} في روايته "الطبل الصفيح" التي تصدر قريباً بالعربية عن دار "الجمل" في المانيا، يعمق غونتر غراس الفائز بجائزة نوبل لهذا العام، رؤيته الى تاريخ المانيا من خلال تاريخه الشخصي. والرواية أشبه بسيرة ذاتية لغراس الذي ما انفك في كل مؤلفاته السابقة يربطها بمحيطها الاجتماعي، قبل الحرب العالمية الثانية، حتى حين يكتب عن مرحلة ما بعد الحرب، وهو بذلك أشبه بمن يكتب منتقداً الذاكرة الجمعية التي أدت الى الكارثة، من خلال ذاكرته الشخصية. وهنا فصل من "الطبل الصفيح": الفراشة الكبيرة والمصباح كان هناك رجل خلّف كل شيء وراءه، وقطع البحار العظيمة، وحطّ ركابه في اميركا واصبح ثرياً. الآن اريد الاكتفاء بهذا القدر من الحديث عن جدي، بغضّ النظر عما ذا كان لقّب نفسه بغولياجك باللغة البولندية، او كولياجك باللسان الكاشوبي، او جو كوجك بالصيغة الاميركية. من الصعب جداً النقر على طبل من الصفيح بسيط للغاية، ويمكن الحصول عليه في اي محل للعب الاطفال، او في اي متجر، والطواف به فوق الناقلات المنتشرة على امتداد النهر حتى الافق، ومع ذلك تمكنت من قرع الطبل في موانئ الاخشاب والالواح العائمة، متجولاً حول الشواطئ، مقلّباً قصب البردى، حتى وصلت، بجهد، الى اجزاء السفن والمراكب التي لم يكتمل بناؤها بعد في منشأة "شيشاو"، ومن ثم مصنع "كلافيت" للسفن، وكذلك ورش تصليح الزوارق، ومستودع خردة الحديد في مصنع عربات القطارات، ومخازن جوز الهند العطنة الرائحة التابعة لمعمل الزيوت، وجميع الزوايا والمخابئ المعروفة لي فوق جزيرة العنابر والمستودعات. فارق الحياة، ولم يعد يجاوبني، ولا يظهر اهتماماً بالتدشين القيصري للسفن الجديدة، ولا بغرق سفينة يبتدأ منذ تدشينها ويستمر عادة عشر سنوات، غرقت سفينة تدعى "كولومبوس" وكان يطلق عليها لقب "مفخرة الاسطول"، تلك السفينة التي ابحرت بكل تصميم صوب اميركا، وتمّ اغراقها في ما بعد، او انها هي التي اغرقت نفسها، ولعلها انتُشلت من جديد وأُعيد بناؤها وعُمّدت ثانية، او تحولت الى خردة حديد، ومن المحتمل ايضاً انها طفت مرة اخرى على السطح، تلك السفينة التي كان اسمها "كولومبوس" مقلّدة جدي، وربما انها تتجول اليوم بأطنانها الاربعين الفاً، وصالة تدخينها، وقاعة التمارين الرياضية المنحوتة من المرمر، وحوض السباحة، وقمرات التدليك، دعونا نقول تتجول في عمق ستة آلاف متر عند منخفض الفيليبين، او في خليج "امدنتيف" كما ان من الممكن الاطلاع على هذه التفاصيل في كتاب "فاير" عن الاساطيل، او في تقويم الاساطيل - اعتقد ان "كولومبوس" الاولى والثانية اغرقت نفسها بنفسها، لأن القبطان لم يعد راغباً في مواصلة الحياة، بسبب العار الذي اسفرت عنه الحرب. قرأت على برونو جزءاً من حكاية الناقلة، ثم طرحت عليه سؤالاً طالباً منه الاجابة بموضوعية، فقال بحماس: "انه لموت رائع!". وعاجل فوراً الى تحويل جدي الغريق الى توليفة من الاشكال المعقودة التي كان يركبها من شرائط الهدايا. فكان عليّ ان اقتنع بإجابته وان لا اهاجر الى اميركا مترصداً الميراث. زارني صديقاني كليب وفيتلار. كليب جلب معه اسطوانة جاز فيها مقطوعتان لكنغ اوليفر، وفيتلار ناولني بتكلف "قلباً" من الشوكولاتة معلّقاً بشريط وردي، ثم اخذا يعبثان ويقلدان مشاهد من قضية محاكمتي، وتظاهرت امامهما بالارتياح وخلو بالي من الهمّ والغمّ، لكي ادخل الفرح الى قلبيهما، مثلما افعل عادة في ايام الزيارات، معلناً عن استعدادي لتلقي اكثر النكات سخفاً بقهقهة. وقبل ان يلقي كليب محاضرته المحتمة حول علاقة موسيقى الجاز بالماركسية، بدأت أقصّ وبخفية تامة، حكاية رجل اندلس ذات مرة تحت ناقلة خشبية عملاقة بشكل مهول، وقد حدث ذلك في العام الثالث عشر اي قبل