الفرصة لاتزال مهيأة لهطول الأمطار على جازان وعسير والباحة ومكة    ليس الدماغ فقط.. حتى البنكرياس يتذكر !    البثور.. قد تكون قاتلة    قتل أسرة وحرق منزلها    أمريكا.. اكتشاف حالات جديدة مصابة بعدوى الإشريكية القولونية    مندوب فلسطين لدى الأمم المتحدة يرحب باعتماد الجمعية العامة قرار سيادة الفلسطينيين على مواردهم الطبيعية    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على انخفاض    هيئتا "السوق المالية" و"العقار " توقعان مذكرة تفاهم لتنظيم المساهمات العقارية    الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي يدعو الدول الأعضاء إلى نشر مفهوم الحلال الأخضر    وزير الحرس الوطني يستقبل وزير الدفاع البريطاني    أمين الأمم المتحدة يؤكد في (كوب 29) أهمية الوصول إلى صافي انبعاثات صفرية    إصابات بالاختناق خلال اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي بلدة الخضر جنوب بيت لحم    «خدعة» العملاء!    جرائم بلا دماء !    الخرائط الذهنية    الرياض تستضيف النسخة الرابعة لمنتدى مبادرة السعودية الخضراء    «قمة الرياض».. إرادة عربية إسلامية لتغيير المشهد الدولي    الحكم سلب فرحتنا    عبدالله بن بندر يبحث الاهتمامات المشتركة مع وزير الدفاع البريطاني    احتفال أسرتي الصباح والحجاب بزواج خالد    الشؤون الإسلامية في منطقة جازان تقيم مبادرة توعوية تثقيفية لبيان خطر الفساد وأهمية حماية النزاهة    مدارسنا بين سندان التمكين ومطرقة التميز    6 ساعات من المنافسات على حلبة كورنيش جدة    في أي مرتبة أنتم؟    الشؤون الإسلامية بجازان تواصل تنظيم دروسها العلمية بثلاث مُحافظات بالمنطقة    باندورا وعلبة الأمل    عاد هيرفي رينارد    لماذا فاز ترمب؟    علاقات حسن الجوار    الصين تتغلب على البحرين بهدف في الوقت القاتل    فريق الرؤية الواعية يحتفي باليوم العالمي للسكري بمبادرة توعوية لتعزيز الوعي الصحي    هاتفياً.. ولي العهد ورئيس فرنسا يستعرضان تطورات الأوضاع الإقليمية وجهود تحقيق الأمن    القبض على (7) مخالفين في جازان لتهريبهم (126) كيلوجرامًا من نبات القات المخدر    خالد بن سلمان يستقبل وزير الدفاع البريطاني    أمير تبوك يطمئن على صحة مدني العلي    مركز صحي الحرجة يُنظّم فعالية "اليوم العالمي للسكري"    إجتماع مجلس إدارة اللجنة الأولمبية والبارالمبية السعودية    «الداخلية» تعلن عن كشف وضبط شبكة إجرامية لتهريب المخدرات إلى المملكة    أمير المدينة يلتقي الأهالي ويتفقد حرس الحدود ويدشن مشروعات طبية بينبع    انطلاق المؤتمر الوزاري العالمي الرابع حول مقاومة مضادات الميكروبات "الوباء الصامت".. في جدة    الأمير عبدالعزيز بن سعود يرأس اجتماع الدورة الخمسين للمجلس الأعلى لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    انعقاد المؤتمر الصحفي للجمعية العمومية للاتحاد الدولي للخماسي الحديث    البصيلي يلتقي منسوبي مراكز وادارات الدفاع المدني بمنطقة عسير"    ذلك «الغروي» بملامحه العتيقة رأى الناس بعين قلبه    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    198 موقعاً أثرياً جديداً في السجل الوطني للآثار    أفراح النوب والجش    استعادة التنوع الأحيائي    تعزيز المهنية بما يتماشى مع أهداف رؤية المملكة 2030.. وزير البلديات يكرم المطورين العقاريين المتميزين    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 إلى لبنان    الخليج يتغلّب على كاظمة الكويتي في ثاني مواجهات البطولة الآسيوية    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    فيلم «ما وراء الإعجاب».. بين حوار الثقافة الشرقية والغربية    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    مقياس سميث للحسد    أهميّة التعقّل    د. الزير: 77 % من النساء يطلبن تفسير أضغاث الأحلام    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القدس مفتاح السلام . المعونات الاميركية لاسرائيل بعد احتلالها القدس في العام 1967 بلغت أكثر من 88 بليون دولار 2 من 2
نشر في الحياة يوم 10 - 11 - 1999

في عدد أمس نشرت "الحياة" الحلقة الأولى من محاضرة الدكتور المؤرخ وليد الخالدي ألقاها في مؤتمر "القدس الآن المدينة والناس: تحديات مستمرة" الذي نظمته "هيئة المعماريين العرب" في قاعة المحاضرات في قصر الاونيسكو في بيروت. وهنا الحلقة الثانية.
