إنشاء مجلس الشراكة الاستراتيجية بين المملكة وإيطاليا    عقار يبشر بإمكانية استعادة الرؤية للمصابين بتلف الأعصاب    السماح للأجانب بالاستثمار في أسهم الشركات العقارية المدرجة التي تستثمر في مكة والمدينة    استشهاد شاب فلسطيني شمال القدس المحتلة    مغادرة الطائرة الإغاثية السعودية الرابعة عشرة لمساعدة الشعب السوري    5 أسباب للتقليل من استهلاك الملح    7 خطوات بسيطة.. تملأ يومك بالطاقة والحيوية    نجل «سعد بن جدلان»: قصائد منسوبة لوالدي لم يكتبها    «النقانق والناجتس» تسبب العمى لطفل بسبب سوء التغذية    المملكة تدين استهداف المستشفى السعودي في الفاشر    أكذوبة محاربة الاحتكار الغربية    مزارع الريف    «صراع الصدارة» الاتحاد والهلال يواجهان ضمك والقادسية    الجمعان ومستقبل النصر    بعد اشتباكه مع قائد الفريق.. مدرب ميلان: اللاعبون كالأطفال بحاجة للتأديب أحياناً!    «بيدري» برشلونة يقترب من دوري روشن    مطالبة بإلزام المرافق الخدمية ب «المولدات الاحتياطية»    شرطة النعيرية تباشر واقعة شخص حاول إيذاء نفسه    "سلمان للإغاثة" يوزّع مواد إغاثية في مدينة حرستا بمحافظة ريف دمشق    طفاية الحريق في المركبة.. أمن وسلامة    الجوال السبب الأول لحوادث المرور في القريات    ليلة تكريم جميلة مطرَّزة بالوفاء والإخاء    الرياض.. طفلة تحت المطر    مؤتمر «خير أُمّة»: محاربة الجماعات المنحرفة ومنعها من تحقيق أغراضها الباطلة    رضا الناس غاية لا تدرك    الزيارات العائلية    فعالية «مسيرة الأمم»    كيف يعشق الرجال المرأة.. وكيف تأسر المرأة الرجل؟    ضيوف برنامج خادم الحرمين يزورون معالم المدينة المنورة    لحظة تأمل    46% من المشاريع للبناء والتشييد    أمير الشرقية يطّلع على إنجازات جامعة حفر الباطن    نائب أمير مكة يستقبل المعزين في وفاة أخيه    دراسة: الإجهاد النفسي يسبب" الإكزيما"    "سلمان للإغاثة" يواصل تقديم المساعدات الإغاثية في بلدة جباليا شمال قطاع غزة    استئناف إصدار تأشيرات الدخول للسودانيين عبر سفارة المملكة في بورتسودان    المشكلة المستعصية في المطار !    السعودية نجم «دافوس»    اتفاقيات التعاون.. والتكاذب المؤسّسي    أسعار العقار بيننا وبين الصين!    ولاء بالمحبة والإيلاف!    نائب وزير الدفاع يرعى حفل تخريج الدفعة (105) من طلبة كلية الملك فيصل الجوية    شريف العلمي.. أشهر من طوّر وقدّم برامج المسابقات المُتَلفزَة    وجناح «هيئة الأدب» يجذب الزوار    نيمار حدد موعد ظهوره بشعار سانتوس    طلال بن محفوظ - جدة    النصر يؤكد بقاء الثنائي العقيدي وغريب :"عيالنا .. كفاية إشاعات"    أمير منطقة القصيم يعزي أسرة الزويد.. ويوجه بتسمية قاعة بالغرفة التجارية باسمه    السعودية باختصار    السعودية وسورية: الرهان على الشعب السوري!    «البرلمان العربي»: محاولات تهجير الفلسطينيين من غزة انتهاك صارخ للشرعية الدولية    عمل بعيد المدى لوزارة الشؤون الإسلامية    محافظ الخرج يستقبل الرشيدي    ضيوف الملك.. خطوات روحية نحو السماء    الديوان الملكي: وفاة والدة الأمير فهد بن سعود بن محمد بن عبدالعزيز آل سعود بن فيصل آل سعود    رئاسة الحرمين.. إطلاق هوية جديدة تواكب رؤية 2030    بيان إمارة عسير بشأن انقطاع الخدمة الكهربائية في منطقة عسير    تمكين المرأة: بين استثمار الأنوثة والمهنية ذات المحتوى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ستينية الستيني
نشر في الرياض يوم 11 - 10 - 2005

احتفل أصدقاء الشاعر فوزي كريم ببلوغه الستين، كان ذلك في كاليري آرك، وهو ستوديو للرسم وملتقى الندوات والاجتماعات العراقية الصغيرة في ضاحية بلندن.
كان الاحتفال البسيط مناسبة لاسترجاع عمر من الثقافة العراقية بين ستينيات القرن المنصرم وحاضرها الذي تقاسمته مع عواصم الهجرة إلى الغرب.
