتهم وتراثهم وثقافتهم الواسعة.