سيداتي سادتي
أدرجت اسرائيل جميع الأعمال التي ذكرنا تحت شعار أوحد هو: "وحدة القدس" unity أو "إعادة توحيدها"re-unification عاصمة أبدية لإسرائيل وجعلت من هذا الشعار أيقونة منزهة عن الطعن، أو الاستئناف، أو التشكيك، وأصبح هذا الشعار غطاءها، ودرعها، وذريعتها، في ديبلوماسيتها ودعايتها الدولية لكل ما اقترفته أيديها بالقدس، ومن حولها، كأن الاحتلال، والتوسع العسكري، وفرض الإرادة على الآخرين بالقوة المسلحة، وانتزاع أملاكهم منهم، وإحلال غيرهم محلهم، وإخراجهم من ديارهم قسراً، من مدلولات كلمات "الوحدة"، أو "إعادة التوحيد" المعجمية أو الفلسفية، أو كأن ما كان يجري ولا يزال يجري في القدس يمت من قريب أو بعيد الى معاني الوئام، والتراضي، والقبول الوحدوية، أو الى ما ترمز اليه القدس في تعاليم الديانات التوحيدية الثلاث.
وعبّأت اسرائيل المؤتمر الصهيوني Zionist Congress للدعوة لشعارها، والمؤتمر الصهيوني هو أعلى هيئة سياسية في الحركة الصهيونية منذ المؤتمر الأول عام 1897 يضم الى اليوم جميع الأحزاب والهيئات اليهودية المؤيدة لإسرائيل في العالم: ثلث أعضائه من الإسرائيليين، والثلث الآخر من اليهود الأميركيين، والثلث الباقي من الآخرين، ويرعى المؤتمر حملات التبرع والدعاية السنوية لإسرائيل والهجرة اليها، وينعقد مرة كل أربع سنوات بالقدس.
وبينما كان المؤتمر الصهيوني في دوراته السابقة في الفترة ما بين 1948 - 1967 يركّز على منع الأردن الوصول الى حائط المبكى، أخذ بعد 1967 يركّز على "وحدة القدس"، وعلى ضرورة المحافظة على هذه الوحدة، وعلى استحالة مسّها عاصمة أبدية لإسرائيل، كما ركّز على أن القدس الموحدة إنما هي محور الشعب اليهودي، ومركزه الروحي، كما احتفل المؤتمر عام 1987 بمرور عشرين عاماً على ما أسماه تحرير القدس، واحتفل عام 1992 بمرور 25 عاماً على هذا التحرير، واحتفل عام 1995 بمرور 3000 عامٍ على تأسيس مدينة داود عليه السلام. علماً بأن مدينة داود عليه السلام لم تتعد مساحتها في أزهى عصورها العبرية القديمة دونمين اثنين لا ثالث لهما.
