في كتابيه المعنونين "صناعة الإجماع" و"أوهام ضرورية"، ينتقد المفكر الاميركي نعوم تشومسكي سيطرة أجهزة الاعلام والصحافة الاميركية على الاراء والمعلومات التي تبث وتنشر، وذلك بهدف تقييد التعددية الفكرية حول القضايا الخارجية. ويقول "نحن نعيش مقيدين في شباك من الخداع الذي لا ينتهي، في مجتمع ملقن بالآراء المسموح بها وبالأفكار القابلة للطرح، وهو مجتمع تدفن فيه الحقائق بمنهجية". ومن الامثلة الصارخة في هذا الصدد، قضية قصف السلاح الجوي الاسرائيلي للسفينة الاميركية "ليبرتي" إبان حرب حزيران يونيو 1967 ومقتل 34 من بحارتها، وهي قضية غير مسموح إطلاقاً بتداولها في أي جهاز إعلامي أميركي. كما تلجأ اليهما الحكومات بدرجات متفاوتة لتوجيه الأفكار في اتجاه واحد يتواءم مع المصلحة كما تراها المؤسسة الحاكمة. بتعبير آخر، فإن الترويج لفكرة معينة وتزيينها للعقول - بغض النظر عن سلاسة او فساد منطقها - يتطلب ليس فقط اختلاق أوهام ضرورية لتحقيق الإجماع حولها، ولكن يتطلب ايضاً تهميش الإرادة المخالفة مع سحق أصحابها إن أمكن ذلك. وتأتي "العملية السلمية"، المستندة الى إملاء القوى وإذعان الضعيف، على رأس الأفكار التي تسعى قوى الغرب لتحقيق الإجماع حولها في المنطقة العربية حيث فشل خداع المحبك - مع استثناءات قليل - في تخفيف آلام الذاكرة او النيل من التزامات العقيدة. وما تزال المقاومة للاحتلال والتطبيع داخل وخارج الارض المحتلة هي مصدر التشويش الرئيسي المعرقل لتعميم الإذعان، وهو أمر يصعب الإذعان، وهو أمر يصعب على الاميركيين الصبر عليه خصوصاً بعد انتخاب أيهود باراك و تدشين محادثات الوضع النهائي التي يراد لها ان تنتهي بإنجاز تاريخي لكلينتون قبل رحيله عن البيت الابيض. وعلى رغم أن عمليات "حماس" الاستشهادية متوقفة منذ عامين، إلا أن الحملة ضد المقاومة الإسلامية لم تتوقف، بل ازدادت شراسة مع زيارة وزيرة الخارجية الاميركية الاخيرة للمنطقة، مما يشير الى رغبة في تجفيف ينابيع المقاومة بإخضاع رأسها، على أمل أن يؤدي ذلك الى تسليم ورضوخ الاغلبية الرافضة لسلام إسرائيل، داخل فلسطين وخارجها، وبالتالي تصبح الارض ممهدة. يرجع رفض "حماس" المشاركة في حوار مع السلطة على أساس اتفاق اوسلو، الى ثلاثة أسباب: اولاً اعتبارها أن الاتفاق أضفى شرعية على احتلال 77 في المئة من مساحة فلسطين. ثانياً أن الدعوة للحوار تأتي مشروطة ب"نبذ العنف" كما جاء على لسان أحد وزراء السلطة اخيراً، وهذا منكر آخر تحتاط "حماس" من ان تستدرج اليه حتى لا تستكمل عملية حرق ورق المقاومة التي بدأتها السلطة في أوسلو. ثالثاً دعوة مسؤولي السلطة "حماس" الى تشكيل حزب معارض يشارك في محادثات الوضع النهائي، والتي تبدو كخطوة اخرى في محاولة توريط الفصائل الفلسطينية في المشاركة في تقديم آخر التنازلات، خصوصاً أن هناك من هذه الفصائل من وافق على المشاركة أو على تقديم الاستشارة والنصيحة. إن هذا الإجماع الذي يتمناه الاميركيون وتتلهف السلطة على تحقيقه، يتزامن مع قبول عدد من رموز وأجنحة منظمة التحرير بمحاورة السلطة والعودة المشروطة الى الداخل، كما يتزامن مع الحملة ضد "حماس" ومؤيديها في الاردن، وضد الحركة الإسلامية في اسرائيل. وبعد أن كانت "حماس" تسعى الى تغيير المنكر بكل الوسائل الممكنة، تجد نفسها الآن مطالبة بالمشاركة فيه. فقد سعت حركة المقاومة الى تغيير منكر الاحتلال باليد، فأوقفها تعاون السلطة مع الاستخبارات الاميركية والاسرائيلية، وما ادى اليه من استشهاد كبار قادتها العسكريين. وسعت الى التغيير باللسان فأوقفتها تهمتا "التحريض على الإرهاب" و"ازدراء السلطة"، وهي الذرائع التي على خلفيتها يقبع عند قيادات حماس في سجون السلط الآن. واخيراً تجد حماس انه غير مسموح لها حتى بتغيير المنكر بالقلب اي بعدم المشاركة فيه، وان دخولها في حوار مع قيادات لا تمارس ألف باء الديموقراطية، فضلاً عن احتكار صنع القرار، هو الثمن الذي عليها تسديده في مقابل رفع الضغوط عنها وإطلاق سراح أسراها في سجون المنطقة. تتزامن الحملة على حماس ايضاً مع حملة ديبلوماسية صارمة على سورية لقبول "التفاوض غير المشروط"، أي بتنازلها عن مطالبة اسرائيل إعلان نية الانسحاب الكامل من الجولان، ومع حملة اميركية فرنسية على لبنان لقبول توطين اللاجئين الفلسطينيين، ومع حملة نفسية تستهدف إعداد العالم لقبول القدس كعاصمة لإسرائيل، والتي بدأت في معرض إسرائيل في "القرية الألفية" التابعة لمؤسسة "ديزني" والمستمرة حتى نهاية هذا القرن. لقد نجح الخداع المحبك في مدريدوأوسلو في تحقيق إجماع على فكرة القطرية، أي أن ينشغل كل قطر عربي بنفسه ويترك حل قضايا العرب ل "الوسيط النزيه"، وهو ما أدى الى استفراد هذا الوسيط وحلفائه بالعصاة المارقين. وبغض النظر عن مدى قدرة هؤلاء العصاة على الصمود أمام الضغوط، وبافتراض نجاح مبدأ "العصا لمن عصى" موقتاً في إكراه القادة على الرضوخ للاحتلال والتطبيع، فالمؤكد انه لا العصا ولا الضغوط يمكن أن تنال من القلوب المطمئنة بعدالة قضيتها بل على العكس تزيدها غضباً وإصراراً على تغيير المنكر وصبراً عليه وتربصاً به مهما طال الأمد. * كاتب مصري.