منذ اكثر من ربع قرن، وتحديداً في تشرين الأول اكتوبر العام 1971 عقدت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في جامعة الدول العربية حلقة بحثية موضوعها "العناصر المشتركة في المأثورات الشعبية في الوطن العربي" واعتبرتها المنظمة في صدر توصياتها "أول اجتماع عربي مشترك على مستوى الوطن العربي في ميدان المأثورات الشعبية". إذ احتشد للحلقة أو على الدقة لموضوعها حشد كبير ضم غالبية العلماء المتخصصين الكبار في مجال علم الثقافة الشعبية، فضلا عن بعض المهتمين من الاردن والعراق وليبيا ومصر والمغرب وفلسطين ودولة الإمارات، بالاضافة الى مشاركات بحثية من سورية واليمن. كانت المنظمة العربية تصدت للتكليف الذي أنيط بها تنفيذه بعقد حلقة العناصر المشتركة بعد أن قصرت موضوعها على الجوانب الشفهية من الفنون القولية من المأثورات الشعبية حتى يتمكن الاعضاء المشاركون "من التعميق في درس الموضوع والاحاطة بجوانبه المختلفة، على ان تتضمن برامج المنظمة في المستقبل درس المواضيع الاخرى التي تشمل عليها المأثورات الشعبية". هكذا رأت اللجنة الاستشارية للبرامج الثقافية، ولها في ما رأته وقتها الحق كل الحق. واذا تصفحنا اسماء اعضاء اللجنة التحضيرية التي اعدت لهذه الحلقة وجدنا اسماء لها وزنها من الرعيل الأول الرائد، وحسبنا ان يكون بين هذه الاسماء عبدالحميد يونس وعبدالعزيز الاهواني وعلي الراعي وأحمد رشدي صالح رحمهم الله جميعا. وكان الخطاب العام لهذه الحلقة، كما تعكسه كلمات ممثل المنظمة وممثلي الدول المشاركة والبحوث والتقارير والوقائق، فضلا عن المداولات، خطاباً وحدوياً ونهضويا يدرك أهمية الدرس العلمي للثقافة الشعبية من منطلق قومي، ودور هذا الدرس في تكريس وحدة الشعب العربي أصولاً وفروعا، ماضياً وحاضرا في مواجهة تحديات آنية ومستقبلية ليست تلوح في الافق وحسب او تصطنعها خيالات المتشائمين، وإنما هي حالّة في الواقع وممسكة بخناق الجغرافيا وصائفة للتاريخ في اخطر مراحله. وهل ثمة أفدح بياناً من احتلال دولة الكيان الصهيوني لأراضي ثلاث دول عربية على الاقل. لقد كانت النفس العربية في مطلع السبعينات تتراوح مراوحة شديدة بين شعور بالتمزق وشعور بالاحتشاد لتسترد ارضاً وتستنقذ روحا، ثم كان ما كان من شأن مياه كثيرة جرت في النهر العام وتحت كل الجسور. فمن حرب عربية نبيلة اكدت صموداً ومقدرة في أمر المواجهة المسلحة الى مفاوضات وصلح تلتهما هجمة تطبيع جرّ الى بحر الرمال من جرّ من رجال ونساء "وبين بين"، حتى اصبح مصطلح "التطبيع" اكثر مفردات الحياة السياسية والثقافية العربية اثارة للقلق والريبة والشبهة والتخليط وبالضرورة الغضب النبيل. وكل ذلك كان لا بد ان يقود الى عمليات استقطاب واضطراب تبعث أحياناً على الحيرة وذلك على رغم وضوح الدوافع والمرامي وخطوط التقاطع والتلاقي والتداخل والتماس. ولعل اهم ما يلفت النظر هو التراجع الواضح في المشروع العربي العام، ومن ثم في المشاريع الثقافية وغيرها "إنها الاواني المستطرقة". والمتأمل في شأن دراسات الثقافة الشعبية العربية عموما يسمع الان جعجعة ولا يرى طحينا، فالخط العام لمستوى الدراسات يمضي في تناسب عكسي مع تزايد عدد المؤسسات التي تقام هنا وهناك والالتقاء العربي في هذا المجال يمضي ايضاً في تناسب عكسي مع تزايد الخطر الذي يتهدد الأمة العربية بما هي كيان حضاري تلعب الثقافة