سلمان بن سلطان يرعى أعمال «منتدى المدينة للاستثمار»    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    المملكة تستضيف اجتماع وزراء الأمن السيبراني العرب.. اليوم    تباطؤ النمو الصيني يثقل كاهل توقعات الطلب العالمي على النفط    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    الجيش الأميركي يقصف أهدافاً حوثيةً في اليمن    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    كأس العالم ورسم ملامح المستقبل    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    مشيدًا بدعم القيادة لترسيخ العدالة.. د. الصمعاني: المملكة حققت نقلة تشريعية وقانونية تاريخية يقودها سمو ولي العهد    مترو الرياض    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مقاطع من "خيانة الوصايا" : المغامرة الكبرى في حياتنا هي غياب المغامرة
نشر في الحياة يوم 20 - 10 - 1999


ما هو أسلوب التورية التهكمية Irony؟
في الجزء الرابع من رواية "كتاب الضحك والنسيان"، تحتاج البطلة تامينا الى مساعدة من صديقتها، بيبي، المهووسة بفكرة انجاز كتاب، ولكسب ودها، رتبت لها لقاء مع كاتب يعيش في الحي نفسه يدعى باناكا.
شرح هذا الكاتب لصديقة تامينا، أن كتّاب اليوم نبذوا فن الرواية العتيق: "أنت تعلمين ان الرواية ثمرة الوهم البشري، وهْم قوة فهم الآخرين. لكن ما الذي يعرفه أحدنا عن الآخر؟ كل ما يستطيع المرء ان يفعله هو تقديم تقرير عن نفسه، أي شيء آخر محض كذبة".
أما صديق باناكا، استاذ الفلسفة فيضيف: "منذ جيمس جويس بتنا نعلم ان المغامرة الكبرى في حياتنا هي غياب أي مغامرة... وأوديسة هوميروس لا تجري إلا في دواخلنا". وجدتُ، بعد مرور وقت من صدور الكتاب، ان هذه الكلمات أصبحت كأنها شعار للرواية الفرنسية. وشعرت بالغبطة والانزعاج معاً، اذ ان ما قاله باناكا وصديقه لا يعدو كونه سخافات مركبة بشكل معقد. ففي السبعينات كنت اسمع هذه الكلمات في كل مكان: النقاشات الجامعية الممزوجة بنتف مقتبسة من البنيوية والتحليل النفسي.
نُشر الفصل الرابع من كتاب "الضحك والنسيان" في تشيكوسلوفاكيا، ككتاب صغير منفصل وهو أول شيء يُنشر لي بعد منع استمر عشرين عاماً، أُرسلت لي قصاصة جريدة، الى باريس، فيها يعبر الكاتب عن اعجابه بعملي، ولكي يثبت ذكاءه، انتقى في مقالته هذه العبارة التي اعتبرها رائعة: "منذ جيمس جويس أصبحت المغامرة الكبرى في حياتنا هي غياب المغامرة"، والى آخره، فشعرت بشيء من المتعة الخبيثة، لكأن كتاباتي نفسها يساء فهمها حتى في بلادي.