فترة قصيرة من يوم اندلاع الحرب، لكن الرجل لم يظهر على السطح ثانية، ولم يتم العثور على جثته. ورداً على سؤال غير متكلف طرحه بضجر شديد، أدار كليب باستياء رأسه المعقود الى رقبته الكثيرة الشحم، وفكّ ازارره ثم اطبقها من جديد، وصار يقلّد حركات السباحة وفعل كما لو انه نفسه اندس تحت ناقلة خشبية. اخيراً نفض يده عن سؤالي، والقى بذنب التخلي عن الاجابة على المساء المبكر. بدا فيتلار في جلسته مثابراً تماماً، واضعاً ساقاً على ساق، حذراًَ من ان تتكسر ثنيات السروال، مستعرضاً نمطاً من السخرية: "انني موجود الآن على ظهر الناقلة. والجو اصبح رائعاً جداً على سطح الناقلة فصار البعوض يقرصني. انه اذاً لأمر جيد عندما اكون تحت الناقلة، حيث لا يقرصني البعوض، وهذا امر مريح للغاية. واعتقد ان الحياة ممكنة تحت الناقلة، اذا لم يكن المرء راغباً في البقاء على سطحها لينهشه البعوض". توقف فيتلار عن الكلام وتفحصني بنظرة، ثم رفع حاجبيه اللذين كانا مرفوعين اصلاً بالفطرة، لكي يبدو مظهره شبيهاً بمظهر البومة، وقال مشدداً على عباراته بشكل مسرحي: "انني افترض ان الغريق، اي الرجل الذي انزلق تحت الناقلة، هو شقيق جدك، ان لم يكن جدك نفسه، ولانه كان يشعر بالمسؤولية ازاءك باعتباره شقيق جدك، او جدك بصورة اوضح، فانه لاقى حتفه، اذ ليس هناك شيء اشد بغضاً اليك من ان يكون لك جد حيّ. وعليك فإنك لست قاتل شقيق جدك، بل قاتل جدك بالذات! ولانه اراد ان يعاقبك قليلاً، مثلما يفعل كل جد حقيقي، فانه لم يخلّف لك ما من شأنه ان يدخل البهجة الى قلوب الاحفاد، بحيث يجعلك تقف على الجثة الغريقة المتفسخة المترهلة، لتشير اليها بفخر واعتزاز، ثم تستخدم كلمات مثل: انظروا الى جدي الميّت! كان بطلاً حقاً، واقتحم الماء عندما كانوا يطاردونه. اختلس جدك الجثة من العالم ومن الحفيد معاً، لكي ينشغل به الحفيد والاجيال القادمة زمناً طويلاً. وينقلب فيتلار الطبيعي الى فيتلار الماكر المنحني قليلاً الى الامام، موحياً بنزعته للمصالحة، قافزاً من نبرة مسرحية مصطنعة الى اخرى: "انها اميركا، فكن فرحاً يا اوسكار! اصبح لديك هدفاً في الحياة، ومهمة. وسيحكمون عليك هنا بالبراءة وسيطلقون سراحك! فالى اين ستذهب ان لم تذهب الى اميركا، حيث يستطيع المرء العثور على كل شيء مرة اخرى، بما فيه الجد المفقود!". ومهما غرقت اجابة فيتلار بالتجريح والتهكّم المرير، فانها كانت تمنحني ثقة اكبر بكثير من تبرّم كليب الضبابي العالم الذي لا يفرّق بين الموت والحياة وكذلك افضل من اجابة الممرض الذي اطلق صفة الرائع على موت جدي، لسبب واحد وهو ان SMS كولومبوس دشّنت بعد رحيله بفترة وجيزة، وانغمرت بالامواج. حينئذ امتدحت اميركا فيتلار المحافظة على الاجداد، اميركا، ذلك الهدف المكتسب سلفاً، والمثل الاعلى الذي يجب ان اضعه نصب عيني اذا القيت بالطبل وريشة الكتابة جانباً ذات يوم ضجراً بأوروبا: "عليك ان تواصل الكتابة يا اوسكار! افعل ذلك من اجل جدّك كولياجك الثري المتعب في آن واحد، والذي يشتغل في تجارة الاخشاب ويعبث بعيدان الثقاب في جوف احدى ناطحات السحاب!". حالما ودّعني كليب وفيتلار، منصرفين اخيراً، قام برونو بطرد رائحة الصديقين المزعجة من الغرفة عبر عملية تهوية فعّالة ومؤثرة، بعد ذلك تناولت طبلي وطبّلت ليس لاخشاب الناقلات التي تطبق على الموت، انما عزفت ذلك الايقاع المتسارع الشديد التبدل الذي لا بد ان ينصت اليه جميع الناس في آب اغسطس من العام الرابع عشر، ولهذا فمن الصعب عليّ ان اتفادى في هذا النص، وصف ذلك الطريق وصفاً اولياً على الاقل، قبل الوصول الى ساعة ولادتي، ذلك الذي كانت تقطعه جموع المشيعين المفجوعين الذين خلفهم جدي وراءه في