} في رواية غونتر غراس الأخيرة "حقل واسع" التي أثارت كثيراً من الصخب في ألمانيا وقد أيّدها البعض وشجبها البعض الآخر، اختار الكاتب الألماني شخصيتين رئيسيتين متقابلتين تمثلان الثنائي الجهنمي كما يقال وهما: المثقف والجاسوس. وكانت الرواية حين صدورها في العام 1995 بمثابة حدثين معاً: كانت حدثاً أدبياً وحدثاً سياسياً. وهي طبعاً ليست المرة الأولى التي يوظف فيها غونتر غراس السياسة في خدمة الأدب والأدب في خدمة السياسة. فهذا الكاتب "الملتزم" الذي أعاد النظر في مفهوم الإلتزام استطاع ان يجعل من السياسة حافزاً أدبياً ومن الأدب حافزاً على خوض غمار العمل السياسي. كانت الرواية تلك اولى الروايات التي اثارت قضية برلين الموحدة، إذ تناولت تاريخ تلك المدينة الأسطورية خلال مرحلة تمتد بين العامين 1989 و1991 أي خلال مرحلة التوحيد او إعادة التوحيد. ولم يطرح غراس تاريخ تلك المدينة إلا من خلال عيني بطليه اللذين شاءهما يشبهان بطلي سرفانتس دون كيشوت وبانشو: الأول يدعى فونتي وهو طويل القامة، ضعيف البنية والثاني هوفتالر، قصير وسمين. الأول من مواليد 1919 خاض الحرب كصحافي او كمراسل في الحرب ثم اصبح مدرّساً ثم محاضراً في شؤون الأدب في ألمانيا الديموقراطية وانتهى "مباشراً" في الوزارات اي كشاهد على ما يجري. لكنه كان في معنى ما صورة عن ثيودور فونتان، الروائي الألماني الذي عاش قبل قرن. فقد حفظ فونتي رواياته غيباً وكذلك سيرته ومدوّناته وراح يتماهى به وبما كتب حتى في تفاصيل حياته الصغيرة. اما هوفتالر، "رفيقه العتيق" الذي شرع يتجسس عليه بلا انقطاع فبدا وكأنه لا عمر له: عتيق مثل شرطي سياسي لاحق "ماركس" الشاب وشهد ثورة العام 1848 وحركة الوحدة في 1871 ونهوض جمهورية فايمار وعمل مع "الغستابو". كان هوفتالر في خدمة النظام دوماً. شاء غونتر غراس ان جسّد عبر هذا الثنائي "الجهنمي" رؤيته الخاصة الى التاريخ، الراهن والأقل راهنية. شاء ان يرسم مشهداً غريباً ومرعباً ولكن على قدر من الشاعرية والعمق. وقد كتب غراس روايته بسخريته اللاذعة معتمداً لعبته السردية البارعة التي تعنى بالتفاصيل الصغيرة. غير ان كتابه الأخير الذي أراده اشبه بالمذكرات والكتابة الحرة وعنوانه "مئويتي" كان اقرب السيرة البانورامية للقرن العشرين وقد ضم نصوصاً متدرجة بين الكتابة التأريخية والكتابة الذاتية. فالقرن الذي احتفى به الكاتب هو قرن ألمانيا بل قرن العالم أجمع. بدا الكتاب وداعياً واستعادياً في الحين عينه: وداع قرن ينتهي واستعادة ماضٍ شخصي وأدبي حافل بالنضال واليأس والفرح والحزن والخيبة ... لعل الذريعة التي ارتأتها الأكاديمية الملكية السويدية لمنح غونتر غراس جائزة نوبل للعام 1999 قد تمثل ناحية من نواحي عالمه الروائي الشاسع. صحيح ان غراس "ينقل الوجه المنسي للتاريخ من خلال حكايات مروية على ألسنة الحيوانات في قالب من السخرية اللاذعة" لكنه نقل ايضاً تحولات هذا التاريخ والتناقضات التي شهدها وكان خير معبّر عن الواقع الألماني والمراحل الصعبة والخطرة التي اجتازها. وروايته "الطبل الصفيح" تشهد فعلاً لا على موهبته الروائية الكبيرة فقط وإنما على ارتباطه الوثيق بالتاريخ والذاكرة، بالواقع والوجدان العام. فالبطل الذي يدعى "اوسكار" هو صورة واضحة عن الشخصية الألمانية التي تتذكر ما عانت وما شهدت من أحداث وجرائم هي جرائم الرايخ الثالث. بل هو نموذج للبطل المضاد والمعقّد الذي يتمرد ويرفض ويواجه الموت واليأس والخراب الكبير المنتشر