بالإمكان إدراك سوء الفهم هذا، لأنني لم أسخر من باناكا أو صديقه البروفسور، ولأنني لم أكشف تحفظاتي عن أفكارهما، بل بالعكس، بذلت كل ما استطيعه لإخفاء آرائي تجاههما، وعبر اعطاء آرائهما شكلاً أنيقاً متوافقاً مع الخطاب الثقافي، الذي كان في تلك الفترة، محترماً وموضة لدى الكثير من المثقفين. ولو أني جعلت حديثهما باعثاً للهزء، عبر المبالغة بها، لكنت انتجت ما يمكن تسميته بالاهجوة Satire. الاهجوة هي فن يستند الى القناعة بصحة أطروحة ما، قناعة مطلقة، تسعى الى محاربة نقيضها عبر السخرية. لكن علاقة الروائي بشخوصه لا يمكن ان تكون أبداً ذات طابع هجائي ساخر، بل فيها تورية تهكمية. وكيف يمكن لأسلوب التورية التهكمية والذي هو حسب التعريف ذو طبيعة كتومة؟ الجواب: ضمن السياق: لم تأت ملاحظات باناكا وصديقه الا ضمن مناخ محكوم بإشارات وأفعال وكلمات، يجعلها نسبية ومقبولة. فالعالم الريفي الصغير الذي يحيط بتامينا متميز بأنانية بريئة: الكل يحمل وداً صادقاً لها، لكن مع ذلك لا أحد يحاول ان يفهمها، بل حتى معرفة ما يعنيه "الفهم". وعندما يقول باناكا ان فن الرواية أصبح عقيماً لاستحالة فهم الآخر، فإنه لا يعبر عن موقف جمالي شائع فحسب، بل من دون ان يدري، يعبر عن بؤسه وعن محيطه ايضاً: فقدان الرغبة بفهم الآخر، عمى أناني تجاه العالم الحقيقي.
يعني اسلوب التورية التهكمية أنه لا يمكن أخذ أي وجهة نظر في الرواية في معزل عن غيرها، لأن كلاً منها يقف في تراصف معقد ومتناقض مع وجهات نظر اخرى، مع أوضاع وإشارات وحوادث اخرى. وربما القراءة البطيئة، لمرتين أو أكثر، تساعد على اظهار أواصر التورية التهكمية والتي من دون الكشف عنها تظل الرواية عسيرة على الفهم.
نوافذ
لا أحد يستطيع الذهاب أبعد من كافكا في "المحاكمة"، فهو خلق صورة شديدة الشعرية عن عالم لاشعري. وأعني ب"العالم اللاشعري" العالم الذي ليس هناك مكان فيه للحرية الفردية، لتميز الفرد عن غيره، وحيث الانسان ليس سوى أداة لقوى فوق انسانية، وهذه القوى هي البيروقراطية والتكنولوجيا والتاريخ. من جانب آخر ما أعنيه ب"الصورة شديدة الشعرية" هو ان كافكا من دون ان يسعى الى تغيير جوهر العالم وطبيعته اللاشعرية، استطاع ان يحول ويصوغ ذلك العالم وفق مخيلة شعرية هائلة.
ظل "ك" غارقاً تماماً في الورطة التي سببتها المحاكمة له، ولم يكن لديه أي لحظة ليفكر في شيء آخر غيرها، مع ذلك وحتى في هذه الورطة التي لا خلاص منها، كانت هناك نوافذ تفتح فجأة ولوقت قصير أمامه. ولم يكن بإمكانه الهرب من خلال هذه النوافذ، اذ انها تفتح كاملة ثم تغلق بسرعة، لكن للحظة واحدة كان بإمكانه، على الأقل، ان يرى شعرية العالم الخارجي، تلك الشعرية التي على رغم كل شيء، موجودة كاحتمال قائم ولا تكف عن ارسال بصيص متوهج الى حياته كانسان مطارد. على سبيل المثال: قبل وصول "ك" الى الشارع الذي يقع فيه مقر هيئة التحقيق، كان منغمساً في الركض لكي يبلغ البناية في الوقت المضبوط. لكن حال دخوله الشارع، نسي المحاكمة لثوان قليلة وظل يتلفت حوله: كانت معظم النوافذ مشغولة، حيث اتكأ عليها رجال يرتدون قمصاناً بأكمام، وهم يدخنون أو يضعون أطفالهم بعناية ورقة على عتبات النوافذ. أما النوافذ الأخرى فتكدست على حوافها الشراشف والأغطية، ومن وسط احدى النوافذ ظهر وجه امرأة شعثاء الشعر وللحظة واحدة"، ثم دخل "ك" الى البناية: "بالقرب منه كان رجل حافي القدمين، جالساً على سلة وهو يقرأ في صحيفة. شاهد طفلين يلعبان بعربة صغيرة، وفتاة هزيلة البنية، بملابس النوم، تقف جنب مضخة وتحدق في "ك" أثناء ملء انائها بالماء".