بغداد الستينات حيث شهدت عودة المثقفين المهاجرين من الجيل الخمسيني وما قبله، كانت تستشعر الاضطراب من خلال ثقافة قلقة تريد ان تستعيد بعض ما فاتها من مشاريع الماضي، ولكن مثقفيها يسكنهم هاجس الرحيل.
فوزي كريم لم يكن مجرد شاعر من شعراء تلك الموجة التي بدأت بما يشبه الانقلاب على كل شيء، بل هو يشخص نموذجا للمثقف المؤثر يوم صعد نجم الشعراء الصعاليك، وهو وان صاحب حسين مردان الشاعر المتمرد والصعلوك، وكان نديم عبد الامير الحصيري الذي فاق مردان في عبثه، غير ان فوزي لم يكن صعلوكا بهذا المعنى الذي ميّز سلوك صاحبيه، فقد كان يرى في الشعر الذي يكتبه الحصيري استعادة لبهاء قصيدة القريض، في حين كان حسين مردان بشعره الذي أسماه النثر المركز، يقف على الطرف الثاني من معادلة التجاذب بين الثقافة القديمة والحديثة. هل كان شعر فوزي كريم نتاج التردد بين ثقافتين؟، ربما تدلنا سيرته على هذا العبور المحفوف بالمخاطر، فهو لم يكن يوم كتب القصيدة على معرفة بالشعر الغربي إلا عبر الترجمات، في حين كان سركون بولص وفاضل العزاوي وكل من سمي بشعراء كركوك، يكتبون قصائدهم التي تمضي إلى عوالم الشعر الاميركي والغربي عموما، في طموح إلى تجاوز حواجز الثقافة المحلية.
الحضور الثقافي لفوزي كريم في الستينيات تجلى في تردده بين انتماء إلى «الحداثة» حين وضع اسمه مع مجموعة الذين وقعوا على بيان فاضل العزاوي، وبين تنكّر لهذه الموجة وللبيان الذي حاول صياغة قواعدها. هذا الموقف الذي بقي مجرد حديث مقاه ومسامرات بين الاصدقاء، وبعض مناوشات على أعمدة الصحف والمجلات، تطور بعد ان تعلّم فوزي اللغة الاخرى، وأخذ يبحث عن مراكز إسناد لقوله في الثقافة الغربية، فصدرت مجلته (اللحظة الشعرية) ثم توج تلك المساجلات في كتابه المعروف (ثياب الامبراطور) حيث هاجم كل رموز الحداثة العربية، وشعراء جيله، وفي مقدمتهم فاضل العزاوي خصمه وصديقه اللدود!.
في يوم ميلاده الستين، تحدث فوزي كريم عن محطات التحول في حياته، وتذكّر معه الاصدقاء تلك اللحظة الحاسمة في عمره، عندما نقلته محفة الاسعاف إلى غرفة العناية الفائقة، فقد كان قلبه يوشك على التوقف، وعندما استيقظ، قال بهدوء : كنت البارحة أطل على هاوية الموت. كان الطبيب لايخفي على عائلته خطورة وضعه، ولكن فوزي الذي بقي في المستشفى يصغي الليل إلى الموسيقى الكلاسيكية كي لايأخذه النوم بعيدا، كان ببساطة يعد العدّة لأيامه المقبلة.
شريف الربيعي مصاحبه اليومي في مقهى السوق الكبير، يضحك ويزيل القلق عن الاصدقاء : كونوا على ثقة بأن فوزي سيسير بجنازاتنا ولا يموت إلا في الأخير. تذكر الاصدقاء هذا القول يوم أودعوا شريف مقبرة قريبة من ذلك المقهى فقد كان فوزي يقف متجهما، يتهدل وجهه كمن يستمع إلى موزارات في سمفونية الوداع، ولكن منْ من الاصدقاء لم يشعر بمفارقة المزحة التي اطلقها شريف، فقد كنا نضحك بين الدموع.
يقول فوزي وهو يستذكر تلك الأيام، ان عمره الأدبي تجدد منذ ذلك الوقت، مذ عاد من هاوية الموت، منذ أن انتزع نفسه من الثواني الحاسمة التي قررت مصيره، فقد ادرك كم استغرقه عبث الدنيا ولهوها، فانقطع عن العالم إلى نفسه، مسابقا الزمن كل عام بكتابين أو ثلاثة. لم يعد الشعر مملكته الوحيدة، فهو رسام وثقافته التشكيلية تساعده على ان يكتب في العلاقة بين الفنون، اما ولعه بالموسيقى الكلاسيكية، فقد دله على دروب جديدة للكتابة، فكل جديد او قديم يظهر في هذا الميدان يقتنية ويحاول ان يتعرف عليه ويستعرضه أمام القراء. كان نجيب المانع من أكثر المثقفين العراقيين تأثيراً على فوزي كريم، فثقافته الموسيقية وقراءاته الأدب الانكليزي مرت عبر موشور نجيب المانع، وهو في يوم ميلاده يستذكر تلك الأوقات التي افادته من صحبة مثقف مثله، وكيف ان فوضى القراءات التي كان يتعامل بها صديقه مع ساعات الفكر والأدب والفن، علمته الترتيب والافادة من الزمن، فقد ترك نجيب المانع الساحة الثقافية خالية من أثر يناسب معارفه، تلك الغصة في سيرة الصديق، أصبحت عبرة لفوزي كريم، وفي مرثية كتبها له يتنقل فيها بين انتساب واقتراب من غربة الموت بعيدا عن الوطن:
(سأتابع وتر العاصفة الكبرى في «الهمركلافي» / وأخبىء، خشخاشا، في ذكراك، عراقيا / منتخبا من برّية جوعك / ولنحفظ بين كلينا هذا القسمَ بأن حصارَ الترك طويل. / أيتها العاصفة على الأشرعة المهترئة / ايتها الريح اللاطمة جبين الجبل الأجرد / أيتها النّواحةُ بين القصب المهجور / ما أكثف عراقيتك» .