من حوله. وحين صدورها في العام 1959 اعتبرت رواية "الطبل الصفيح" رواية المرحلة وربما رواية "العصر" وسرعان ما ترجمت الى لغات شتى وحققت لكاتبها شهرة عالمية حتى بات اسمه مرتبطاً بها. علماً ان الرواية هذه كانت اولى الثلاثية التي سوف تعرف ب"ثلاثية دانتزيغ" وقد تلتها روايتان هما: "الهر والفأرة" 1961 و"سنوات الكلب" 1963. وفي هذه الثلاثية وجد غراس في سيرته الذاتية وسيرة ألمانيا مادة روائية خصبة. وقد أحيا عالم طفولته ومراهقته وراح يرسم تلك المرحلة، مرحلة ما بعد الحرب من خلال المواطنين الألمان الذين نجوا و"المقيمين" في "ألمانيا الغربية". إنها المرحلة في كل آلامها وصعوباتها وأزماتها يحياها الجميع أفراداً وعائلات، أطفالاً وعجائز، طارحين على انفسهم اسئلة كثيرة حول ما فعلوا وما سيفعلون. وفي رواية "الطبل الصفيح" تبدت براعة غونتر غراس الروائية وكان في الثلاثين من عمره إذ جمع بين فن السرد وفن المذكرات. وقد كتب غراس اولى ثلاثيته في باريس حيث كان يقيم آنذاك. من يقرأ روايات غونتر غراس ويتأمل شخصياته لا يشك أبداً في كون الروائي رساماً ونحاتاً. فهو يرسم تلك الشخصيات وملامحها ببراعة تشكيلية تنم عن ثقافة فنية عميقة وولع بفن البورتريه خصوصاً. فالروائي هو رسام ونحات ايضاً وله اعمال خاصة جداً في هذين الحقلين. وقد ساعده الرسم والنحت على خوض غمار الكتابة الروائية كمتأمل في الاشخاص والوجوه والمعالم عبر عينين تلحظان بدقة وتتأملان بعمق. يصعب اختصار عالم غونتر غراس الأدبي وكذلك تجربته السياسية والتزامه واشتراكيته الوطنية وسيرته فهو انطلق من "دكان" اهله في احدى ضواحي دانتزيغ حيثما تعلم فن الحياة لينتهي روائياً طليعياً وكاتباً ساخراً ورافضاً ومتمرداً، بعدما اجتاز مراحل عدة خلال الحرب وبعدها فشارك في الحرب وجرح وسجن وخرج الى فضاء الأدب وسافر وقرأ وكتب ورسم. ولعل الأكاديمية السويدية فعلت خيراً في اختيارها غونتر غراس للجائزة الأدبية فهي كرّمت كاتباً يستحق التكريم اولاً ثم كرّمت الأدب الألماني وألمانيا التي عادت واحدة بعد سنوات طويلة من الإنقسام. حسناً فعلت الأكاديمية السويدية في اختتامها القرن العشرين بتكريمها ألمانيا والأدب الألماني والروائي غونتر غراس أحد أبرز رواد الرواية الحديثة لا في ألمانيا فحسب وإنما في العالم. الثوب الواسع مقطع من رواية "الطبل الصفيح" سريري المعدني ذو اللون الأبيض في هذه المصحّة، يعتبر معياراً للقياس، بل أنه يعني لي أكثر من ذلك: فهو الهدف الذي تحقق أخيراً، وهو عزائي وسلواي، ويمكن أن يصبح عقيدتي وإيماني إذا ما سمحت لي إدارة المصحّة بإجراء بعض التعديلات عليه: كأن أرفع مثلاً قضبان السرير المشبكة الى الأعلى حتى لا يقترب منّي أحد. ويحدث أن تقطع الزيارة الأسبوعية سكينتي المنسوجة بين قضبان الحديد البيضاء، ثم يأتي أولئك الذين كانوا يريدون انقاذي ويستمتعون بحبهم لي، والذين يريدون من خلالي التعرف على أنفسهم ومقدرتهم ومدى احترامهم. كم كانوا يبدون فاقدي البصيرة ومتوترين وبلا تربية، وهم يخدشون بقلاّمات أظافرهم قضباني المشبكة البيضاء الطلاء، ويخططون بأقلامهم الجافة أو الزرقاء الحبر أشكالاً وقحة على الشراشف. وكل مرة كان المحامي المكلف بالدفاع عنّي يقلب قبعته النايلون فوق القائمة اليسرى عند نهاية السرير بعدما يفجّر الغرفة بتحيته العاجلة. وبقدر ما تستغرق زيارته من وقت - ان المحامين يتمتعون بقابلية مدهشة على الحديث - فإنه يسلب مني بهذا العمل القاسي