بكلمة، كان هدف اسرائيل من وراء كل هذا، وعبر جناحها الأميركي في المؤتمر الصهيوني، انتزاع الاعتراف الأميركي، والأميركي بخاصة بضمها للقدس الغربية إضافة للقدس الشرقية ودوائرها الثلاث عاصمة أبدية موحدة لها.
لم تنطلِ حملة اسرائيل هذه على المجتمع الدولي وصدر عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة، ومجلس الأمن، ومجلس الوصاية، واليونسكو، ومنظمة العمل الدولية، ولجنة حقوق الإنسان، ما ينوف عن المئة قرار بشأن القدس، وجميعها يشجب تدابير اسرائيل في القدس، على أنواعها، منذ 1967، ويستنكرها، ويطالب بإلغائها، أو يعتبرها لاغية، أو غير شرعية، أو مخالفة لقرارات الأمم المتحدة، أو للقانون الدولي، أو لاتفاقات لاهاي وجنيف، وكانت هذه القرارات جميعاً تقرّ بأكثرية ساحقة، تضم الدول الأوروبية الكبرى، الى جانب سائر دول العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة، في كثير من الأحيان.
ورافق ذلك الى الأمس القريب موقف ناقد مماثل إزاء تدابير اسرائيل في القدس من قبل الإدارة الأميركية ذاتها، جرى التعبير عنه على لسان الرئيس، أو وزير الخارجية، أو المندوب الأميركي في هيئة الأمم، أو المتكلمين الرسميين للبيت الأبيض، أو الخارجية الأميركية، وثابرت واشنطن على هذا المنوال الناقد لتدابير اسرائيل في القدس طيلة الإدارات التي تعاقبت من ولاية الجنرال أيزنهاور لغاية نهاية ولاية الرئيس بوش.
بيد أن موقف الإدارة الأميركية حتى خلال تلك العقود كان يتميز بانفصام حاد ملحوظ بين القول والعمل، فبينما كانت واشنطن تندد قولاً بتدابير اسرائيل في القدس، وتطالب بإلغائها، وتعتبرها مخالفة للقانون الدولي ولاتفاقات جنيف، كان العون المالي الأميركي يتدفق على اسرائيل دفقاً مدراراً وبخاصة بعد 1967.
فطيلة الفترة ما بين 1948 - 1967، مثلاً، كان معدل المعونة الأميركية الرسمية لإسرائيل لا يتعدى 64 مليون دولار سنوياً، وبلغ مجمل ما وصل الى اسرائيل من واشنطن خلال هذين العقدين بليوناً واحداً و000،220 دولار.
ولكن بعيد 1967 أخذت المعونة تقفز وتتصاعد الى مئات الملايين، ثم الى البلايين من الدولارات سنوياً، بحيث بلغ ما وصل اسرائيل منذ 1967 والى يومنا هذا 88 بليون دولار، ليجعلها البلد الذي استلم أكبر معونة أميركية رسمية تراكمية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية - هذا عدا ما وصل الى اسرائيل من أميركا عبر الحركة الصهيونية من تبرعات معفاة من الضرائب، ومن مبيع سندات ومن قروض تجارية، بلغ مجمله منذ 1967 والى يومنا هذا 60 بليون دولار على أقل تقدير، فيكون مجموع ما وصل اسرائيل منذ حرب حزيران يونيو من الولايات المتحدة لا يقل عن مئة وخمسين بليون دولار.
ومن الخير أن نذكر هنا أن المعونة الأميركية الرسمية لإسرائيل تدفع في شكل دعم مباشر لميزانية حكومة اسرائيل من حكومة الولايات المتحدة Government to Government budgetary support ويقول تقرير لقسم الأبحاث التابع للكونغرس الصادر عام 1997 وبكل صراحة:
"إن المال قابل للتسرب fungible ولا سبيل لمعرفة كيفية انفاق اسرائيل للمعونات التي تتلقاها من الولايات المتحدة". انتهى كلام التقرير.
