مطلع القرن التاسع عشر صوّرت حكومة الصين الامبراطورية في دول الغرب الكبرى وخاصة في بريطانيا بأنها حكومة منغلقة ومتخلفة. ووجهت اتهامات كثيرة ضد أباطرة الصين أولها ان حكوماتهم تنتهك مبادئ التجارة الدولية التي تحقق منافع عظيمة للشعوب والأمم كافة ومنها بالطبع شعب الصين الذي يحرم من المستوردات الغربية رغم توقه الشديد اليها. وانقاذاً لشعب الصين وللتجارة الدولية من عسف الأباطرة الصينيين وظلمهم، دخلت بريطانيا ثلاث حروب، في منتصف القرن ضد الصين، تمكنت في نهايتها من حمل الأباطرة الصينيين على الاستجابة للمطالب البريطانية كافة ففتحت الامبراطورية الشرقية أبوابها للتجارة الدولية أو بالأحرى للصادرات الغربية. النظرة البريطانية السائدة في الماضي الى تلك الحروب كانت نظرة ايجابية ومشروعة باعتبارها مجهوداً انسانياً مشروعاً استهدف تعبيد الطريق أمام التجارة الدولية في جنوب شرقي آسيا، وإفساح المجال امام شعوبها للإفادة من منافع التعاون الاقتصادي بين البشر. وتعززت هذه النظرة بعدما هددت الولاياتالمتحدة حكام اليابان، عام 1853، بحروب مماثلة إذا لم يفتحوا أبواب بلادهم أمام التجارة الدولية، فرضخ هؤلاء أمام التهديد خوفاً من أن يهزموا على يد الجيوش الغربية القوية، كما هزم الصينيون من قبل. وهكذا اتسعت دائرة المستفيدين من الحروب ضد الصين ومن التدخل ضد حكومتها المتعسفة والمتخلفة بحيث شمل اليابانيين أيضاً. ينظر البريطانيون الى هذه الحروب اليوم نظرتهم الى فصل مشين من فصول سياستهم الخارجية وحملاتهم العسكرية، كما يقول المؤرخ البريطاني لورنس جيمس في كتابه "صعود وانهيار الامبراطورية البريطانية". يعود ذلك الى أن بريطانيا لم تخض الحروب ضد الصين بهدف رفع الحظر الصيني عن التجارة الدولية بشكل عام، بل بهدف رفعه عن صادرات الأفيون الذي أراد أباطرة الصين وقف تدفقه على البلاد والحد من أضراره الاجتماعية والصحية الكبيرة على الرعايا الصينيين. ولما هزمت الصين اضطرت الى رفع القيود عن استيراد الأفيون البريطاني الذي أصبح أول مستوردات الصينيين من الخارج لمدة أربعين سنة تقريباً. من هنا جاءت تسمية تلك الحروب بأنها "حروب الأفيون". يتذكر المرء هذه الواقعة في تاريخ علاقات الغرب بالشرق في سياق متابعة الجدل القائم راهنياً حول مسألتي "التدخل الانساني" والسيادة الوطنية، وحول حق المجتمع الدولي في تجاوزها إذا ارتكبت بعض الحكومات المستقلة أعمال الإبادة الجماعية والتطهير العرقي كما حصل في رواندا ويوغوسلافيا وتيمور الشرقية. وقد انتقل هذا الجدل في الأيام الماضية الى الجمعية العمومية لهيئة الأممالمتحدة خاصة بعد ان ألقى الرئيس كلينتون خطاباً دعا فيه الى تعزيز قدرة المجتمع الدولي على وقف أعمال الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والديني، متمثلاً بما قامت به بعض الأطراف الدولية في سييراليون ويوغوسلافيا وتيمور الشرقية. ان دعوة الرئيس الأميركي سليمة تماماً خاصة في العصر الراهن حيث تتوفر امكانات أكبر وأسرع للاطلاع على حجم العنف الذي يمارس ضد المواطنين وضد الشعوب أو ضد فئات منها. ولئن كان في الماضي مستطاعاً ان تدير بعض الحكومات أو الجهات الدولية وجهها بحجة عدم الاطلاع والتيقن عندما ارتكبت جرائم ضد الانسانية كما حدث في المحرقة ضد اليهود، أو في طرد شعب فلسطين من بلده أو في قتل مئات الألوف من الانسانيين على يد حكومة سوهارتو السابقة، فإن لم يعد من السهل على هذه الحكومات أن تتظاهر اليوم بالجهل عندما تنتهك حقوق أحد الشعوب، ولم يعد باستطاعة المجتمع الدولي أن يقف ساكتاً حيال العذاب الذي تتركه هذه الانتهاكات في عصر ثورة المواصلات. ولكن بمقدار ما تلقى هذه الدعوة الى طرح سياج السيادة الوطنية جانباً بقصد انقاذ جماعة بشرية من الفناء والعذاب، بهذا المقدار تثير هذه الدعوة العديد من الأسئلة والتساؤلات حيث أنها، كما أشار وليم بفاف في الهيرالد تريبيون، "يعوزها الوضوح المبدئي والثبات المنطقي" 25/9/1999. فأية هي الحالات التي يمكن فيها تجاوز حاجز السيادة الوطنية؟ ومن هي الجهة التي تحدد تلك الحالات؟ ومن هو الذي يحدد طرق التدخل ضد الحكومات التي تتذرع بالسيادة الوطنية بينما هي تمارس جرائم ضد الانسانية؟ وما هي حدود التدخل في تلك الحالات المخصوصة؟ أخيراً لا آخراً، اذا أعطي الأقوياء في النظام الدولي الراهن الحق في الاجابة على هذه الأسئلة، ألا يخشى من اختراقهم سيادات الآخرين الوطنية بهدف خدمة مصالحهم الوطنية وليس بقصد انقاذ الانسانية من الجرائم والمجرمين؟ بتعبير آخر ألا يمكن أن تتكرر "حروب الافيون" مرة أخرى أو مرات أخرى في التاريخ؟ سعى الرئيس الأميركي الى الاجابة على هذه الأسئلة عندما أشار الى دور ثلاث جهات رئيسية في محاربة الجرائم ضد الانسانية: هيئة الأممالمتحدة، والمنظمات الاقليمية مثل حلف الأطلسي في البوسنة وكوسوفو والجماعة الاقتصادية لدول غرب افريقيا "ايكواسا" في سييراليون، وأخيراً "تحالف الراغبين" في تيمور الشرقية. بيد أن هذه التوضيحات لم تنه الجدل حول مسألة تجاوز "السيادة الوطنية" لا خلال الجمعية العمومية للأمم المتحدة ولا خارجها. ان تمكين هيئة الأممالمتحدة من التدخل في شؤون الدول الأعضاء الداخلية، ولو في حالات معينة يقتضي توفر شروط معينة في النظام الدولي القائم وفي هيئة الأممالمتحدة مثل "الابتعاد عن الانتقائية، وعن ازدواج المعايير ومحاربة الظلم عند البعض والتغاضي عنه عند البعض الآخر"، كما قال رئيس الحكومة اللبنانية د. سليم الحص في كلمته أمام الجمعية العمومية. فهل تتوفر هذه الشروط في هيئة الأممالمتحدة، في وضعها الراهن؟ لا! اجاب د. بطرس بطرس غالي عندما كان أميناً عاماً للهيئة الدولية مبرراً هذا الواقع بأن مجلس الأمن هو ليس هيئة قضائية تحكم بموجب القوانين، وانما هو جهة سياسية تراعي موازين القوة في العالم، أي تراعي الدول الأكبر والأقوى على حساب الدول الأضعف. قصور هيئة الأممالمتحدة لا يغيب عن الرئيس الأميركي، لذلك تعهد بدعمها، مادياً، حتى تتمكن من الاضطلاع بالدور الجديد المقترح لها في اطار محاربة الجرائم ضد الانسانية. ولكن هل الامتناع عن الايفاء بالالتزامات المادية تجاه هيئة الأممالمتحدة هو وحده مصدر الخلل في واقع المنظمة الدولية؟ بريان اوركهارت الأمين العام المساعد السابق لهيئة اللأمم المتحدة يعتقد ان المنظمة الدولية تحتاج، فضلاً عن تسديد اشتراكات الأعضاء، دعماً لسلطتها ولمبادئها وقراراتها ولاستقلاليتها. مشروع "أجندة السلام" الذي اقترحه د. بطرس بطرس غالي، الأمين العام السابق لهيئة الأممالمتحدة والذي دعا فيه الى تكوين قوات تدخل سريع تابعة لهيئة الأممالمتحدة كان جديراً بتعزيز سلطتها ومكانتها في العلاقات الدولية وقدرتها على الحد من أعمال الإبادة والتطهير العرقي. ولكن لا المشروع ولا صاحبه لقيا الدعم من متبني "التدخل الانساني". فضلا عن ذلك يلاحظ اوركهارت أن الادارة الأميركية، وهي أول متبني "التدخل الانساني" لا تقدم مثل هذا الدعم عندما تسعى الى فرض ارادتها على المنظمة الدولية. انها لم تقدم مثل هذا الدعم الى هيئة الأممالمتحدة عندما فرضت عليها عقوبة اقتصادية فامتنعت عن تسديد اشتراكاتها لسنوات كثيرة لأن الهيئة الدولية كانت تندد بانتهاكات اسرائيل المستمرة لحقوق الانسان في فلسطين ولبنان والجولان. ان موقف القوة العظمى في العالم يحد من قدرة هيئة الأممالمتحدة على الاضطلاع بدور فاعل ومؤثر في مكافحة أعمال الإبادة والتطهير العرقي ولا ينمي هذه القدرة. ان اضطلاع المنظمات الاقليمية بدور مباشر في مكافحة أعمال الإبادة والتطهير العرقي أمر محبذ وممكن ولكن أية منظمات؟ انها تلك المنظمات النابعة أساساً من الاقاليم نفسها بحيث تمتلك الخبرة والمشروعية الكافية لمكافحة هذه الأعمال، والتي تجمع الى ذلك، القدرات المادية والطاقات البشرية للقيام بهذا العمل. من هنا حققت "الجماعة الاقتصادية لدول افريقيا الغربية" ايكواسا نجاحاً نسبياً في معالجة مشكلتي ليبيريا وسييراليون، كما أشار الرئيس كلينتون، بينما فشلت الولاياتالمتحدة، واستطراداً، هيئة الأممالمتحدة في تحقيق نتائج مماثلة عندما ارسلت قواتها الى الصومال في مطلع التسعينات. تأسيساً على ذلك، واستناداً الى هذه التجارب يمكن القول بأن مقاومة النزعات العنصرية والإبادية تقتضي تنمية هذه المنظمات وتعاون الدول الكبرى معها تعاوناً حثيثاً. الواقع يدل على أن الدول الكبرى لا تسلك دوماً هذا الطريق. فعندما حاول الأوروبيون دمج اتحاد أوروبا الغربية بالاتحاد الأوروبي حتى تتوفر للكيان الأوروبي أداة عسكرية للتدخل ضد أعمال التطهير العرقي في القارة وقفت الولاياتالمتحدة ضد هذا الخيار. وفي المنطقة العربية تصطدم محاولات تنشيط النظام الاقليمي العربي عبر مؤتمرات القمة أو مؤتمرات الخارجية العربية بمعارضة وضغوط اميركية مباشرة. إذا كان اضطلاع هيئة الأممالمتحدة أو المنظمات الاقليمية "بالتدخل الانساني" يثير الأسئلة فإن ترشيح "تحالف الراغبين" للاضطلاع بهذا الدور يثير المخاوف والقلق. ينطبق هذا التوصيف "تحالف الراغبين"، على الدول التي أعربت عن استعدادها لإرسال قوات الى تيمور الشرقية، إلا أن ما يحدث في تلك المنطقة اليوم يمكن أن يتحول الى سابقة تتكرر في أكثر من مكان في العالم. بل ان مثل هذا التدخل بات - بالفعل - نمطاً معمولاً به في العلاقات الدولية، كما يقول مايكل غلينون، أستاذ القانون في كلية الحقوق في جامعة كاليفورنيا. والخشية هنا ان يكثر عدد "تحالفات الراغبين" في التدخل في شؤون الدول الأخرى في العالم، وان يمارس كل تحالف من هذه التحالفات تفسيره الخاص للمبادئ الانسانية التي يجري انتهاكها على أرض الآخرين، وان ينتزع لنفسه الحق في "التدخل الانساني" ضد مرتكبي هذه الانتهاكات. وإذا كان اجتياز حاجز السيادة الوطنية أمراً يحتمه احياناً واجب انساني نبيل، فمن يضمن ان يضم "تحالف الراغبين" هذا أطرافاً تتوفر فيها الشروط والمواصفات الملائمة لمثل هذا التدخل؟ هل يجوز التسليم بسهولة في أن يقود تحالف الراغبين ضد التطهير العرقي في تيمور الشرقية دولة مثل استراليا قامت في الأساس على الابادة العرقية؟ وإذا تكرس حق "تحالف الراغبين" في تجاوز حاجز سيادة الآخرين الوطنية، فكيف نمنع تكرار "حروب الأفيون" مرة أخرى تبررها شعارات براقة و"أخلاقية"؟ الذين يثيرون هذه التساؤلات ضد "التدخل الانساني" لا يعارضونه من حيث المبدأ. بالعكس، انهم يعبرون عن الأمم والشعوب التي تحتاجه أكثر من غيرها. الا أن هؤلاء يخشون أن يتحول التطبيق الاستنسابي لهذا المبدأ الى تدخل "لا يستند الى القانون ولا الى العدالة، بل الى القوة وحدها"، كما يقول غلينون. في تلك الحالات سوف يزداد التمسك بالسيادة الوطنية لأنها تمثل، كما وصفها الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة مخاطباً الجمعية العمومية بالنيابة عن بلده وعن القارة الافريقية "وقايتنا الأخيرة ضد قوانين عالم جائر". * كاتب وباحث لبناني.