مرحي وتوازني. وبعدما يضع زوّاري هداياهم فوق المنضدة البيضاء المكسوة بقماش من المشمّع المنتصبة أسفل اللوحة المائية لشقائق النعمان، بعد تمكنهم من استعراض محاولات الإنقاذ الحثيثة الجارية آنذاك، أو المزمع القيام بها، وإقناعي، أنا الذي يسعون كلهم بلا كلل الى انقاذه، بذلك المستوى الراقي لحبهم للآخرين وغيرتهم عليهم، يجدون لذّة ومتعة في وجودهم ذاته. حينئذ يدخل ممرضي لكي يهوّي الغرفة ويجمع شرائط الهدايا. كان كثيراً ما يجد بعد التهوية وقتاً للجلوس على حافة السرير ويفكّ عقد الشرائط، مشيعاً جوّاً من السكينة في الغرفة، حتى أنني أطلقت اسم السكينة على برونو واسم برونو على السكينة. لقد اشترى برونو مونستربيرغ - أعني ممرضي، لكي أتخلّى عن اللعب بالكلمات - خمسمائة ورقة من ورق الكتابة على حسابي الخاص. وسيقصد برونو الأعزب، والذي ليس له أطفال والقادم من ناحية "زاورلاند"، في حالة أن يبدو احتياطي الورق غير كاف، يقصدة مرة ثانية دكّان اللوازم المدرسية، والذي يبيع لعب الأطفال أيضاً، وسيوفر لي مكاناً خالياً من الخطوط وضرورياً لذاكرتي التي أتمنى أن تكون دقيقة. انني لم أكن قادراً أبداًَ على أن أطلب من المحامي، أو من كل كليب تقديم هذه الخدمة. وأحضر لي برونو الشيء الذي كان سيمتنع أصدقائي من احضاره، التزاماً بالحب الموصى به لي، ذلك الشيء الخطير الذي ينطوي عليه الورق الخالي من الكاتبة، والذي من شأنه أن يتيح فرصة الاستفادة منه لنفسي التوّاقة دوماً الى اطلاق المقاطع الكلامية. عندما قلت لبرونو "آه يا برونو" هل بإمكانك أن تشتري لي خمسمئة صفحة من الورق البريء"، أجابني وهو يتطلع الى سقف الغرفة، رافعاً سياسته في الاتجاه ذاته، ناشداً المقارنة: "تقصد ورقاً أبيض يا سيد أوسكار". لكنني كنت مصراً على كلمة بريء، وتوسلت به أن يلفظها أيضاً في دكان القرطاسية. وحين عاد بحزمة الورق في المساء المتأخر أراد أن باعتباره برونو الذي تحركة الأفكار. كان قد ثبت بصره مرات عديدة في سقف الغرفة الذي كان يستلهم منه تأملاته وخواطره، ثم قال بعد فترة صمت طويلة: "إنك نصحتني باستخدام المفردة الصحيحة، فطلبت ورقاً بريئاً، لكن وجه البائعة اصطبغ بالحمرة قبل أن تجلب لي ما طلبت". فشعرت بالأسف" لأنني أطلقت صفة البراءة على الورق، خشية أن يلحق ذلك حديث مستطرد عن البائعات في محل القرطاسية، والتزمت الهدوء، منتظراً حتى يغادر برونو الغرفة، وفتحت بعد ذلك الحزمة ذات الخمسمائة ورقة. لم يكن كثيراً ذلك الوقت الذي صرفته في رفع الكتلة الورقية المتماسكة ووزنها، وأحصيت عشر أوراق واحتفظت بالكتلة في الخزانة الصغيرة، وعثرت على قلم الحبر في الجارور الى جانب ألبوم الصور. كان القلم مليئاً تماماً بالحبر، لا نقص فيه، لكن كيف سأبدأ؟ ان المرء يستطيع أن يبدأ القصة من الوسط، ثم يسير بها متقدماً، أو متراجعاً، بجرأة، مخلفاً وراءه الحيرة والارتباك. ويمكن أن يبدو المرء معاصراً فيلغي الأزمان والمسافات كلها، ليعلن، أو يدع الآخرين يعلنون أنه قد حلّ معضلة المكان، الزمان، وكذلك يستطيع المرء أن يدعي منذ البداية بأن من المستحيل كتابة رواية في هذه الأيام، لكن يراعه سيجود فيما بعد، ومن خلف ظهره كما يقال، بتسطير عمل لا مثيل له، وتسجيل سبق أدبيّ، ثم يتوّج نفسه في آخر المطاف باعتباره آخر من استطاع كتابة رواية. وقد قلت في نفسي، أنا أيضاً، بأن من المناسب، من ناحية وديّة ومتواضعة، التأكيد منذ البداية على أن: لا وجود اليوم لأبطال الروايات" لأن