اوروبا. فبعدما اختفى كولياجك تحت الناقلة، اجتاح الخوف والقلق جدتي وابنتها اغنيس وفنسنت برونسكي وابنه يان ذات السبعة عشر عاماً وكانوا بين اهالي الملاحين واقربائهم عند جسر المرسى التابع لورشة النشارة. كان غريغور كولياجك، الشقيق الاكبر ليوسف الذي استدعي للتحقيق معه واستجوابه، يقف بعيداً عن تلك التطورات. غريغوري هذا الذي لم تكن لديه اجابة واحدة مستعد لترديدها امام الشرطة كل مرة: "انني اكاد لا اعرف شيئاً عن شقيقي. ولا اعرف في الحقيقة سوى انه يدعى يوسف، وعندما رأيته آخر مرة كان في العاشرة، او في الثانية عشرة، وكان ينظّف لي الحذاء ويجلب البيرة، اذا ما رغبت انا وامي، في شرب البيرة". ان اجابة غريغور كولياجك لم تنفع الشرطة شيئاً، مع ان ام جدي محبّة للبيرة حقاً، بيد ان وجود كولياجيك الاكبر نفع جدتي كثيراً. لقد بقي غريغور الذي كان امضى شطراً من حياته في "شتيتين" وبرلين واخيراً في "شنايد همول" في داسنغ وعثر على عمل في مطحنة البارود Bastion Kaninchen وبعد انتهاء العام، وايداع الامور المعقدة التي ترتبت عن زواج جدتي من فرانك مزيف اضبارات الشرطة وملفاتها، عقد غريغوري قرانه على جدتي التي لم ترغب في التخلي عن آل كولياجيك، ولعلها لم تكن لتسرع في زواجها الثاني لو لم يكن غريغور كولياجيك. أقام الزوجان ومعهم امي في الدار نفسها ذات الغرفة ونصف الغرفة التي كانت ملاذاً لمشعل الحرائق اعواماً طويلة، واتضح آنذاك ان كل كولياجيك لا يشبه الآخر بالضرورة، فبعد اقل من عام على الزواج اضطرت جدتي الى تأجير الدكان الذي فرغ لتوه في قبو الدار في "ترول" لتعرض فيه جميع الحاجيات القابلة للبيع، لم يجلب الى الدار ما هو ضروري للعيش، انما كان ينفق ماله على الشرب. وفيما كان غريغور معاقراً للخمرة، ربما تحت تأثير ام جدي فان جدي يوسف كان يحتسي بسرور قدحاً صغيراً من الخمر بين الحين والآخر. لم يشرب غريغور الخمرة بسبب الحزن، بل كان يشربها حتى في حالات فرحه النادرة، ولأنه كان يميل دوماً الى الكآبة والانطواء كان يعبّ الخمر ليس تحت تأثير الفرح، وأحب الشرب ايضاً، لانه كان يحب الوصول الى قاع الامور كلها والى قرارتها، بما فيها الخمرة، ولم يشهد احد انه رأى غريغور كولياجيك تخلى طوال حياته عن ثمالة قدح واحد من حُمرة العرعر. آنذاك اظهرت امي ذات الخمسة عشر عاماً الممتلئة بعض الشيء، اظهرت نفسها باعتبارها فتاة مفيدة، فكانت تساعد امها في الدكان، فتلصق الاسعار على المواد الغذائية وتوزع البضاعة على الزبائن ايام السبت وتكتسب انذارات خالية من اللباقة، لكنها مليئة بالفنتازيا، لكي تدفع المقترضين المقصرين الى التعجيل في تسديد ديونهم. ومما يؤسف له انني لم احتفظ بواحدة من تلك الرسائل المتوعدة المنذرة، فكم سيبدو الامر ممتعاً لو انني اقتبست مقطعاً من صرخات الاستغاثة الصبيانية، تلك التي سطرتها فتاة يتيمة الأب في خطابات عنيفة اللهجة، اذ ان غريغور كولياجك لم يكن صالحاً لتعويض الاب المفقود تعويضاً كاملاً. كانت جدتي وابنتها تجدان صعوبة بالغة في اخفاء صندوق الدخل الممتلئ احياناً بالقطع النقدية النحاسية والفضية، والمؤلف من طبقتين خفيفتين من الالمنيوم، عن الانظار الكوالياجيكية السوداوية الشديدة الاكتئاب، انظار طحّان البارود الظمآن ابداً. وعقب وفاة غريغور كولياجك في العام السابع عشر، اثر اصابته بالانفلونزا، ارتفعت نسبة الأرباح التي كان يدرها دكان العطارة، لكن ليس الى حدّ كبير، اذ ما الذي كان يمكن ان يباع في العام السابع عشر؟ اما الحجرة الصغيرة في الدار والتي ظلت خالية منذ رحيل طحّان البارود، لأن جدتي لم ترد السكن فيها خشية الجحيم، فقد شغلها يان برونسكي، ابن خال امي، ذو العشرين عاماً آنذاك، وترك "بيساو" وأباه، عزم على تمضية فترة التدريب في دائرة البريد التابعة للمدينة المحلية، بعد نيله شهادة تخرّج جيدة من المدرسة المتوسطة في "كارتهاوز"، لكنه قدم آنذاك الى دائرة البريد المركزية في دانشغ رقم 1، ليعد نفسه الى وظيفة ادارية من النوع المتوسط. وبالاضافة الى حقيبته جلب يان معه طوابع كثيرة الى بيت خالته. كان يجمع الطوابع منذ صباه المبكّر، ولذلك فإن علاقته بالبريد لم تكن مجرد علاقة مهنية، بل علاقة شخصية أيضاً، ومتأنية على الدوام. كان لذلك الفتى النحيف الجسم المحدودب الظهر بعض الشيء وجه وسيم بيضوي الشكل، ولأنه كان وسيماً وذا عينين زرقاوين، فقد شغفت به أمي ذات السبعة عشر عاماً ووقعت في غرامه. أخضع يان ثلاث مرات للفحص الطبي العسكري، الا انه كان يعفى من الخدمة كل مرة، بسبب قامته المعوجة وحالته السيئة التي انتشرت حولها شتى الأقاويل، في ذلك الزمن الذي كان يساق فيه الاصحاء المستقيمو القامة الى ناحية "فردان"، حيث كانت اجسادهم تمدد هناك في التراب الفرنسي على نحو أفقي. كان على المغازلات ان تبدأ في الواقع اثناء التفرج على البومات الطوابع اي اثناء مقارنة الرؤوس المسننة للنسخ النادرة الثمينة، غير انها بدأت عندما استدعي يان للفحص الطبي للمرة الرابعة. فرافقته أمي التي أرادت المرور في المدينة لحاجة ما، وانتظرته امام مبنى القيادة العامة للمنطقة، حيث وقفت الى جانب كابينة الحراسة التي يقوم بها الدفاع المدني، وكانت متفقة مع يان على انه سيساق هذه المرة الى فرنسا، ليشفي قفصه الصدري السقيم في هواء ذلك البلد المتخم بالرصاص. وربما احصت أمي آنذاك أزرار الحرس المدني مرات عدة، وخرجت بنتائج متباينة. واستطيع ان أتخيل ازرار اصحاب القيافات العسكرية محسوبة بطريقة ما، بحيث كان الزر الذي يحسب في الاخير يعني "فردان"، اي انه يعني احد رؤوس هارتمانسفالير كوبف*، او نهراً صغيراً عند: سوم*، أو مارن*. وحين فتح الشاب الظريف المفحوص للمرة الرابعة بوابة القيادة العامة للمنطقة بعد حوالى ساعة، وهبط درجات السلّم الأمامي متعثراً، طوّق جيد أمي بذراعيه، ثم همس في اذنها مردداً تلك العبارة التي كانت محبوبة آنذاك: "لا مؤخرة ولا عنق، سنة كاملة الى الوراء!". فحضنت أمي يان برونسكي لأول مرة في حياتها، ولا اعرف اذا اخذته في احضانها بسعادة بعد ذلك مثلما شعرت في تلك اللحظات. لم اطلع في الواقع على تفاصيل علاقة الحب الشابة تلك التي نشأت ابان الحرب. لقد باع يان جزءاً من مجموعة طوابعه، ليرضي رغبات امي المولعة بكل ما هو جميل وأنيق وثمين، وفي ذلك الوقت بدأ ايضاً بتدوين يومياته التي فقدت للأسف الشديد. كانت جدتي راضية عن تحالف الشاب والفتاة، ذلك التحالف الذي يمكن ان يقال عنه انه ذهب ابعد بكثير من مجرد صلة القرابة، لأن يان برونسكي سكن في ذلك البيت الصغير في "ترول" حتى فترة قصيرة قبل اندلاع الحرب. انتقل من هناك بعدما بات من الصعب انكار وجود سيد يدعى ماتسرات، ذلك الوجود الذي اعترف به حقاً. لا بد ان تكون والدتي تعرفت الى ذلك السيد اثناء خدمتها كمساعدة تضميد في المستوصف العسكري "سلباهامر" قرب "أوليفا". كان ألفريد ماتسرات المولود في حوض الراين راقداً في المستوصف اثر اصابته اصابة بالغة بشظية اخترقت فخذه، فأصبح بمرور الوقت محبوباً من المضمدات جميعهن حباً مبهجاً جديراً برجل قادم من منطقة الراين، ولا يمكن استثناء الممرضة آٌنس من ذلك الحب. فكان يتكئ على ذراع هذه الممرضة او تلك، ويعرج في الردهات قبل ان يتماثل للشفاء، وكان يساعد الآنسة آغنس في اعمال المطبخ، لأن قلنسوتها البيضاء كانت متناسقة تماماً مع وجها المستدير، ولأنه، بصفته طاهياً متقاعداً، كان قادراً