إذا كان المنطق الذي يحكم المفاوضات الجارية بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية هو قدرة إسرائيل على إملاء شروطها، لأنه لا يوجد مبدأ متفق عليه بين الطرفين تستند المفاوضات إليه، الأمر الذي يترك هذه المفاوضات فريسة لموازين القوى. وإذا لم يكن متوقعاً في المرحلة الراهنة أن يعدل تدخل الولاياتالمتحدة موازين القوى أو يوازن قدرة إسرائيل على املاء موقفها، يجب الاستنتاج أنه لا يتوقع على المدى القريب حل عادل ودائم للمسألة الفلسطينية. وعلى الدول العربية والسلطة الفلسطينية أن تكيّف نفسها مع هذه الحقيقة. هذا يعني تعديلاً في المزاج السياسي العربي المتأهب منذ بداية التسعينات لحل قريب أو مستعد لسلسلة من مبادرات النيات الحسنة والتنازلات من أجل الوصول إلى هذا الحل. ويعني هذا الكلام فلسطينياً العودة إلى ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي وترتيب العلاقات مع الدول العربية، وترك مسألة الحل الدائم للمسألة الفلسطينية للأجيال المقبلة تحسمه ربما لطرح حلول من نوع آخر، وعدم التوقيع على أي حل دائم يتم عرضه ضمن موازين القوى الحالية. لماذا نقول ذلك؟ لأن أي دراسة معمقة لإصطفاف المواقف في إسرائيل على المدى القريب يثبت أن هناك اجماعاً قومياً إسرائيلياً تجري تحت سقفه المفاوضات مع الفلسطينيين، ويتفق على خطوط هذا الاجماع الأساسية كل من الحكومة الحالية وأي حكومة مقبلة حتى لو شكلها حزب العمال: 1 لا للإنحساب الكامل إلى حدود الرابع من حزيران يونيو. 2 لا تفكيك للمستوطنات. 3 لا لشراكة في السيادة على القدس. 4 لا لدولة كاملة السيادة على الأرض والمياه الجوفية والجو والحدود مع العرب. 5 لا حل لمسألة اللاجئين بعودتهم. والنقاش بين العمل وليكود يدور عملياً في ظل هذه اللاءات الخمس، ويشمل مساحة السلطة الفلسطينية، أو الحكم الذاتي، أو الدولة كتسمية للكيان الفلسطيني الناشئ تحت سقف هذه اللاءات، كما يشمل حجم صلاحيات السلطة الفلسطينية. بالنسبة إلى الفلسطينيين، هذا النوع من النقاش يتعلق بالمرحلة الانتقالية، أما بالنسبة إلى الإسرائيليين فهو نقاش حول الحل الدائم. هل تستطيع السلطة الفلسطينية أن توقع على حل دائم لا يشمل إزالة الاستيطان أو لا يشمل القدس مثلاً؟ الإجابة التلقائية التي تسمع هي طبعاً بالنفي. ولكن المزاج السياسي الفلسطيني مهيأ للاستمرار وللتمني أنه سيكون في الامكان توقيع حل دائم مع حكومة حزب العمل مثلاً. وهذا وهم خطير يلزمه وضع خطوط حمر هي خطوط الاجماع الوطني الفلسطيني مقابل الاجماع الإسرائيلي. الظروف لذلك ناضجة وحسم الموقف بالقوة أو بالغالبية على المستوى الداخلي الفلسطيني لن يؤدي إلى تغيير في الاجماع الوطني الإسرائيلي في هذه المرحلة ولا بقدرة إسرائيل على املائه. إضافة إلى ذلك، لا داعي للعجلة خوفاً من أن تضيع "الانجازات" التي تم تحقيقها. ومن الأفضل تركيز كل الجهود العربية والدولية المتضامنة في الضغط على إسرائيل لتنفيذ التزاماتها الموقعة، وهو نقاشم قائم فعلاً بين العمل وليكود وفي الامكان شق الاجماع الوطني الإسرائيلي حوله، وإلى أن يتم ذلك لن تخسر السلطة شيئاً. أولاً، لأنها تستطيع تجنيد دعم عربي وتعاطف دولي متزايد حول إصرارها على تنفيذ الاتفاقات. وثانياً، لأنه لا يوجد سياسي عاقل واحد في إسرائيل يدعو إلى العودة إلى احتلال غزة ونابلس وغيرها، فما تحقق تحقق، والمطلوب الآن الإصرار بحزم عن تنفيذ الالتزامات ورفض توقيع حل دائم لا يتضمن الخطوط الفلسطينية الحمر. ومن الأفضل في هذا السياق عدم فتح قنوات تفاوض سرية حول الحل الدائم، لأنه قد يتم في مثل هذه القنوات السرية تقديم تنازلات على شكل اجتهادات، يصبح من الصعب التحرر منها لاحقاً. لن تقوم