العولمة التي تتردد أمامنا هي انعكاس لعالم يسير بحركة نكاد لا نلحظها. وهي تعني اساساً تحويل العالم الى مكان واحد، أي بناء العالم اللامكاني. فالمسافات واختصارها من خلال شبكة الاتصالات والتكنولوجيا وتداخل الأسواق والاقتصاديات والثقافات هي ما يحوّل الأرض الى مكان واحد بين دوله وشعوبه وأفراده ومن دون ان يلغي التمايزات والاختلافات بين هذه الشعوب. وبالفعل، كانت تأخذ الفرد العربي اسابيع للوصول الى أوروبا أو اميركا وإذا بها عملية تتم في ساعات. كانت كل فئة تعيش في عالمها الخاص في حيّها الصغير واذا بكل شيء يتغير، واذا بالاحياء الجديدة تبرز وبالتفاعل بين الناس ينتشر بطريقة لم نعرفها في السابق. كان الفرد يسافر عند الضرورة واذا سافر يتحمل مشقة لا حدود لها، فإذا به يغادر بحثاً عن العمل أو السياحة الى كل أرجاء المعمورة وبسهولة لم تتوفر في التاريخ. ونجد، اليوم، ان اكثر من 30 في المئة من الافارقة يحيون لفترات مختلفة خارج أوطانهم وان نسبة كبيرة جداً من العرب هي الأخرى تعيش خارج أوطانها، وان هذه النسب الى ارتفاع. وعندما يركب أحدنا سيارته فهو يسوق حافلة صممت في اليابان وصنعت في كوريا بينما قطع الغيار من الصين. وعندما يذهب الى الجامعة ويبدأ في فتح الكومبيوتر يتحدث مع شاب في اميركا، ويصله بريد من صديق في القاهرة، ثم يتحدث مع أفراد من ثقافات مختلفة عن مواضيع شتى. والانترنت يتعامل معها اليوم 40 مليون مشترك من 125 دولة وسيببلغ العدد أكثر من 100 مليون مع نهاية القرن. وعندما يذهب الشاب او الشابة الى المنزل يقضي وقته في مشاهدة فيلم على الساتلايت الأوروبي، ثم يشاهد مباراة كرة القدم على التلفزة الاميركية ويتابع مسلسلاً لبنانياً على محطة "ال.بي.سي."، ثم يسمع عن آخر الاختراعات من برنامج علمي بريطاني. ثم يجلس في غرفة النوم ليشاهد فيلماً على الفيديو أو يتحدث بالهاتف الذي لم يكن موجوداً قبل عقود، أو يتنقل بهاتف خلوي. اما بقية الأسرة فإن لكل اهتماماته، وقد يضارب الأب من غرفة نومه في المنزل من خلال جهاز الكومبيوتر في بورصة طوكيو ثم نيويورك، واحياناً يعرج على بورصة هونغ كونغ، واذا احتاج شيئاً يشتريه عبر الانترنت ليرسل الى منزله... هذا الوضع ليس أمراً تحتكره فئات صغيرة، بل ان الطبقة الوسطى بدأت تدخله، وهو ينتشر بشكل كبير، فمحطات الفضاء المتوسعة أصبحت في متناول الطبقات الشعبية. ان جزيرة صغيرة مثل سنغافورة بكل فئاتها ستكون أول مدينة معولمة في العالم لأن كل أسرة وبيت ومؤسسة حكومية أو خاصة ستكون مرتبطة بجهاز مركزي فيه كل المعلومات وكل الاتصالات والاحتياجات. ستكون اذن مدينة متصلة بالحاسوب والمعلومات عن أرقام الهواتف وفواتير الكهرباء والماء والعناوين ومعلومات عن الدولة، مترابطة كلها مع شبكة الانترنت والعالم. وفي عصر العولمة، يبرز فيلم سينمائي فيعم الاعجاب به كل الشعوب، وتبرز أغنية قد لا يفهمها الجميع على الأرض لكن الجميع يريد ان يراها ويسمعها. والمغني خالد فيخلط العربية بالفرنسية لتفوز اغنيته بجائزة أفضل اغنية في فرنسا. اما وباء الإيدز فهو وباء عالمي تعاني منه كل الأرض، كذلك التغير المناخي وما يسمى بثقب الأوزون، كذلك الارهاب العالمي، وايضاً المخدرات، والتلوث البيئي. العولمة تعني ايضاً ان تقارب المسافات بين الشعوب والدول جعل مشكلة دولة هي أزمة الدولة الأخرى، وجعل