تذكرني هذه الجمل بأوصاف فلوبير: موجزة، غنية بصورها، تفصيلية، وخالية من الصياغات الجاهزة. هذه القوة في الوصف تكشف كم كان "ك" عطشاناً الى حقيقة الواقع. وكيف مضى في شرب العالم بشراهة، هذا العالم الذي كان قبل لحظة مسكوناً بمشاعر القلق حول المحاكمة. لكن هذا الانجراف في الواقع قصير جداً، ففي اللحظة التالية ما عادت عيناه تسابقان الفتاة الهشة القوام وهي تملأ إناءها بالماء، اذ يجره تيار التفكير الى المحاكمة مرة اخرى.
تمثل المشاهد الايروتيكية القليلة في الرواية نوافذ تفتح لفترات قصيرة جداً: لا يلتقى "ك" الا بالنساء اللواتي لهن علاقة بالمحاكمة، بشكل من الأشكال: على سبيل المثال، يخبر "ك" جارته الآنسة بورستنر التي اعتقل في غرفتها عما جرى، وفي الأخير، نجح في تقبيلها قرب باب حجرتها: "أمسك بها وقبلها من فمها، ثم لثم جميع أجزاء وجهها كحيوان عشطان راح يلعق بشراهة من عين ماء كان قد بحث عنها طويلاً". أنا أشدد على كلمة "عطشان" لوصف حال الانسان الذي فقد حياته المألوفة وما عاد بإمكانه التماس معها إلا عبر المخالسة، أي عبر نافذة.
في التحقيق الأول، وخلال إلقاء "ك" خطابه، ظهر مشهد غريب امامه أقصاه عن سلسلة أفكاره: كانت زوجة الحاجب جالسة في الغرفة، فجأة بدأ أحد الطلاب البشعين الهزيلين بممارسة الجنس معها على الأرض، وسط الحاضرين. مع هذين الحادثين المتنافرين والمدهشين وهذا ما تتميز به شعرية كافكا من لامعقولية وتنافر وتضخيم تنفتح نافذة اخرى على مشهد طبيعي بعيد عن اجواء المحاكمة، لتقحم شيئاً من السوقية المليئة بالحيوية والمرح، انها التعويض عن الحرية التي صودرت من "ك".
يذكرني الشعر الكافكوي في المحاكمة، برواية أخرى تدور ايضاً حول الاعتقال والمحاكمة، وأعني رواية "1984"، لأورويل، هذا الكتاب اعتبر لعقود مصدراً دائماً يرجع اليه المعادون للانظمة الاستبدادية. في هذا الكتاب الذي يرسم صورة خيالية رهيبة لمجتمع استبدادي، لا نجد نوافذ، ولا أي لقطة، لفتاة هزيلة البنية، تقوم بملء انائها بالماء. رواية اوريل قريبة جداً من الشعر، هل قلت رواية؟ انها في الحقيقة فكرة متنكرة بجسم رواية، من المؤكد ان الافكار فيها واضحة وصحيحة، لكن تشويهاً لحق بهذه الأفكار عندما وضعت في هيئة رواية فأصبحت غير دقيقة وملتبسة. وإذا كان الشكل الروائي يعتم على تفكير اورويل، فهل يقدم هذا الشكل الفني شيئاً آخر بالمقابل؟ هل يسلط هذا الشكل الفني الذي يتبناه أورويل لنقل أفكاره، الضوء على أسرار الوضع البشري الذي لا يستطيع علم الاجتماع أو السياسة الوصول اليه؟ كلا: الأوضاع والشخصيات التي ترسمها رواية "1984" مسطحة كلوحة "البوستر". ثم هل هناك مبرر يدفع الى نشر الافكار الجيدة عبر الرواية؟ جوابي هنا بالنفي أيضاً. والسبب ان الافكار المحولة الى رواية ينتهي وجودها كأفكار، بل تصبح، بدلاً عن ذلك، رواية - وفي حال رواية "1984"، فإنها تكون رواية رديئة، مع كل ما تسببه أي رواية رديئة من أضرار.
