تقدم إلى السلطات البريطانية بطلب لجوء سياسي ويتوقع المحامي صدور الموافقة قريباً. شاعر العراق الحي الأكبر، والأشهر عربياً ودولياً، غادر بلده للمرة الأخيرة عام 1979، أي أنه امضى إلى الآن عشرين سنة متنقلاً في غير عاصمة عربية فضلاً عن إقامات متقطعة في قبرص وفرنسا وغيرهما. كنا ثلاثة نسير في الرماد اللندني، وبرفقتي سعدي يوسف والحالم العراقي صموئيل شمعون المشارك في إصدار "بانيبال" المجلة الانكليزية المعنية بالأدب العربي الحديث. سعدي هو هو منذ سنوات مديدة، وئيد الخطى في ما يشبه الترنح، مع اعتداد بالنفس على خفر. وقد عبرنا ثلاثتنا محطة اوليمبيا حيث القطار رمز السفر المحبب في آداب العالم. واستقرت جلستنا في المكان الهادئ حيث ينتهي شارع مقفل كان يسكن فيه مؤسس باكستان محمد علي جناح، فقال سعدي: "اكتملت قناعتي في السنوات الأخيرة بأن الشروط الحالية للمنطقة العربية لا تسمح باختراق ثقافي، وبالتالي لن تسمح بطه حسين ونجيب محفوظ آخرين. انتهينا من مسألة حرية التعبير. اتفقنا انها غائبة. لا بأس. ولكن؟ الإشكال الجارح الآن بالنسبة إليّ أن عملية التفكير بين المرء ونفسه لم تعد قابلة لأن تأخذ دورتها المعتادة. هذه الإعاقة التي تبدو ظرفية تؤدي إلى إعاقة بيولوجية. هذا هو السبب الأساس الذي دفعني إلى الهجرة". ها شاعر كبير يقول إن الرقابة الذاتية دخلت في خلاياه، رقابة لا تفرضها الدولة بالضرورة، وإنما سياق الحياة الاعتصابي في عالمنا العربي الذي مهدت له الدول القائمة قليلاً، والتمهيد الكثير أتى من المثقفين أنفسهم، خصوصاً أولئك الذين تهيأ لهم أنهم يمثلون الجماهير وضمير التاريخ ووعد المستقبل، فمضوا يفرغون الحياة اليومية للبشر وللمثقفين بالتالي من خيارات الحرية، ويغلقون هذه الخيارات في معلبات ايديولوجية أو في سياقات مرسومة سلفاً، حتى بدا الإنسان العربي الطبيعي مطروداً من نظام الجموع ونظام الكلام ونظام الأفكار... طردوه قبل أن يقرر الهجرة ويتركهم في وقفتهم التي تحولت إلى مأزق لا يعرفون الخروج منه لأنهم أفقدوا أنفسهم والآخرين مزايا النظر إلى جهات متعددة، وارسال التفكير بلا حدود، والجهر بالقول دون خوف ودون ادخال الكلام الشخصي في هيكل الكلام الجمعي المرسوم سلفاً. سعدي يوسف الكهل صاحب التجربة الغنية عراقياً وعربياً، وأحد معلمي الشعر العربي الحديث، يقرر بعد تفكير مديد ان يقيم نهائياً في بريطانيا. خبر يعنينا في وجهين، قيمة الشاعر، ومعنى الكتابة خارج الأرض الأم ومناخها الاجتماعي - الثقافي. أول قصيدة في أول عدد من مجلة "شعر" عام 1957 كانت لسعدي يوسف ارسلها إلى يوسف الخال بالبريد من البصرة، كان رزوق فرج رزوق الطالب في الجامعة الأميركية في بيروت أحضر إلى العراق إعلاناً عن قرب صدور "شعر" وقسائم اشتراك، والطريف ان العدد الأول هذا مُنع في العراق. يتذكر سعدي في ما يشبه الشهادة لروح الحرية لدى القيمين على "شعر"، على رغم ما نالهم في حينه من سهام القوميين والماركسيين في طول العالم العربي وعرضه. سعدي يوسف لإقامة دائمة في بريطانيا، يفعل أي شيء ليستمر في مسيرة الحرية، كأنه يعتبرها صنو استمرار الحياة. وقبل سعدي، ومن دون إعلان، كان الجواهري ما بين براغ ودمشق، وأدونيس في باريس ينطلق منها شرقاً وغرباً، ومحمود درويش بعد تجربة بيروت أقام طويلاً في باريس وهو الآن في عمّان، يزور رام الله لا يستقر فيها. وقد يبدو صحيحاً أن السفر والاغتراب والنفي فقدت معناها مع تطور وسائل النقل والاتصال، وصحيح أيضاً ان آداب الأمم تسير إلى نقاط التقاء في الأساليب والمضامين بسبب وسائل الاتصال هذه، لكن الشعر من دون أنواع الأدب كلها يرتبط باللغة، بتطويرها وإعادة انتاجها بما يوافق ايقاعات الحياة ومناخاتها المتجددة. وربما لا يستطيع الشاعر إذا طالت إقامته خارج مكان اللغة وأهل اللغة أن يمارس رسالته "اللغوية" هذه، فتسير تجربته في اتجاه خاص يزداد خصوصية فانفراداً فعزلة حتى تتقطع الصلة ما بينه وبين بيئة لغته، وربما ينشأ عن ذلك ضعف في تأثير شعره لدى قراء العربية، خصوصاً الأجيال الجديدة التي تنمو على ايقاع ومناخات لم يتواصل معها الشاعر "جسدياً". قد تكون هذه هواجس ما قبل العولمة، لكن مأساة الثقافة العربية ان منتجيها اليوم لا يتمتعون بأوليات هذا الانتاج: حرية التعبير والشعور العميق بالقدرة على الاختيار. أليست الكتابة في معناها الأساسي فعل اختيار يتجوهر في النص؟ وربما يقلل من هذه الهواجس أن سعدي يوسف يأتي إلى لندن ليسكن في كنف جالية عراقية كثيرة العدد، أغلبيتها من المهاجرين الجدد الذين يؤلفون مجالاً لحركات فكرية وأدبية، لأنهم أصبحوا في بريطانيا كتلة مستقرة. ولا ننسى ان سعدي انكلوفوني، وبهذه الصفة قد يلعب دوراً اضافياً في التبادل الثقافي مع عالم الانكليزية الواسع الذي يعتبر اليوم هو صوت العالم كله.