فهل نحن بعد هذا بحاجة الى فلكيين "صيّروا الأبراج العليا مرتّبة" حتى نتبين كيف يموّل احتلال جنوب لبنان، والجولان، والضفة الغربية، وقطاع غزة، والقدس؟
وإذا كانت سياسة الإدارة الأميركية تشكو من انفصام حاد تجاه القدس بين القول والعمل، فإننا نسارع الى طمأنتكم بأن الكونغرس لم يشك، ولا يشكو من العوارض ذاتها، ولقد وجهت اسرائيل قصارى الجهد نحو الكونغرس وتمكنت، لما للجوالي الأميركية اليهودية من سبل الترغيب والترهيب في الحصول على تأييده المطلق، غير المشروط، بل غدا الكونغرس أداة ضغط في يد اسرائيل ضد إدارته الأميركية في البيت الأبيض ذاته، كما أصبح الكونغرس الحامي لإسرائيل في القدس تجاه الأمم المتحدة. فبينما كانت هيئة الأمم تصدر القرار تلو القرار، شجباً واستنكاراً لسياسات اسرائيل في القدس، كان الكونغرس بالمقابل يصدر القرار تلو القرار دعماً وتأييداًَ وتشجيعاً لها.
لم يتوقف تأييد الكونغرس عند الإشادة بما أسماه "توحيد القدس" في حرب حزيران، ولا عند مديح إدارة اسرائيل لشؤون القدس منذ 1967، ولا عند الاحتفال بمرور ثلاثة آلاف سنة على قيام مدينة داود عليه السلام، ولا عند اعتبار القدس الموحدة غير المجزّأة عاصمة لإسرائيل، ولكنه أيضاً سن عام 1995 القانون العام 104 - 45 Public Law: 104 - 45 وما أدراك ما هو هذا القانون العام.
ان القانون العام 104 - 45 يلزم الإدارة الأميركية بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب حيث ما زالت الى الآن الى ما أسماه القدس الموحدة، وينص على أن يتم نقل السفارة بموعد أقصاه 31 مايو 1999، أي أيار الفائت، وفي حال عدم نقل السفارة بهذا الموعد وهو ما حدث، ينص القانون على معاقبة وزارة الخارجية الأميركية على تقصيرها، ويحدد هذه العقوبة ابتداء من السنة المالية 1999 - 2000 الحالية بخفض 50 في المئة من الميزانية السنوية المخصصة لسكن البعثات الديبلوماسية الأميركية ولصيانة سفارات الولايات المتحدة في العالم قاطبة، وينص القانون على الاستمرار بعقوبة وزارة الخارجية الأميركية الى أن تفتح سفارة الولايات المتحدة في القدس، وفي نفس الوقت يخول القانون 104 - 45 رئيس الجمهورية تعليق العقوبة على وزارة الخارجية لفترات طوالها ستة أشهر إذا استدعت اعتبارات المصلحة القومية ذلك، فهل سمعتم عن برلمان آخر في التاريخ السياسي أو التشريعي أو البشري يعاقب دولته لمصلحة دولة أخرى؟؟
وعلى غرابة هذا الأمر، فلعل ما هو أغرب منه الأسلوب الذي يشير فيه هذا القانون في ديباجته الى علاقة الديانات السماوية الثلاثة بالقدس.
تذكرون أني أشرت آنفاً الى نظرة غربية عريقة الى القدس يجمّد من خلالها تراث القدس عند العهد القديم من التوراة على حساب التراث العربي والإسلامي، فما قولكم بأن الديباجة تبدأ بالإشادة بعلاقة اليهودية بالقدس فتقول "ما فتئت القدس منذ 3000 سنة المحور المركزي للعبادة الدينية اليهودية"، ثم تشير الى علاقة المسيحية والإسلام بالقدس بدون تسميتهما وتكتفي بالقول: "والقدس أيضاً تعتبر مدينة مقدسة من قبل أعضاء ديانات أخرى" - هذا من أعلى مرجع تشريعي في أعظم دولة مسيحية في العالم والتاريخ.