يكمن التأثير السيء لرواية "1984" في تقليصها المهول للواقع وجعله مقتصراً على البعد السياسي فقط، ثم في تقليص البعد السياسي نفسه الى ما هو سلبي فيه. أنا أرفض أن أسامح تقليصاً من هذا النوع للواقع بحجة انه كان دعاية مفيدة في النضال ضد شرور الانظمة الاستبدادية. اذ ان أكبر الشرور هو تقليص الواقع في الرواية الى سياسة، ثم تقليص السياسة الى دعاية، لذلك، وعلى رغم النوايا الطيبة وراء كتابتها، تمتلك رواية أورويل "1984"، روحاً استبدادية ايضاً. انها تقلص وتدفع الآخرين الى تقليص حياة المجتمع المقيت الى قائمة بسيطة من الجرائم.
عبر أحاديثي مع عدد من التشيكيين، بعد انتهاء الشيوعية بعام أو عامين، كان الكل يردد بطريقة طقسية صياغات جاهزة قبل البدء بالحديث عن ذكرياته: "بعد تلك الاربعين سنة من الرعب الشيوعي" أو: "تلك الاربعون سنة الفظيعة"، أو خصوصاً: "الاربعون سنة الضائعة". فأنظر إليهم: لم يُجبر أي منهم على الهجرة، ولم يسجن أي منهم، أو أُقيل من عمله، بل لم يعامل أي منهم بازدراء من رجال السلطة، جميعهم عاش في بلاده وجميعهم عاش حياته المهنية والعاطفية كاملة، لذلك عندما يستخدمون تعبير "الاربعين سنة الفظيعة" فإنهم يقلصون حياتهم الى البعد السياسي فقط. وحتى التاريخ السياسي لهذه الاربعين سنة - هل عاشوها كقطعة واحدة من الرعب؟ هل نسوا تلك السنوات التي كانوا يشاهدون فيها أفلام ميلوس فورمان، ويقرأون كتب بوهوسلاف هاربال، أو يذهبون الى المسارح المتمردة الصغيرة، ويحكون مئات من النكات ساخرين، بروح مرحة، من النظام؟ بوصفهم للاربعين عاماً بالفظاعة، يتحولون جميعهم الى "أورويليين"، وتتحول حياتهم السابقة الى شيء لا قيمة له، أو غير موجودة أربعون عاماً ضائعة.
حتى عند فقدانه المتطرف حريته، يستطيع "ك" في المحاكمة ان يمعن النظر بتلك الفتاة الهزيلة الجسم، وهي تملأ إناءها بالماء. قلت أن لحظات من هذا النوع هي نوافذ تنفتح على مشهد طبيعي بعيد جداً عن محاكمة "ك". ما هو هذا المشهد الطبيعي؟ لجعل المجاز دقيقاً: النوافذ في رواية كافكا تنفتح على مشهد طبيعي قائم في عالم تولستوي الروائي: وفي ذلك العالم، حتى خلال تلك اللحظات شديد القسوة، بإمكان الشخصيات ان تمتلك حريتها في اتخاذ قرار ما يمنح الحياة سعادة غير مخطط لها، وهذه الحرية مصدر الشعر. يقف عالم تولستوي، شديد الشعرية، في طرف معاكس لعالم كافكا. مع ذلك، فبسبب تلك النوافذ نصف المفتوحة في "المحاكمة" يتبنى عالم تولستوي قصة كافكا ويدخلها الى شعابه، نبضة توق، نسيماً مضمخاً برائحة الشعير.