مرضاً ينتشر في اميركا هو الآخر مرض يغزو اليابانوالكويت. العولمة تتضمن كل هذا، بل اكثر، انها تتضمن اختراقاً لبنى كل الحضارات وكل العوالم: في مجال الاقتصاد وفي مجال المال، وفي مجال البنوك والصناعة والاستهلاك وفي مجال الثقافة والغناء والسياسة والاخبار، وفي مجال الأكل والعلاقات بين الناس، وفي مجال التفكير واساليبه، وفي السياحة واساليب الإدارة واساليب الاتصال. لقد تم جانب من الاختراقات الا ان الجانب الأكبر هو في طور الحصول إبان السنوات والعقود القليلة المقبلة. هذا التحول سيجعل العالم المحيط بنا عبارة عن سلسلة لامتناهية من الرموز التي تعبر عن نفسها في اساليب التخاطب والتحادث والتعامل. بل هناك لغة عالمية منتشرة في كل مكان وفي طريقها للتعمق، وهناك الى حد كبير مجتمع عالمي واهتمامات عالمية واجواء عالمية ومشكلات عالمية في طريقها الى التوسع. العالم يقترب من بعضه بعضاً ويصاغ من جانب التيارات المؤثرات نفسها، هناك اذن مؤثرات عالمية تتجاوز المحلي وتتجاوز رغباتنا. انها حالة عالمية تسير باتجاه دمج أسواق العالم وتوجهاته، الى درجة انك تنتقل اليوم من مدينة الى أخرى ومن عالم الى آخر لتجد بالإضافة الى الفروقات عناصر ترابط تتزايد يوماً بعد يوم من دون إلغاء التنوع الذي يتميز به كل مكان. وفي هذا الاطار يبرز مجتمع استهلاك عالمي، يستهلك فوق طاقته، ويبحث عن كل جديد. في كل شيء يحتاج الانسان حداً أدنى، ولكن في عصر العولمة تتزايد احتياجات الانسان الاستهلاكية، فكل اختراع يليه آخر، وكل وسيلة انتقال تتطور الى أفضل منها، وكل جهاز نقال يتطور الى آخر أصغر منه وأفضل منه، وكل أزياء تتطور الى أخرى اكثر جاذبية وانتشاراً. في عصر الاستهلاك نكاد لا نشتري الشيء إلا ويصبح قديماً ونكاد لا نأخذ الجديد الا ليبرز ما هو أجدّ منه. ان رأس المال الذي ينتقل الآن عبر العالم بأقل حواجز وقيود هو أحد موحدات هذا العالم، اذ ينتقل يومياً 600 بليون دولار من عملة الى اخرى، وكل بنك من أكبر خمسة بنوك في العالم لديه أموال وممتلكات تتجاوز كل احتياطات الدول بما فيها الذهب التابعة للحكومة الاميركية واليابانية والالمانية. بنك سيتي كورب الاميركي، مثلاً، لديه 2200 مكتب وفرع في العالم، وعشرون مليون حساب. قبل عشر سنوات كان انتقال الحسابات من فرع الى فرع يحتاج معاملة، أما اليوم فإن انتقال الحسابات من بلد الى آخر أمر طبيعي. اليوم ينتقل رأس المال بلا حدود، ولو أرادت الولاياتالمتحدة تنظيم اقتصادها أو خفض الفائدة عليها لالتقت الدول الصناعية السبع لترتيب ذلك، ولو أرادت الكويت أو السعودية ان تحمي اسعار النفط لكان عليها ان تذهب الى الأوبك، بل ان بعض الشركات العالمية يتجاوز في اقتصادياته وقدراته اقتصاديات عشرات الدول مجتمعة. لنأخذ جنرال اليكتريكس، أو كوكا كولا، أو اسو، أو فورد أو فوجي، هوندا، أي.بي.ام، كوداك، نيستلي، ماكسويل، شيل، زيروكس، مكدونالدز، وعشرات غيرها، على سبيل المثال. هذه الشركات العملاقة تمارس التجارة بين فروعها لدرجة ان ثلث التجارة العالمية هي تجارة ارسال وتحويل مواد بين فروع هذه الشركات في العالم. مدخول جنرال موتورز يجعلها أكبر دولة في افريقيا والدولة الثانية في المدخول والميزانية في اميركا الجنوبية. دخل شركة ايكسون يعادل دخل أهم دولة نفطية، دخل أي.بي.