6
سيداتي سادتي
كيف تتعامل الإدارة الأميركية الحالية مع هذا الوضع، وهي بيت القصيد وقطب الرحى؟
ورثت إدارة الرئيس كلينتون اتفاقية بين اسرائيل وواشنطن وُقِّع عليها في 18 كانون الثاني يناير 1989، تؤجر بموجبها اسرائيل الى واشنطن أرضاً مساحتها 31 دونماً تقع في موقع يُقال له معسكر اللنبي Allenby Barracks في حي البقعة العربي سالفاً في القدس الغربية لإقامة مرافق ديبلوماسية أميركية diplomatic facilities عليها، بإيجار قدره دولار واحد سنوياً لمدة 99 سنة، ووُقِّع على هذه الاتفاقية في آخر يوم عمل Work day في أيام ولاية الرئيس ريغان، فكانت مسك الختام لهذه الولاية، ورسالة وداع وتحية الى العالم العربي من صديقه الوزير المهندس جورج شولتز. ومع أن الاتفاقية لم تنصّ صراحة في حينه على بناء السفارة الأميركية في هذا الموقع، إلاّ أنها جاءت في سياق حمله الكونغرس بهذا الاتجاه، وأصبحت الوثيقة الخلفية للقانون العام: 104 - 45 لكونها سبقته.
لم يمارس الرئيس كلينتون حق النقض لمشروع هذا القانون الذي سُن طبعاً في ولايته الأولى، مع أن وزير الخارجية حينذاك وارن كريستوفر نصحه بممارسة هذا الحق لمخالفة القانون العام 104 - 45 للدستور الأميركي بسبب تعدّيه على سلطة الرئيس في صنع السياسة الخارجية، وفعلاً، أنذر كريستوفر الكونغرس خطياً بذلك، بيد أن الرئيس كلينتون اكتفى بممارسة حقه الوارد في القانون في تعليق العقوبات على وزارة الخارجية المنصوص عليها في القانون لفترة ستة أشهر بدلاً من ممارسة حقه في نقضه. فأين، إذاً، تقف الإدارة الأميركية الحالية اليوم من جوهر هذا القانون الذي مؤداه الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على القدس بالمفهوم الإسرائيلي مع كل ما يعنيه ذلك بالنسبة لمفاوضات المرحلة الأخيرة الجارية ولمستقبل القدس؟
قد يكون احجام الرئيس كلينتون عن ممارسة حق النقض ضد مشروع القانون العام 104 - 45 مرجعه الى عدم توفر الأكثرية اللازمة في الكونغرس الجمهوري بجانبه، وقد يكون مرجعه الى حسابات أخرى، المهم أن المعروف عن الرئيس كلينتون أنه يؤيد بقوة مبدأ القدس "الموحّدة" والذي يشهد بذلك هو فارس الدعوة الى الاعتراف بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل: السناتور باتريك موينهان ممثل نيويورك في مجلس الشيوخ، إذ قال موينهان عام 1994:
"لا تجاري أي إدارة سابقة هذه الإدارة في موقفها الواضح والصريح والدقيق open, direct, and specific position من مبدأ القدس غير المجزأة "undivided" انتهى كلام موينهان.
اضافة الى ذلك، تتميز هذه الإدارة عن سالف الإدارات بسعيها الواضح والصريح والدقيق لتحييد المرجعية القانونية الدولية على المسار الفلسطيني - الإسرائيلي، ففي 8 آب أغسطس 1994 طلبت السفيرة أولبرايت من زملائها في هيئة الأمم في رسالة علنية وجهتها اليهم: إسقاط drop جميع القرارات الصادرة عن هيئة الأمم الخاصة بقضايا المرحلة النهائية، وخصت بالذكر قضايا اللاجئين، والمستعمرات، والسيادة، ووضع القدس، وبررت ذلك بقولها ان هذه القضايا جميعاً هي موضع التفاوض بين الأطراف المعنية" وأخيراً، ساقت الوزيرة أولبرايت الذريعة ذاتها لتبرير عدم حضور الولايات المتحدة للمؤتمر الدولي الذي كان قد تقرر عقده في جنيف في تموز يوليو الفائت لجميع الدول الموقعة على اتفاقات جنيف للتأكيد على وجوب تقيد اسرائيل بهذه الاتفاقات في الأراضي المحتلة.