الشعبية في تماسكه دوراً مركزيا تنبهت اليه صفوة عقول هذه الأمة منذ اكثر من ربع قرن، ثم بهتَ التنبه أو طغت عليه الطاغيات من المصلحة الفردية وانشغال الذوات بالذوات واستسلام المشاريع العامة للمشاريع الحلقية الضيقة. إن اية مقارنة بين طبيعة وتوجه ومستوى حلقة بحث عقدتها منظمة التربية والثقافة والعلوم العام 1971 وحلقة بحث عقدتها المنظمة نفسها في القاهرة العام 1998 لتكشف بجلاء عن منحنى هبوط منظور الرؤية ومنهج المعالجات العلمية. وأحسنت المنظمة صنعاً عندما نشرت بحوث الحلقة التسعينية وتلخيصاً مخلاً ومريبا لما دار في الحلقة من نقاش ومداخلات، وذلك في عدد خاص من المجلة العربية للثقافة في آذار مارس 1999، كما سبق للمنظمة ان نشرت اعمال الحلقة السبعينية في اصدار خاص العام 1973. وهي بذلك اتاحت للمتابع المهتم بتاريخ هذا النشاط العلمي ومنابعه الفكرية والسياسية ان يقف على عمق الشقة بين الازمنة والمراحل والرؤى والمواقف، وتتيح له كذلك ان يرصد "وثائقياً" المنحنيات والتحولات والتوازنات، وكيف تتخفى "السبوبة" وراء لافتات مستدعاة قسراً من زمن مختلف كانت الامور فيه من الوضوح واستقامة التوجه بما لا يقاس بالتمدد الرمادي الراهن. ومسألة المقارنة او الموازنة النقدية بين الحلقتين بغية استخلاص الحقائق والحكمة والنقمة معاً موضوع حديث آخر، إذ أن ما يشغلنا الآن وثيقتان بالغتا الاهمية ضمن وثائق حلقة العناصر المشتركة المنعقدة عام 1971. فقد تقدم المرحوم رشدي صالح بمشروع استراتيجي متكامل لانشاء مجلس قومي للمأثورات الشعبية العربية تشرف عليه المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في جامعة الدول العربية. وتتمثل أهداف هذا المجلس في العمل على تنمية الاهتمام بهذه المأثورات عن طريق ادوات منها: 1 - تشجيع الجهود التي تضطلع بها الهيئات أو الافراد، في جميع هذه المؤثرات أو تسجيلها أو تصنيعها او دراستها او الافادة منها في ميادين البحث العلمي او الابداع الفني أو في ما يتصل بأغراض التعليم. 2 - التعريف بهذه المأثورات وقوميتها على النطاقين العربي والعالمي. 3 - العمل على انشاء الهيئات العلمية للمأثورات الشعبية على المستوى القومي مثل معهد الدراسات الفولكلورية العربية، والارشيف القومي للمأثورات الشعبية العربية، وكذلك تشجيع انشاء الهيئات الثقافية المعنية بهذه المأثورات مثل جمعيات الفولكلور ومتاحفه. 4 - دعم التعاون والتنسيق بين الهيئات العربية العاملة في مجال هذه المأثورات. وتتعدد الادوات والوسائل التي يتضمنها المشروع، ولكنها تدور كلها حول تأكيد التوجه القومي، إذ أنه الغاية الرئيسية من انشاء هذا المجلس. أما المشروع الثاني فقد تقدم به المرحوم الدكتور عبدالحميد يونس ويتناول انشاء مركز عربي للمأثورات الشعبية ليمثل جهازاً علمياً نموذجيا تتركز فيه العناية بالفولكلور العربي على الصعيد القومي. وعلى الاهمية البالغة لكل مشروع من المشروعين على حدة فإنهما يمضيان في تكامل يعكس جلاء الرؤى والمفاهيم القومية لدى جيل من العلماء والباحثين كان فاعلاً وفي صدارة صفوف المفكرين العرب منذ أقل من ثلاثة عقود. ناقشت الحلقة هذين المشروعين وأقرتهما، بل احتل كل منهما مكاناً بارزا في التوصيات، ثم ران بعدها صمت مطبق. ألا يثير هذا الصمت من التساؤلات ما يفتح الى هذه القضية باباً قبض على مزلاجه الصدأ؟ * كاتب مصري