ام. يعادل دخل فنزويلا. أما انتيلسات، هذا الطريق الفضائي الممتد عبارة عن تحالف بين 122 دولة، فيتضمن 17 ساتلايت لخطوط الهاتف والفاكس والتيليكس والكومبيوتر واشارات التلفزة. الانتيلسات يسمح للبنوك بمعرفة تحويلاتها والشركات بالتحدث مع فروعها في العالم. انطلاقاً من حالة العولمة بدأت الشركات العالمية الكبرى تغير تركيبتها. مثلاً، كان لدى شركة الصناعات الكيميائية البريطانية في عام 1982 مجلس ادارة مكون من 16 بريطاني، أما الآن فمجلس الادارة يتضمن اميركيين، وكندياً، ويابانياً، والمانياً. ومن الپ180 مديراً في هذه الصناعة الضخمة، الثلث ليس بريطانياً. اما في مجلس ادارة الأي.بي.ام. فهناك الآن خمس جنسيات تم تعيينها في التسعينات، بينما عينت سوني في مجلس ادارتها اخيراً اميركياً والمانياً. ان الاتجاه الآن هو الى تخليص مجالس ادارات هذه الشركات العملاقة من سيطرة جنسية واحدة أو من تبعية لدولة محددة وتحويلها الى جلب الخبرة حيث توجد، خصوصاً ان مبيعات هذه المؤسسات وأعمالها هي في معظمها خارج البلد الأصل. فثلث مبيعات جنرال موتورز الاميركية وثلث أصولها وممتلكاتها تقع خارج الولاياتالمتحدة، اما فيليبس فإن 85 في المئة من مبيعاتها في الخارج. هناك اليوم أكثر من 20 ألف شركة عالمية تعمل على مستوى العالم، وهي تبني صناعة عالمية تخترق كل يوم مزيداً من الدول والاقتصادات وتزحف على كل مكان، وتصل أصول هذه الشركات العملاقة الى أربعة آلاف بليون، أي انها تمثل 25 - 30 في المئة من الانتاج المحلي للاقتصاد العالمي، كما ان 75 في المئة من تجارة السلع والبضائع العالمية بيد هذه الشركات. ونجد ايضاً ان 80 في المئة من تبادل التكنولوجيا والادارة الدولية في العالم هي في يد هذه الشركات. وفي الوقت نفسه نجد ان أكبر 300 شركة عالمية لديها 70 في المئة من مجموع الاستثمارات المباشرة في العالم، ولديها 25 في المئة من الرأسمال العالمي. وبينما نجد ان 90 في المئة من الرأسمال المستثمر في العالم هو في عشر دول نامية، الا ان هذا الرأسمال بدأ يدخل ويتحول لدول اخرى تمارس اصلاحات اقتصادية في اميركا اللاتينية وفي آسيا وفي الشرق الأوسط. وما قلناه لا ينهي قصة العولمة، بل ان العولمة في طريقها الى الارتقاء، فهذه الشركات العملاقة تتحالف وتتعاون في ما بينها وتتطور ولا يبقى إلا الأفضل والأقوى، بل انها تتحول الى بعضها بعضاً. ان بناء تحالف عالمي هو اسلوب ادارة واسلوب بقاء لكل هذه الشركات. لذا نجد ان شركة الخطوط البريطانية تتحالف مع شركة الطيران الاميركية، ونجد ان كي.ال.ام. تتحالف مع نورثويست الاميركية، شركة الطيران الفرنسية مع سابينا، كما ان الحاسوب الخاص لپأي.بي.ام. تم تطويره بالتفاهم من قبل مايكروسوفت وهي شركة مستقلة. كل ذلك يعني ان إعداد الشاب أو الشابة في الدول العربية للتعامل مع هذا الوضع امر يمس الأمن العربي العام، وهو يتطلب الكثير من اعادة النظر في التعليم ووسائله وأهدافه، بل ان هذا التصور يعني ان أحد أهم مواقع التوظيف في المستقبل ستكون بعض هذه الشركات العالمية، وان الشاب العربي قد ينتقل مع هذه الشركات من مكان الى آخر، وهو يعني في الوقت نفسه ان الحكومات لن توظف كما توظف اليوم، وان القطاع الخاص الوطني سيتأثر ويتحالف مع هذه المؤسسات العالمية وذلك بحثاً عن العالمية والأرباح والبقاء في سوق تنافسي لا يبقى فيه الا الأفضل والأقدر والأقوى.