ومن بواعث المزيد من القلق هو هذا التظاهر الذي بلغ الذروة في ولاية الرئيس الأميركي الحالي بأن أميركا إنما هي في موقع طرف ثالث، بعيد عن طرفي النزاع العربي والإسرائيلي على حد السواء، وقد عبرت الوزيرة أولبرايت أخيراً عن ذلك بخفر لطيف محبب إذ وصفت نفسها بأنها إن هي إلا وصيفة handmaid لدى الطرفين، وأن اسرائيل فاعل دولي مستقل كل الاستقلال عن واشنطن لا علاقة لضخامة المعونات الأميركية لها، على أنواعها، بالموقف الأميركي من اسرائيل أو بطاقة اسرائيل التفاوضية أو بميزان القوى الناتج عن ذلك، وأن الطرف الفلسطيني إنما وقع على اتفاق أوزلو قانعاً، راضياً مرضياً، بحيث غدا هذا الاتفاق المرجعية الحصرية للمفاوضات وبمثابة براءة ذمة لواشنطن أعفتها من سالف الوعود والعهود والالتزامات.
- أما لهذا الليل من آخر، وهل بعد العسر يسرا؟
- هل من حل لقضية القدس، مستساغ من قبل المجتمع الدولي يصون الحقوق او بعضها ولا يتجاهل ميزان القوى؟
نظرياً، ثمة حل كهذا، وأركانه في نظر هذا العبد الفقير هي الأربعة التالية:
اولاً: لا تسوية على أساس غالب ومغلوب، قاهر ومقهور، سالب ومسلوب، قالع ومقتلع.
ثانياً: لا تجاهل للبعدين الديني والدنيوي الرمزي والسياسي ومكانتهما في نظر الطرفين.
ثالثاً: لا سيادة لأي من الطرفين على شقي المدينة.
رابعاً: لا امتياز لأي من الأديان الثلاثة على الدينين الآخرين فيما يخص البعد الديني لمدينة القدس.
اما ترجمة هذه الأركان، ميدانياً، فتكون كالآتي:
أولاً: القدس الشرقية: عاصمة دولة فلسطين تحت السيادة الفلسطينية ببلديتها الخاصة، ضمن حدود البلدية الموسعة الدائرة الداخلية والقدس الغربية عاصمة اسرائيل مع حفظ لحقوق المقدسيين العرب في القدس الغربية.
ثانياً: الحدود بين القدسين: خطوط 1967، وتظل هذه الحدود مفتوحة بموجب ترتيبات أمنية يتفق عليها.
ثالثاً: يمكن الابقاء على عدد من اليهود في القدس الشرقية، ويتفق في المفاوضات على وضع خاص بهم، تحت السيادة الفلسطينية. كذلك تعالج المفاوضات الخاصة بالمستعمرات في الضفة الغربية وضع المستعمرات في الدائرتين الثانية الوسطى والثالثة الخارجية - القدس الكبرى وحاضرة القدس.
رابعاً: تكون كل ديانة مسؤولة عن اماكنها المقدسة ومؤسساتها الدينية، وتُمثل الديانات الثلاث في مجلس ديني مشترك.
خامساً: تقوم هيئة مركزية على المستوى البلدي، برئاسة دورية لكل من الجانبين، وتٌعنى بقضايا البنية التحية والبلدية بين شطري المدينة.