محكمة ومحاكمة
يحب الفلاسفة الوجوديون ان يبثوا مغزى فلسفياً في الكلمات المستعملة بشكل يومي، وهذا ما يجعلني عاجزاً عن استخدام كلمات مثل "قلق" أو "كلام" من دون التفكير بالمعنى الذي منحه هايدغر لهاتين الكلمتين. ويبدو ان الروائيين سبقوا الفلاسفة في هذا الميدان. اذ بتقصي أوضاع ابطالهم اضطروا الى الاشتغال على مفردات كل شخصية روائية، وغالباً يكون التركيز على الكلمات الرئيسية التي تصبح مفاهيم خارج تعريفات المعاجم اللغوية. لذلك يستعمل كريبليون كلمة "اللحظة" للاشارة الى ملاحقة النساء لحظة الاقتناص عندما تكون المرأة مهيأة للاغواء ليورثها من بعد الى أبناء عصره والى أجيال الكتاب اللاحقين. بالطريقة نفسها، تعامل دوستويفسكي مع كلمة الإذلال. أما ستندال فاشتغل على مفردة الاعجاب بالذات، وبفضل رواية "المحاكمة" أورثنا كافكا مفهومين اصبحا ضروريين لفهم عالمنا المعاصر: محكمة ومحاكمة. والقول انه أورثنا هاتين المفردتين يعني انه تركهما لنا كي نستعملها، عبر اعادة النظر فيهما بالشكل الذي يتوافق مع تجاربنا الشخصية.
محكمة: لا تدل هذه المفردة على المؤسسات القانونية التي تقوم بعقاب الافراد الذين خرقوا قوانين الدولة، المحكمة لدى كافكا هي القوة التي تحاكم، وهي تحاكم لأنها قوة، وهي بفضل قوتها فقط تكون قادرة على منح الشرعية لنفسها، عندما اقتحم المتطفلان غرفته، أدرك "ك" منذ الوهلة الأولى تلك القوة فاستسلم لهما.
المحاكمة التي تجريها المحكمة دائماً ذات طابع مطلق، وهذا يعني بأنها غير معنية بقضية ما، بجريمة معينة سرقة، احتيال، اغتصاب، بل هي معنية بشخصية المتهم بشكل كلي: يبحث "ك" عن جريمته في "أصغر الحوادث" التي وقعت في كل حياته، ووفق معايير عصرنا فإن بيزخوف بطل الحرب والسلم يحاكم مرتين: لحبه نابليون ولكرهه اياه لاحقاً. اضافة الى محاكمته بسبب ادمانه على الشرب، اذ ان المحاكمة معنية بالحياتين الخاصة والعامة للفرد، حكم ماكس برود صديق كافكا على البطل "ك" بالموت لأنه كان ينظر الى النساء كموضوع للجنس فقط.
اتذكر محاكمات 1951 في براغ، تم توزيع سير المتهمين الذاتية بشكل واسع، للمرة الأولى قرأت نصاً خلاعياً: وصفاً لحالة تهيج جنسي يقع بعد تغطية جسد متهمة معراة بالشكولاته في وقت كانت هناك أزمة شوكلاته! ليقوم متهمون آخرون بلعقه، كل ذلك يحدث قبل تنفيذ حكم الاعدام بهم، في بداية السقوط التدريجي للايديولوجية الشيوعية افتتحت محاكمة كارل ماركس هذه المحاكمة التي تُوجت أخيراً بقلع كل تماثيله من روسيا ومن بلدان أخرى بهجوم على حياته الخاصة أول كتاب معاد لماركس اقرأه في حياتي يتضمن وصفاً لعلاقته الجنسية بخادمته، في روايتي "المزحة" يحاكم ثلاثة طلاب لودفيك بسبب جملة كتبها ضد صديقته، واذ يتذرع بأنه كتبها بسرعة من دون تفكير بمعناها، أجابه الثلاثة: "ليس بإمكانك ان تكتب أي شيء سوى ما هو موجود في داخلك"، لأن كل شيء يردده المتهم أو يفكر به وأي شيء يخفيه في داخله يجب ان يكون تحت تصرف المحكمة. إضافة الى ذلك، فالمحاكمة هي مطلقة ايضاً، لا تتوقف عند حدود حياة المتهم، لذلك نجد عم "ك" يقول له: "هل تريد ان تخسر هذه المحاكمة؟... ذلك يعني انك ستتحطم كلياً، أنت وكل أقاربك معك".
