أكمل من حيث توقفت أمس، والسؤال هل تستطيع البلدان النامية المشاركة في العولمة، وهل يستطيع مثقفو هذه البلدان الحؤول دون ذوبان بلادهم في عولمة احادية اللون تعكس انتصار ديموقراطية السوق الغربية؟ ربما قدمت فرنسا نموذجاً طيباً للدول النامية. كان خلاصة حديث بين الصحافي الأميركي جيم هوغلاند ورئيس الوزراء الفرنسي ليونيل جوسبان، على هامش الدورة الأخيرة للجمعية العامة للأمم المتحدة، هو ان فرنسا تريد "عولمة بوجه انساني". وتحدث رئيس الوزراء بصراحة فقال: "نحن لا نعارض العولمة، ولكن نريد ان نمدن هذه العولمة لتتناسق مع اسلوب حياتنا. لا نريد ان نكون سلبيين، فنحن منفتحون، ولسنا ماسوزيين…". وسجل هوغلاند ملاحظات من جولة له في فرنسا خلال الصيف، فقال ان الحكومة الفرنسية، وهي اشتراكية تقوم بخطوات واعية غير اشتراكية لتعزيز دور فرنسا ضمن النظام العالمي الجديد، وفرنسا اليوم بين أول خمس دول في العالم تصديراً واستيراداً، وقد خفضت الحكومة الضرائب، ووضعت رقابة دقيقة على الميزانية لمنع التضخم، وسمحت لصناديق التقاعد الأميركية بتملك أسهم في الشركات الفرنسية، حتى أصبحت هذه الصناديق تملك 40 في المئة في أكبر 40 شركة فرنسية متداولة في بورصة باريس. هل تستطيع الدول العربية ان تكون في مستوى التحدي، وهل هي من الوعي ان تتصرف كفرنسا، فتحاول ان تحافظ على ثقافتها والقيم التقليدية لمجتمعاتها وهي تركب مركب العولمة الخشن؟ ثورة التكنولوجيا ألغت الجغرافيا، فلم تعد الحدود تعني شيئاً كبيراً، ووسائل الاتصال توفر المعلومات للناس كافة في كل مكان. في هذا الوضع لم تعد المواد الخام ذات تأثير كبير، فأكبر شركة في العالم وهي مايكروسوفت، قامت على انتاج من الذكاء وليس أي ثروة طبيعية في باطن الأرض. والمستقبل كله يسير في اتجاه ال Software، لا ال Hardware، اذا كان لنا ان نستعير لغة الكومبيوتر والانترنت. من دون مجاملة اعتقد ان المواطن العربي قادر على اجتراح معجزة محدودة اذا ترك يعمل بحرية، وهو يستطيع غداً ان يبني "سليكون فالي"، اي صناعة تكنولوجيا متقدمة في غير بلد عربي. وقد قامت في بيروت خلال أحلك سنوات الحرب "صناعة كوخ" في مجال ال Software، مع انعدام سبل العمل الأخرى، واستطاع كثيرون ان يبيعوا انتاجهم محلياً، وفي دول عربية اخرى. والحكم في مصر واعٍ لأهمية المطروح، ويساعده ان مصر بلد مؤسسات، وهي تعمل الآن في اتجاه بناء صناعة تكنولوجيا يقودها القطاع الخاص. ولا بد ان هناك الاتجاه نفسه في بلدان عربية اخرى، غير انني لا أعرف شخصياً التفاصيل، وانما أعرف ان الدكتور بشار الأسد في سورية، كان سباقاً في هذا الاتجاه، ربما بحكم تدريبه في الخارج كطبيب. وهو يرأس الجمعية السورية للمعلوماتية، وقد رعى في وقت سابق من هذه السنة المؤتمر الدولي الثاني للمعلوماتية في دمشق. اذكر هذا المؤتمر لان صديقاً قديماً هو الدكتور مايكل هدسون، من جامعة جورجتاون، قدم فيه بحثاً جيداً يقترح بناء مؤسسة فكرية عربية لتكنولوجيا المعلومات من مهماتها: - تطوير البرامج باللغة العربية للانترنت باستمرار. - تدريب جيل جديد من المتخصصين في المعلومات. - التعاون مع جهات مماثلة في حقل تكنولوجيا المعلومات في الدول الصناعية. - مراقبة هذه التكنولوجيا في العالم أجمع ومواكبة أحدث تطوراتها. - اجراء أبحاث في الموضوع ودراسات واستطلاعات للرأي. واكتب مختصراً الى درجة ظلم الباحث، فاكتفي باحالة الراغب على البروفسور هدسون في جورجتاون. وان وجد من يهتم بمثل هذه الأمور، فهو قد يقرأ كتاباً أشرف البروفسور هدسون على اصداره اخيراً بعنوان "مأزق الشرق الأوسط: السياسة والاقتصاد والدمج العربي". وقد أصدر البنك الدولي كتاباً بعنوان "دخول القرن الحادي والعشرين" لا بد ان يفيد كل بلد نامٍ، اذا عرف كيف يقرأ، ثم كيف يوظف خدمات البنك الدولي لصالحه. أقول "على من تقرأ مزاميرك يا داود" لأنني أريد ان أختتم بشيء اسرائيلي، فقد قرأت في الصحف الاسرائيلية هذا الشهر ان شركة "انتل" الأميركية الكبرى اشترت شركة "دي اس بي سي" الاسرائيلية للتكنولوجيا بمبلغ 6،1 بليون دولار. وكانت شركة أميركية أخرى اشترت قبل ذلك شركة "نيو دايمنشن" الاسرائيلية بمبلغ 675 مليون دولار، كما اشترت شركة اون لاين السنة الماضية شركة ميرا بيليس بمبلغ 410 ملايين دولار، واشترت شركة تكساس انسترومانتس شركة ليبيت بمبلغ 365 مليون دولار. اسرائيل التي قاطعها العرب نصف قرن دخلت القرية العالمية، وبنت لنفسها صناعة تكنولوجيا، قوامها العقل لا أي مادة خام. ولن اسأل هل نلحق باسرائيل وبقية العالم، فسؤالي هو لماذا نجد انفسنا دائماً متخلفين عن الركب ونحاول اللحاق به؟ آمل الا نحاول عبثاً.