ما هو احتمال تحقيق حل كهذا؟ الاحتمال بعيد لأن اسرائيل ستحاربه بكل ما لديها من قوة ونفوذ ولكنه احتمال قائم:
لدى مسيحييها ومسلميها، فشلت ان بإشراكهم في انتخابات بلدية القدس تحت السيادة الاسرائيلية او في دفعهم الى المطالبة بالجنسية الاسرائيلية. واخوانكم واخواتكم في القدس يشاركون في انتخابات السلطة الوطنية الفلسطينية وينتخبون ممثلين عنهم في المجلس التشريعي الفلسطيني ويشرفون على مستشفياتهم ومدارسهم ومحاكمهم المدنية.
بيد ان اخوانكم وأخواتكم في القدس بحاجة ماسة ملحة كل الإلحاح الى دعم ثابت، منتظم، مستمر، مضمون، مؤسس، يفوق اضعافاً مضاعفة ما حصلوا عليه الى الآن.
وهل هذا الوطن العربي الفسيح، الزاخر بالقدرات والامكانات، والذي ينفق ما ينفق، لأعجز، حقاً، عن ان يموّل مؤسسة برأس مال قدره خمسة بلايين دولار موقوفة على انقاذ: أولى القِبلتين وثالث الحرمين، ومسرى رسول الله ومعراجه، أرض المحشر والمنشر، مهبط الملائكة، مرقد الصحابة والتابعين، مقر الأولياء والأتقياء والزهاد والصالحين، حيث بشّر سبحانه وتعالى مريم بعيسى، وفضّل مريم على نساء العالمين، وحيث حملت النخلة لمريم رطباً جنيا؟
ومعركة القدس ما زالت قائمة: لأننا لم نستنفد، بعد، سوى القليل القليل مما يمكن استنفاده إزاء واشنطن، ولا اعني بواشنطن: الكونغرس، فالكونغرس مفتون بذاته، يدور في عالمه الخاص، القروي القارّي، لا يأبه بما سواه، بيد ان الوضع يختلف بالنسبة للادارة الاميركية، فالادارة الاميركية رغماً عن محاولاتها تعطيل قرارات هيئة الأمم، ومرجعية اتفاقات جنيف، وتبنيها لمبدأ القدس غير المجزأة، لها مصالحها وحساباتها الحيوية المنتشرة في الوطن العربي وديار الاسلام والعالم قاطبة، وهي لا تستطيع تجاهل ردود الفعل الدولية تجاهلاً كلياً، وهي، مثلاً، لم تفصح، بعدُ عن مفهومها لمدلول القانون العام 104 - 45 وعن أي قدس تعترف بها واشنطن بموجبه عاصمة "غير مجزأة" لاسرائيل.
فهل تعترف الادارة الاميركية بموجب هذا القانون:
- بالقدس الغربية ام بالقدس الغربية زائد المدينة القديمة في القدس الشرقية عاصمة لاسرائيل؟
أم هل تعترف بالقدس الغربية زائد القدس القديمة زائد القدس الشرقية الموسعة في الدائرة الداخلية؟ عاصمة لاسرائيل؟
أم هل تعترف بالقدس الغربية زائد القدس القديمة زائد القدس الشرقية الموسعة في الدائرة الداخلية زائد القدس الكبرى في الدائرة الثانية؟؟ عاصمة لاسرائيل؟
أم هل تعترف بالقدس الغربية زائد القدس القديمة زائد القدس الشرقية الموسعة في الدائرة الداخلية زائد القدس الكبرى في الدائرة الثانية زائد حاضرة القدس في الدائرة الثالثة؟ عاصمة لاسرائيل؟
أليس اضعف الايمان ان توجه عواصمنا فرادى ومجتمعة الى ادارة واشنطن هذه الأسئلة البديهية، وان تلح في السؤال وتلح في طلب الجواب، وقد اصبح القانون العام 104 - 45 جزءاً من التشريع الأميركي الراهن؟