على رغم اتساع ذاكرة المحاكمة الهائل، لكنها تظل ذاكرة من نوع شديد الخصوصية، اذ يمكن تعريفها بأنها نسيان كل شيء الا الجريمة لذلك فالمحاكمة تقلص سيرة المتهم الى ملف واحد يتعلق بجريمته، يرجع فيكتور فارياس يعد كتابه "هايدغر والنازية" مثالاً ساطعاً على تقليص السيرة الذاتية الى ملف الاجرام جذور الفيلسوف النازية الى فترة الشباب المبكر، من دون اي اهتمام في البحث عن جذور عبقريته، لمعاقبة شخص متهم بالانحراف العقائدي، تقوم المحاكم الشيوعية بمنع جميع أعماله على سبيل المثال، شمل المنع كتب لوكاش وسارتر، بل وحتى كتاباتهما القريبة الى الشيوعية.
حتى قبل وصول الرجلين لاعتقاله، يشاهد "ك" المرأة الساكنة في البيت الواقع عبر الشارع، وهي تحدق فيه "بفضول شديد الغرابة"، لذلك، منذ البدء يدخل البوابون طرفاً في اللعبة، لم تكن أمالياً في رواية "القلعة" متهمة أو محكوماً عليها، لكن الكل يعرف انها ممقوتة من المحكمة اللامرئية، وهذا كاف كي يتجنبها سكان القرية، والسبب يعود الى انه اذا فرض نظام المحاكمة على كل البلاد، فإن جميع السكان سيفسرون للانضواء ضمن اليات المحاكمة، وهذا ما يزيد كفاءتها بمئات المرات، فكل شخص يعرف ان من الممكن ان يتهم هو نفسه في أي لحظة، لذلك عليه ان يهيئ نقده الذاتي مسبقاً، النقد الذاتي: خضوع المتهم للمتهم، نبذ الفرد لذاته، وسيلة لامحاء الذات المتميزة، بعد ثورة 1948 الشيوعية في تشيكوسلوفاكيا، شعرت ابنة احدى العائلات الثرية بالذنب للامتيازات التي كانت تتمتع بها، وللتعبير عن توبتها، اصبحت شيوعية شديدة الاخلاص، الى درجة أنها تخلت عن أبيها، والآن بعد اختفاء الشيوعية، تعيش في داخلها محاكمة أخرى، ومرة اخرى تشعر بالذنب، مسحوقة بين مجرشتي محاكمتين، بين نقدين ذاتيين، وكل ما بقي لديها هو أرض قفر لحياة منبوذة، على رغم استرجاعها كل البيوت التي صودرت من أبيها بعد الثورة، وهي اليوم مجرد كائن ممحو، ممحو لمرتين.
وفق رؤية كافكا، فإن هدف المحاكمة ليس تحقيق العدالة بل إفناء المتهم، ومثلما قال ماكس برود: ذلك الذي لا يحب أحداً، والذي لا يقوم إلا بالتسلي، يجب ان يموت، لذلك طُعن "ك" في قلبه، وأُعدم بوخارين. حتى عندما تقام المحاكمة لأناس ميتين فالهدف منها هو قتلهم ثانية: بإحراق كتبهم، بحذف اسمائهم من الكتب المدرسية، بتحطيم تماثيلهم، بتبديل اسماء الشوارع التي حملت يوماً اسماءهم.
ترجمة: لؤي عبدالإله


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.