ايضاً على تحويل المشاعر الحسية الى حساء. بعدما اندمل الجرح بقي ألفريد ماتسرات في دانسنغ، حيث عثر فوراً على عمل كمندوب تجاري لشركته الرينانية الكبيرة التي كانت تصنع الورق. وحين تراجعت حدة الحرب، بدأت الناس تتسلى بتحضير معاهدات للسلام، من شأنها ان تشكل منطلقاً ودافعاً لحروب قادمة: فتم اعلان قيام الدولة الحرة في المنطقة المحيطة بمصب "فايكسل"، بدءاً من "فوغلزانغ"، امتداداً بموازة "نوغات" حتى "بيكل"، ومن هناك انحداراً مع "فايكسل" الى "جاكتاو"، وتضم من ناحية الشمال مثلثاً يمتد رأسه الى "شونفليس"، وقوساً منحنياً يحيط بغابة "ساسكوشيز"، وينتهي ببحيرة "اوتمين" متخلية عن الأراضي الواقعة في "ماترن" و"رامكاو" و"بسياو" الجدة، ثم تواصل الدولة الوليدة طريقها حتى "كلاين - كاتس" على بحر البلطيق، ووضعت تلك الدولة تحت وصاية عصبة الأممالمتحدة. وقد منح الى بولندا ميناء حراً في أراضي دانسغ ذاتها، اضافة الى الرصيف الغربي الذي كان يضم مستودع الذخيرة وإدارة القطارات ودائرة بريد مستقلة في ميدان "هيفوليوس". وفيما كانت طوابع الدولة الحرة تمنح الرسائل شعارات ورسومات سفن شراعية بأبهة تتناسب وأبهة المدن التجارية الألمانية، فإن البولنديين كانوا يكتفون بلصق المشاهد الجنائزية على رسائلهم، تلك المشاهد التي تصور تاريخ كازيمير وباتوريس*. انتقل يان برونسكي الى البريد البولندي، وبدا انتقاله تلقائياً وكذلك اختياره لبولندا. كان هناك الكثير من الناس الذين رأوا في حصول امي على الجنسية البولندية سبباً رئيسياً لسلوكها. وفي العام العشرين هزّم مارجالك بيلوزودسكي* الجيش الأحمر قرب وارسو، وظهرت المعجزة عند "فايكسل" واعتبرها الناس من امثال فنسنت برونسكي من معجزات السيدة العذراء، في حين اعتبرها الخبراء العسكريون من معجزات الجنرال سيكورسكي، او الجنرال فايغاند، في ذلك العام البولندي الصرف خطب امي ماتسرات المحسوب على تبعية الرايخ الألماني. انني ما زلت مقتنعاً الى حد ما بأن جدتي آنا، شأنها شأن يان، لم تكن مقتنعة بتلك الخطوبة، فتخلت عن الدكان، الذي انتعش آنذاك، الى ابنتها. ورحلت لتيم مع شقيقها فنسنت في "بيساو"، البولندية، واستلمت ادارة حقول البنجر والبطاطس، مثلما كانت تفعل قبل الكاولياجيكية، متيحة الفرصة لشقيقها الذي حلّت به الرحمة والبركة التحدث الى ملكة بولندا العذراء ومناجاتها، ومقتنعة بالتربع بثيابها الأربعة امام نيران اعشاب البطاطس، متطلعة الى الأفق الذي ما زال يفصل اعمدة التلغراف عن بعضها بعضاً. بعدما وقع يان برونسكي على فتاته "هدفغ"، الكاشوبية الأصل القادمة من المدينة نفسها، لكنها كانت تمتلك حقلاً زراعياً في "راسكو"، وزواجه منها، تحسنت العلاقة بينه وبين امي. قيل انها قدمت يان الى ماتسرات اثناء حفلة راقصة تشبه الحفلات التي يلتقي فيها الناس ببعضهم بمحض الصدفة. وفي الحال اظهر السيدان، المختلفان في الطبع المتفقان في علاقتهما بأمي، اعجاباً ببعضهما، على رغم ان ماتسرات وصف انتقال يان الى البريد البولندي بلهجة الرينانية العالية النبرة والقاطعة بأنه تصرف احمق. ثم رقص يان مع أمي في حين رقص ماتسرات مع هدفغ الخشنة العظام الضخمة الجسد وكانت لها نظرة طافحة مثل نظرة البقرة، كانت تشيع لدى الحاضرين المحيطين بها اعتقاداً بأنها حبلى على الدوام. رقصوا مع بعضهم وخلاف بعضهم وكان كل واحد منهم يفكر اثناء الرقص في الرقصة القادمة، وصاروا يستبقون الايقاعات في رقصة "الزحزحة"، ويتوقفون في رقصة "الفالس" الانكليزية، الى ان استعادوا ثقتهم من خلال رقصة "الجارلس"، بل انهم وجدوا في رقصة "الثعلب" متعة حسية تقترب من التدين. حين تزوّج ألفريد ماتسرات أمي في العام الثالث والعشرين