ثم. مثلاً، أيضاً، بالنسبة للأرض المؤجرة لواشنطن بمبلغ دولار واحد سنوي ل99 سنة لبناء سفارتها عليها بالقدس، أعند عواصمنا فرادى، ومجتمعة، نبأ سرى بحديثه ركبان، بأن هذه الأرض، بعضها وقف إسلامي، ثابت، وبعضها ملك ذري، ملكه لغاية آخر يوم من أيام الانتداب البريطاني عام 1948 - ملكه 75 مقدسي ينتمون الى 19 عائلة عربية: 4 منها من العائلات المقدسية المسيحية العربية، و15 من العائلات المقدسية الإسلامية العربية، وأن اسرائيل استولت على هذه الأرض قسراً، كما استولت على سائر أراضي فلسطين العربية قسراً، بموجب قانون تعسفي لا سند له في القانون الدولي أو الوضعي، أسمته قانون أملاك الغائبين، وأن لا حق لإسرائيل لإيجارها ولا حق لواشنطن في استئجارها؟
وهل عواصمنا فرادى، ومجتمعة، أعجز، حقاً، عن مجرد لفت نظر إدارة واشنطن، والمثابرة في لفت نظرها، الى ما يترتب على المدى القريب، والأوسط، والبعيد، من مضاعفات تصيب سمعة الولايات المتحدة، ونفوذها، وصداقاتها، ومصداقيتها، ومصلحتها، وأمنها، في بناء سفارتها، أي رمزها، وفي القدس وفي القدس بالذات تجاه العالمين العربي والإسلامي على أرض مسلوبة من أصحابها الذين يبلغون هم وذريتهم ومستحقّوهم اليوم الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين من أبناء بيت المقدس الأصليين؟
8
ثمة خطر داهم في المدى القريب وهو خطر أن تقرر مفاوضات السلام الراهنة مستقبل القدس في ظل هذا المناخ وفي ظل هذه الموازين.
بيد أنه من الخير للسلطة الفلسطينية أن تدرك أن مصير القدس يعلو على نطاق قرار فلسطيني مستقل، ويتعدى ثنائية فلسطينية - اسرائيلية، ولهو أكبر، وأضخم، وأخطر، وأدهى من أن يعالجه طرف عربي، أي طرف عربي لوحده، وأن عدم الوصول الى حل في ظل هذا المناخ وهذه الموازين لهو خير من الوصول الى حل، وأن كلمة لا، لا، إن هي إلاّ من عزم الأمور؟
* * *
لا، لن نردد مع القاضي مجد الدين الحنبلي قاضي الطور عند فتح الإفرنج للقدس عام 1099 م، لن نردد قوله:
مررت على القدس الشريف مسلما / على ما تبقى من ربوع وأنجم
وفاضت عيون الدمع مني صبابة / على ما مضى من عصرنا المتقدم
لا، لن نردد هذه الأبيات وسنردد بدلاً منها ما قاله أحمد شوقي مخاطباً الجنرال اللنبي عام 1917:
يا فاتح القدس خلّ السيف ناحيةً / ليس الصليب حديداً كان بل خشبا
إذا نظرت الى أين انتهت يده / وكيف جاوز في سلطانه القطبا
علمت أن وراء الضعف مقدرة / وأن للحق لا للقوة الغلبا
* * *
وشكراً والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
توضيح
ورد في عددكم أمس 9/11/1999 الصفحة العاشرة قضايا ان اتحاد المهندسين العرب قام بتنظيم عقد مؤتمر "القدس الآن". الصحيح هو ان "هيئة المعماربين العرب" هي التي نظمت هذا المؤتمر وأشرفت على اقامته بجميع تفاصيله ومراحله.
إن هيئة المعماريين هي هيئة منبثقة عن "اتحاد المهندسين العرب"، غير أنه لها نظامها الأساسي الخاص واستقلاليتها في إدارة شؤونها.
رئيس هيئة المعماريين العرب
عاصم سلام


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.