الولاياتالمتحدة الأميركية بتعديل موازين القوى المترجمة في عملية التفاوض لمصلحة الفلسطينيين، والمثال الأخير على ذلك هو أيضاً الدرس الواضح الذي لا يحتمل التفسير على وجهين. فقد وافقت السلطة الفلسطينية عملياً على المبادرة الأميركية لإعادة الانتشار الثانية، هذه المبادرة التي لا تزال الإدارة الأميركية ترفض نشرها. وقامت إسرائيل برفض المبادرة عملياً وهي تعد الآن بدائل إسرائيلية لها. هذا يعني أن الموقفان الفلسطيني والأميركي هما عملياً الموقف نفسه في هذه اللحظة. ومع ذلك تصر الولاياتالمتحدة مرة أخرى على ايفاد دنيس روس للتوسط بين الطرفين، أي طرفين؟ الطرف الفلسطيني يتبنى الموقف الأميركي، وعلى الولاياتالمتحدة أن تقرب إسرائيل من هذا الموقف. ولكنها ستضغط على الفلسطينيين لتعديل موقفهم، وهو موقفها. هذا هو العبث الديبلوماسي في حد ذاته. هذه هي لعبة المفاوضات الحالية، ومثل هذه اللعبة لن توصل إلى حل دائم وعادل وثابت - هنا علينا الانتظار والتريت - وليس لإشاعة التفاؤل ولا لصبغ المستقبل باللون الوردي، نقول إن الزمن ليس لمصلحة نتايناهو ولا لمصلحتنا - المهم ما يفعله كل طرف في هذه الأثناء. والمعطيات ليست كلها سلبية، مثلاً إذا لم تحل المسألة الفلسطينية، سيكون الفلسطينيون غالبية في الجيل المقبل، خصوصاً إذا جمعنا فلسطينيي 48 مع فلسطينيي 67. ونحن نشكل الآن سوية 4 ملايين فلسطيني في الداخل أي أقل بنصف مليون فقط من اليهود الإسرائيليين. ليس هذا مدعاة للتفاؤل ولكنه أساس ما للانطلاق إلى العمل. حتى لو لم يوقع الفلسطينيون على الحل الدائم، فهناك خيارات أخرى في المستقبل. المهم هو العمل وأول العمل هو ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني مؤسساتياً وديموقراطياً، ومن ضمنه الأزمة الأخيرة مع حركة "حماس". ليس صراع الروايات، بل ما وراءها مهما كانت الدوافع والأسباب الداخلية والخارجية لتفجر الأزمة الأخيرة بين السلطة الفلسطينية وحركة "حماس"، فإن الموقف الوطني والقومي يتطلب حل هذه الأزمة بالطرق الديموقراطية بأسرع وقت ممكن قبل تفاقمها. فما يبدو للعين المجردة هذه المرة هو شرخ حقيقي في المجتمع السياسي الفلسطيني، قد يؤدي إلى نتائج لا تحمد عقباها. فالموضوع ليس مجرد خلافات في الرواية حول مقتل محيي الدين الشريف، وإنما هنالك في الطرفين من يشك في ما وراء رواية الطرف الآخر. السلطة الفلسطينية تصر على أن موضوع مقتل الشريف هو موضوع داخلي في حركة "حماس" من حيث أسبابه، إذ لا علاقة لإسرائيل بالموضوع، وقد تكون هنالك قوى اقليمية أخرى من ورائه، أو قضايا مال وتمويل، والله أعلم! ولكن الأسباب الداخلية لا تعني أن النتائج داخلية، فاسقاطات استشهاد محيي الدين الشريف مثل استشهاد يحيى عياش، تمس الأمن القومي الفلسطيني، ولذلك تصر السلطة على أن الموضوع ليس موضوعاً داخلياً في حركة "حماس"، وأن على السلطة أن تصل إلى الحقيقة وعلى حركة "حماس" أن تتعاون مع السلطة في الوصول إلى الحقيقة. ولكن تبقى قضية واحدة غير محلولة في منطق رواية السلطة، وليس في تفاصيلها، فالتفاصيل والحقائق عرضة للطعن والمناقشة من جانب حركة "حماس" ومن جانب الادعاء والدفاع في أية محكمة مقبلة. القضية المنطقية غير المحلولة هي: لماذا يتم التركيز على موضوع اختراق "حماس" في الوقت الذي يُدّعى ان الموضوع خلاف داخلي، وكيف تكون إسرائيل بريئة إذا كان هناك اختراق؟ من ناحيتها، تؤكد حركة "حماس" أن لديها رواية مناقضة لرواية السلطة تبدأ من أن هوية القاتل غير معروفة، مروراً بتفاصيل عديدة مخالفة، بل مناقضة لرواية السلطة، وصولاً إلى الاستنتاج المبني على واقع القتل، وهو أن رأس محيي الدين الشريف كان مطلوباً وبحدة من جانب الولاياتالمتحدة وإسرائيل في علاقاتها الأمنية بالسلطة الفلسطينية. من غير المفيد ولوج التفاصيل في مقال صحافي، ومن دون أدوات كافية للتحقيق والتحقق، وهذه في العادة وظيفة الادعاء العام، ثم لائحة الاتهام، ثم القضاء في الدولة الديموقراطية يرافقها نشاط الرأي العام. ولكي لا يتحول نشاط الرأي العام إلى عملية انتاج الاشاعة، يجب أن يستند إلى افتراض عملية تحقيق ذات حد أدنى من النزاهة والرغبة الصادقة في الوصول إلى الحقيقة. أما إذا غابت الثقة في عملية تحقيق نزيهة، فلن يكون ممكناً وقف آلية انتاج الاشاعات والاشاعات المضادة. ومن المفيد في هذه المرحلة التركيز على القضية السياسية أو على الخلاف السياسي الذي يحرك السلطة الفلسطينية وحركة "حماس"، باعتباره العامل الأهم في تحديد مجريات الصراع بينهما. السلطة الفلسطينية تطالب حركة "حماس" باحترام وحدانية السلطة، بما في ذلك احترام التزامات السلطة الدولية وأهمها اتفاق أوسلو والالتزامات الأمنية المرتبطة به. وحركة "حماس" معترفة بالسلطة، ولا تنافس على السلطة أصلاً، ومستعدة للتنسيق مع السلطة القائمة، ولكنها غير مستعدة للاعتراف بالاتفاقات التي قامت على أساس إعلان المبادى في أوسلو، ولا احترام التزامات السلطة الأمنية بشكل عام ومطلق. والسؤال الاستراتيجي الذي لا بد من طرحه على طرفي الصراع: ما هو الأهم في هذه المرحلة التي يمر بها الشعب الفلسطيني، بما في ذلك السلطة، احترام أو عدم احترام الاتفاقات أم الوحدة الوطنية؟ هذا سؤال كبير وغير مفروغ منه. فلو كان هناك أمل في زعزعة الاجماع الوطني الإسرائيلي على لاءاته، لكان هناك ما يبرر براغماتياً منطق السلطة تفضيل التزامات أوسلو الأمنية على الوحدة الوطنية. بمعنى أنه لو كان الانسحاب الإسرائيلي بمتناول اليد، ولو كان هناك استعداد إسرائيلي لتفكيك المستوطنات في مرحلة ما ولقبول دولة فلسطينية كاملة السيادة على الأرض ولبعض التنازل في قضية القدس وغير ذلك، لكن هنالك منطق ما في حسم الموقف فلسطينياً بالوسائل التي تتبعها عادة الدول ضد من يخرج عن قراراتها في قضايا السياسة الخارجية والأمن. وما دام كل ما ذكر غير وارد في المرحلة التاريخية التي نمر بها، فلماذا لا تقوم السلطة بتبديد مخاوف "حماس" من أن هنالك في السلطة من يريد تصفيتها، الأمر الذي يجعل حركة "حماس" تحمّل رواية السلطة حول مقتل محيي الدين الشريف معاني أعمق مما يبدو على السطح؟ هذا من ناحية السلطة، أما من ناحية حركة "حماس"، فما دامت العمليات الانتحارية التي تقوم بها هذه الحركة تأتي بنتائج معكوسة مقارنة بعمليات المقاومة اللبنانية، إذ أنها تجمع الرأي العام الإسرائيلي مع الحكومة اليمينية، بدلاً من تأليبه عليها، فلماذا لا تفضل الوحدة الوطنية على هذا النوع من العمليات تحديداً؟ هذه الأسئلة موجهة إلى السلطة وحركة "حماس" بالدرجة نفسها، ولكن تبقى قضية التمييز بين السلطة، أي سلطة، وبين حركة جماهيرية مهما اتسعت جماهيريتها. السلطة واحدة أما الحركات فمتعددة، ومن بينها حركة "فتح" و"حماس" وغيرهما من الفصائل، ويجب الفصل بين الأمرين، ولكن ما دامت السلطة واحدة فعليها إذاً ان تتحمل مسؤولية الاعتقالات الإدارية من دون محاكمة ووسائل التحقيق غير المشروعة في بعض الحالات، واعتقال القيادة السياسية لحركة "حماس" من دون تقديم لوائح اتهام. كما عليها أن تتحمل النقد الموجه إليها بهذا الخصوص، وأن تجيب عليه. فهي، أي السلطة الواحدة، هي أيضاً الوحيدة القادرة على سجن معارضيها من دون محاكمة، وهي أيضاً العنوان للمطالبة بالشفافية والرقابة والمساءلة والمحاسبة واحترام حقوق الإنسان والمواطن، حتى لو كان معارضاً. فلماذا لا نبدأ بذلك وبوقف الحملات الاعلامية لكي تنشأ الثقة اللازمة لعبور هذه الأزمة بسلام؟