الذي كان يمكن ان يكسو فيه المرء ورق جدران غرفة نومه كاملة بثمن علبة ثقّاب، اي بلا ثمن في الواقع، حضر يان شاهداً، اما الشاهد الآخر فكان تاجراً لبضاعة المستعمرات ويدعى مولن. ليس لديّ الكثير مما أرويه عن مولن هذا الجدير بالذكر فقط، لأنه سلّم أمي وماتسرات متجر بضائع المستعمرات الكاسد الموشك على الافلاس بفعل كثرة ديون الزبائن، وكان يقع في ضاحية "لانغفور". لقد تسلما المتجر في الوقت الذي دخلت فيه العملة الجديدة*. وخلال فترة قصيرة تمكنت أمي التي كانت اكتسبت خبرة ممتازة في التعامل مع الدائنين على اختلاف اصنافهم اثناء ادارتها للدكان في "ترول" وكانت تتمتع بحسّ تجاري وبروح السخرية وسرعة البديهية، تمكنت من انعاش المتجر المهمل من دفع ماتسرات الى التخلي عن وظيفة الوكيل التجاري في صناعة الورق المكتظة آنذاك بالعاملين وتفرغ للعمل في المتجر. كان كل منهما يتمم الآخر على نحو مدهش، فكان ابن الراين يصل في تعامله مع الوكلاء او عندما يشتري البضائع من اسواق الجملة الى القدرات والجهود ذاتها التي كانت تبذلها امي في تعاملها مع زبائن المتجر. اضافة الى ذلك جاء حب ماتسرات الى مئزر الطهاة الذي كان صالحاً دائماً للعمل في المطبخ والمتضمن غسل الاطباق والأواني ايضاً، مما خفف عن العبء عن امي التي كانت تؤثر الوجبات السريعة. كانت شقّة السكن الملحقة بالمتجر ضيقة في واقع الحال ومقسمة بطريقة سيئة، الا انها كانت تعتبر شقة بورجوازية بقدر كاف، مقارنة بالشقة في "ترول"، وتعرفت اليها من خلال الاحاديث، الى ان امي لا بد ان تكون قد شعرت بارتياح عميق هناك في الاعوام الأولى من زواجها. وعدا الممر الملتوي قليلاً والذي كدست فيه علب مسحوق الغسيل، كان ثمة مطبخ واسع، امتلأ نصفه كذلك بالبضائع وبعلب الطعام المحفوظ وأكياس الطحين وقطائف الشوفان، اما غرفة الجلوس ذات النافذتين المطلتين على الشارع والمشرفتين على الحديقة الامامية الموشاة صيفاً وشتاء بأصداف بحر البلطيق فقد كانت عماد تلك الشقة في الطابع الأرض. وإذا كان ورق الكساء يشع لوناً احمر حمرياً، فإن المصطبة المنجدة كانت ارجوانية اللون. وثمة طاولة طعام قابلة للسحب، بأطراف مستديرة تحيط بها أربعة كراسي مكسوة بالجلد الأسود، اضافة الى منضدة تدخين صغيرة متغيرة المكان باستمرار. كانت تلك الأشياء كلها تنتصب بقوائمها السوداء فوق سجادة زرقاء، وكانت هناك ساعة سوداء مذهبة قائمة بين النافذتين، وبيانو اسود استقر عند المصطبة الارجوانية، كان قد استأجر في البدء، ثم سدد ثمنه بالتقسيط، ومقعد عزف دوّار وضع على جلد مدبوغ طويل الوبر. وفي الجهة المقابلة ثمة بوفيه سوداء مشبكة بقضبان بيضوية صقيلة وأبواب رسمت عليها صور فاكهة قائمة السواد، نضدت خلفها الأواني وشراشف السفرة، وقد ركبت البوفيه على دولاب اسود اللون، وكانت هناك فجوة صغيرة بين اناء من البلور وكأس سباق اخضر ربحه الزوجان في اليانصيب، واكتملت الغرفة بفضل امي وشطارتها بجهاز راديو ذي لون بني. كانت حجرة النوم مطلية بالدهان مطلة على فناء المنزل المؤجر ذي الطوابق الاربعة. ارجو ان تصدقوا اذا قلت لكم ان قبّة سرير القلعة الزوجية كانت زرقاء فاتحة الزرقة، وتحت الضوء الازرق الخفيف كانت ثمة صورة مؤطرة شفافة الزجاج تمثّل مريم المجدلية وهي تكفّر عن ذنوبها في المغارة، شاحبة الجسد، تنفث بحسراتها الى اليمين نحو الزواية العليا للصورة، واطلت اطرافها العديدة من ناحية الصدر، لدرجة ان المرء كان يضطر كل مرة الى احصائها من جديد لاعتقاده بأنها اكثر من عشرة. وقبالة سرير الزوجية ربضت خزانة الملابس البيضاء بأبوابها المزودة بالمرايا، وعلى شمالها منضدة ادوات الزينة، وعلى يمينها كومودينو ذات سطح من