ليس هناك شخصيات فرديّة" ولأن الفردانية قد اختفت" ولأن الإنسان بات معزولاً، بحيث أن كل إنسان إصبح منفرداً بالقدر ذاته، ومحروماً من العزلة الفردية، ومشكلاً كتلة فردية خالية من الأسماء والأبطال. ويمكن أن تكون الأمور كلها جارية على هذا المنوال، ومحتفظة بمصداقية ما، لكن في ما يتعلق بي وبممرضي برونو" فإنني أود التأكيد على: أننا بطلان مختلفان تماماً، حيث كان برونو يقف وراء عدسة الباب السحرية، بينما كنت أنا أمامها... وسأبتدئ بنفسي من مسافة بعيدة" إذ لا يجوز لأحد أن يعرض حياته ويسردها دون أن يتحلّى بالصبر، فيذكر على الأقل نصف أجداده قبل أن يؤرخ لوجوده الشخصي. إنني أقدم اليكم، أنتم الذين توجب عليهم أن يعيشوا حياة مضطربة خارج مصحة العناية والعلاج التي أرقد فيها الآن، أنتم أيها الأصدقاء والزوار الأسبوعيين الذين لا علم لهم بمخزون ورقي، اليكم كلكم أقدم جدة أوسكار من ناحية الأم. كانت جدتي آنا برونسكي تتربع بثيابها الكثيرة ذات أصيل من شهر أكتوبر على حافة حقل للبطاطس. وفي الضحى كان يمكن رؤية الجدة وهي تصفُّ الأعشاب الذابلة في باقات منتظمة، وفي الظهيرة تناولت قطعة خبز محلاة بالدبس الأسود. كانت قد حرثت الحقل للمرة الأخيرة قبل أن تجلس أخيراً فوق طويات ثيابها بين سلتين ممتلئتين. وأمام فردتي حذائها المتخالفتين اللتين وضعتهما بشكل عمودي كانت تصاعد أحياناً نيران أعشاب البطاطس، متأججة باختناق، وتبعث بدخانها الى قشرة الأرض الخفيفة الانحدار على نحو هادىء ومرتبك فيه تكلّف. لقد حدث ذلك في العام التاسع والتسعين" فكانت الجدة تجلس في منتصف "كوشوباي"، بالقرب من "بيساو"، بل كانت أكثر قرباً الى معمل القرميد، جلست الجدة أمام "رامكاو"، خلف مربع، في اتجاه الشارع المؤدي الى "برنتاو"، ما بين "دير شاو" و"كارتهاوس"، جلست مخلفةً غابة "غولدكروغ" وراء ظهرها، وتزحزح بطرف عود من خشب البندق محترق حبّات البطاطس الى قلب الرماد المتوهج. وإذا ما كنت ذكرت للتو ثياب جدتي بشكل خاص، وأتمنى أنني قلت بوضوح كاف: لقد جلست بثيابها - نعم" ان الفصل يحمل عنوان "الثوب الواسع"" فإنني على علم تام بما أدين به الى تلك القطعة من الملابس، لم تكن جدتي ترتدي ثوباً واحداً، بل أربعة فوق بعضها، وذلك ليس بمعنى أنها كانت ترتدي ثوباً واحداً ظاهراً وثلاثة ثياب داخلية مستترة، إنما كانت ترتدي أربعة أثواب ظاهرة، أحدها يحمل الآخر تحته، ترتديها وفق نظام يتيح للأثواب أن تتناوب، متغيرة يوماً بعد آخر. فما كان بالأمس ظاهراً أصبح اليوم مختفياً في الأسفل، وأصبح الثوب الثاني ثالثاً. وما كان في الأمس في المرتبة الثانية بات اليوم لصيقاً بجلدها. وكان الثوب الذي وقف يوم أمس في المرتبة الثانية يسفر بصورة جلية عن شكله ونقشته، أي أنه كان يسفر في الواقع عن انعدام الشكل" لأن أثواب جدتي آنا برونسكي تؤثر كلها لون البطاطس. فلا بد أن يكون ذلك اللون يليق بها. وما عدا الطبيعة اللونية، كانت أثواب جدتي تتميز بإسراف ملحوظ في استخدام القماش الكثير. وعندما تلامسها الريح" فإنها سرعان ما تستدير وتنفتح، ثم تتراخى بعدما تظهر الريح نوعاً من الاكتفاء، وتظلّ ترفرف حين تسكن الريح تماماً، وتتطاير أثوابها الأربعة إذا ما هبّت عليها الريح من الخلف، وعندما تجلس" فإن الأثواب الأربعة تتحلق حولها. ترجمة: حسين الموزاني * تصدر ترجمة الرواية قريباً عن منشورات الجمل - ألمانيا، في سياق اتفاق مع الناشر الألماني شتايدل، لنشر أعمال غراس الكاملة بالعربية.