كتابات فوزي عن الموت، حملته إلى تخوم المجابهة مع الحياة، فالموت يحضر في الكثير من نصوصه، وكأنه قوة ميتافيزيقية يدخل ويخرج منها الشاعر في مساجلات عن معاني القول. في عالم الموت يريد الشاعر وضع خاتمة يجدد نفسه عبرها، والسياب في كل هذا، شاعره الذي كان الموت من بين أكثر محفزات الابداع لديه. يهدي فوزي أعماله الشعرية إلى كل الاصدقاء الذين غيبهم الموت من جيله، وكأنه يبحث عن شجاعة المعنى العبثي للحياة.
من بين مواضيع فوزي كريم الجاذبة التي استذكرها لقاء الاحتفاء ببلوغه الستين، قصة الرحيل والمكوث في المكان، فقد كانت تجربته المبكرة في مغادرة العراق، تحدد نوع التنازع في مفهوم القلق عند جيل الستينات، فقد قيض لهم البقاء في أرض رخوة تجمع الحنين إلى العراق والتوق إلى الهروب من جحيمه، وإصداره «العودة إلى كاردينيا» يلخص تلك التوترات في ذاكرة تكتب لتمحو، تثبت الواقعة لتدخل تفصيلها في الخيال.
بغداد تبدو على ماهي عليه في مزاج الشاعر، وكأنها مكان وهمي، يوشك على الاقلاع إلى عالم الخيال، خارج التاريخ والجغرافيا، وهو في الوقت ذاته راسخ وأبدي كما حال المدن التاريخية تستوطن الذاكرة الأدبية وتوجه بوصلتها :
« حين فاجأنا النفي، كان بثوب الجراحة، / عالجنا بالمشارط / طهّر من ورم الحلم اعضاءنا /ثم أقحمنا كي نؤدي له دورنا الثانويّ، / بآخر فصل على مسرح الظلِّ .»
سيرة الشاعر الأدبية، تكذب نصه هذا، فالمنفى صنع ثقافة فوزي الحقيقية، وكبرت تحت ظلاله أحلامه التي كانت تضيق بالعراق ويضيق بها. ولكن بغداد مدينته التي عاش في شاطىء ريفي منها، كانت تكتسب أكثر من معنى، فهي «العباسية» لاغيرها، عباسية التاريخ الذي تدركه في بساطة فوزي الساحرة حين يزيل غبار التكلف عن احاديث الناس فيها وعن سيرة بنات العم، الملايات وصانعات الفوط في قلب الفقر والحسين.
«من منا ينتسبُ لبعضٍ : / هل أنتِ بهذا الوجه المتغضّن؟ /أم نحن، رعاة اللاعودة ؟ / أم أنّ كلينا يابغداد / ينتسب إلى الجلاد؟ / رائحة التوت على أرداني ما زالت، / ولكن التوت تلاشى! والاسماك/ ما عادت تخترق التيار/ بل صارا ينحدران معا للبحر كما تنحدر الانهار! / من يكسب قوت غدٍ من ذاكرة تخصب تربتها الجثث؟ من ينتصر على حاضره بعصا الترحال؟.»
هاهو يختصر الكثير في بيت تردد بين الناس : « أقول السلام الذي بين جنحه نزيفٌ ملحّ، لماذا أراك حزينا / وأنت بعز الصبا ياكلام.» .
فوزي يغني شعره بصوته الجميل الذي تعوده الاصدقاء، فهو كما يقول عنه سعدي يوسف «شاعر المدينة بامتياز، يرتل شعره ويؤثر في الشبيبة، وبهذا التطلع النزيه إلى الحرية والجمال والمعنى الكامن.» يكتب فوزي تأريخه حين يبدأ في الستين، حيث عودنا في أحاديثه على ان تتحول كل الاشياء لديه إلى لحظة شعر، في حديثه البسيط وفي مفارقات يرى فيها العالم وعراقه وهو ينهض من بين قارات الأوبئة والحزن والحروب والفوضى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.