الرخام، وعُلّق تحت السقف مباشرة طبقان من الخزف الصيني، لم يربطا بالقماش مثلما ربطت الاطباق الخزفية الاخرى في غرفة الجلوس، انما بذراعين من النحاس الاصفر، طبقان من خزف وردي اطلّت من ورائه اللمبات الصغيرة جلية للعيان، ناشرة الضياء في كل مكان: هكاذا كانت مصابيح غرفة النوم. قرعت طبلي اليوم طارحاً عليه الاسئلة، لأنني اردت ان اعرف اذا كانت لمبات غرفة نومنا بأربعين، ام بستين "واط". ولم تكن تلك المرة الاولى التي طرحت فيها هذا السؤال الجوهري عليّ وعلى طبلي في آن واحد. كنت غالباً احتاج الى ساعات طويلة لكي اجد طريقي الى المصابيح من جديد. ألم يتوجب عليّ كل مرة ان أنسى آلاف الاضواء اثناء دخولي ومغادرتي المنازل الكثيرة التي كنت ابعث فيها اليقظة او النوم، من خلال ازرارها الكهربائية المناسبة، لعلي اخرج عبر التطبيل الخارق للعادة، من غابة الاجساد الضوئية العادية المألوفة، وأتلمس طريقي الى غرفة نومنا؟ وضعت امي في البيت، وعندما جاءتها آلام المخاض كانت تقف في المتجر، تعبئ السكر في اكياس الورق الزرقاء ذات نصف الكيلو او ربعه، وتأخرت عملية نقلها الى مستشفى الولادة، لذلك استدعيت قابلة عجوز كانت تسكن في شارع هيرتا، قريباً من دارنا، لم تعد تمارس مهنتها الا نادراً، فقدمت لنا المساعدة في غرفة النوم لكي ننفصل، انا وامي، عن بعضنا. أبصرت نور العالم هذا في هيئة لمبتين كل واحدة منها بقوة ستين "واط"، ولذلك فان نص الكتاب المقدس يحضرني الآن: "أمر الرب بالضوء فجاء الضوء" تماماً مثلما كانت الدعاية الخطية الناجحة لشركة "اوسرام". وما عدا التصدّع الاجباري الذي حدث في السد، فان ولادتي تمت بيسر، فتحررت بسهولة من الوضع الرأسي الذي كثيراً ما امتدحت الامهات وخبراء الاجنة والقابلات على السواء. دعوني اقول على الفور: كنت من الاطفال الرضّع المرهفي السمع والذين حُسم تطورهم الذهني والروحي منذ الولادة ولم يعد امامهم سوى ان يؤكدوا شخصيتهم ويثبتوا وجودهم على الدوام. وبمقدار ما كنت متحرراً من كل شكل من اشكال التأثير عندما كنت جنيناً، فانني لم اصغ قط الا لنفسي وحدها، مقدراً في الوقت ذاته اهمية اللهو والعبث بسائل الرحم، فكنت اتنصّت بحس نقدي الى التصريحات التلقائية الاولى التي كان يطلقها والداي تحت اللمبات. كانت اذناي متيقظتين مرهفتين الى حد بعيد، ومهما شُيع عن صغرهما وانثنائهما والتصاق صيوانيهما وظرفهما، فانهما كانتا تحتفظان لي بكل هتاف او نداء مهم كان يطرح نفسه بصفته انطباعاً اولياً. بل اكثر من ذلك: كان دماغي الشديد الصغر يحلل كل ما كانت تلتقطه اذناي، لأقرر بعدها اذا كنت سأنفذ تلك الفكرة او ان اتخلى عنها بالضرورة. قال السيد ماتسرات الذي اعتبر نفسه والدي: "انه ولد، وسيستلم المتجر في المستقبل. واخيراً صرنا نعرف لماذا كنا نكدّ ونكدح طوال الوقت". لكن امي لم تفكر في المتجر، انما في تجهيز لوازم ابنها: "اعرف انه صبي، حتى لو كنت صرّحت بعض المرات بأنني سأنجب بنتاً". وهكذا نشأت علاقتي المبكرة بالمنطق النسوي، وكنت سمعت آنذاك كلاماً من وراء ظهري: "اذا بلغ اوسكار الثالثة فسيحصل على طبل". عندما كنت اعقد المقارنات والموازنات بين وعود الام وقتاً طويلاً، راقبت خلالها، انا اوسكار شخصياً. واصغيت بنفسي الى فراشة ليلية ضلّت طريقها الى الغرفة. كانت تحوم، متوسطة الحجم ومشعرة، لتخطب ود اللمبتين، وتلقي بظلالها على المكان بجميع محتوياته، حتى انها اطبقت عليها بحركا ظليلة مرتجفة، لم تكن تتناسب مع حجم جناحيها وامتدادهما واخذت تتحسسه وتجعله واسعاً. لم تكن لعبة الضوء والظل اثارت اهتمامي بقدر ما اثاره الصوت الذي كان يتصاعد في المجال الفاصل بين اللمبة وخفقات الفراشة. وصارت الفراشة ترغد وتزبد كما لو انها لن تحصل ابداً على فرصة مماثلة في وقت لاحق للتحدث ساعة الى الضوء وكما لو ان محاورتها مع المصباح كانت اخر اعتراف لها، ونوعاً من الغفران وزعته اللمبتان، غفران لا يتيح فرصة قط للاثم والجنوح. واليوم فإن اوسكار يقول بسذاجة، ان الفراشة كانت تُطبل، لقد سمعت الارانب والثعالب والسناجب تطبّل. كما ان بامكان الضفادع جلب الزوابع والامطار عبر التطبيل. ويقال ان نقّار الخشب يستدرج الديدان والسناجب تطبل، ويتحدث عن مسدسات التطبيل ونيرانه، كما انه يتحدى الانسان بالتطبيل، او يشاركه القرع، وكان هذا ما يفعله صبيان التطبيل ومراهقوه. بيد ان هناك مؤلفين موسيقيين يدوّنون النوطات لعازفي الآلات الوترية والايقاعية. ولعلي استطيع هنا التذكير بالمعزوفات الموسيقية الكبرى والصغرى، والاشارة ايضاً الى محاولات اوسكار حتى ذلك الوقت، وهذا الكلام لم يكن موجهاً الى عربدة التطبيل التي اقامتها الفراشة الليلية على لمبتين بقوتي ستين "واط" لمناسبة ولادتي. ربما هناك زنوج في افريقيا السوداء، او زنوج يعيشون في اميركا من دون ان ينسوا افريقيا، وربما هناك ناس منتظمو الايقاع يضاهون فراشتي في العزف، او يقلدون الفراشات الافريقية - التي هي عادة اكبر حجماً واشد فتنة من فراشات اوروبا الشرقية - ناس يطلبون بجموح صارم وبانتظام ايضاً لكنني سأحتفظ بمقاييسي الاوروبية الشرقية، متمسكاً بفراشتي الليلية المتوسطة الحجم والمنقطة باللون البني وحامت ساعدت ولادتي، تلك الفراشة التي اعتبرها استاذة لاوسكار. وقع ذلك الامر في الاول من ايلول سبتمبر كانت الشمس تقف في برج العذراء فقدمت الرعود والاعاصير الصيفية المتأخرة من بعيد، واهتزّت لها الصناديق والدواليب في الدار طوال الليل. لقد جعلني عطارد اتمتع ببصيرة نقدية مرهفة، وجعلني الكوكب السابع اتمتع بسرعة الخاطر ووهبني كوكب الزهرة نعمة الاقتناع بالسعادة الصغيرة، ودفعني المريخ الى التمسك بتفوقي والايمان بطموحي، ثم ارتفع برج الميزان في مواجهة الافق الشرقي، فصيرني حساساً وحضني على المبالغة. وحل نبتون في مجال الكوكب العاشر، اي في برج منتصف العمر، فغرسني بين ارض المعجزة وخيبة الامل. وكان الذي زحل الذي وقف في مجال الكوكب الثالث قبالة المشتري هو الذي وضع اصلي ونسبي موضع الشك والتساؤل. لكن من ذا الذي ارسل الفراشة وسمح لها، وللجلبة التي ولّدتها الرعود والاعاصير ذات النكهة التعليمية، ان تُصعدا في ذلك الصيف المتأخر حدة الرغبة في اقتناء الطبل والصفيح الذي ودعتني به أمّي، وتجعل من تلك الآلة المشتهاة شيئاً ملموساً ومدركاً سهل الاستعمال؟ واثناء تظاهري بالصراخ وتصنّعي براءة الطفل الرضيع الازرق والاحمر الجلد، توصلت الى قرار مفاده ان ارفض اقتراح ابي المتعلق بمتجر بضاعة المستعمرات رفضاً قاطعاً، وان اتفحص في الوقت المناسب، وبعين الرضا، الرغبة التي افصحت عنها امي والمتعلقة بعيد ميلادي الثالث. والى جانب تلك التأملات النظرية بمستقبلي اصبحت متأكداً من ان امي ومعها الاب ماتسرات لم يتمتعا بالحسّ اللازم لفهم احتياجاتي وقراراتي، والقبول بها عند الضرورة. وهكذا ظل اوسكار راقداً تحت اللمبة من دون ان يفهمه احد، مستنتجاً بأن الامر سيبقى على تلك الحال خمسين او ستين عاماً، الى ان يحدث التماس الكهربائي الذي يقطع التيار الكهربائي عن مصدر النور، ولذلك السبب بالذات فقدت القابلية على الفرح والنشوة قبل ان تبدأ هذه الحياة تحت ضوء اللمبات، بيد ان الطبل الموعود هو الذي منعني من اعطاء فكرة العودة الى الوضع الجنيني الرأسي اهمية خاصة، فضلاً عن ان القابلة قطعت آنذاك حبل السرّة، فلم يعد هناك في نهاية الامر عمل يمكن القيام به. ترجمة حسين الموزان