في كل مرة تحدث فيها أزمة سياسية، داخل هذا الحزب او ذاك، تسعى اطراف النزاع في هذه الأزمة الى اضفاء الشرعية والموضوعية على مواقفها بالتأكيد على ان الهدف الأساسي دائماً هو دفع العملية السياسية ووضع الأمور في نصابها. الا ان هذه المحطة، التي لا بد منها داخل الأحزاب، لا تلبث ان تدفع قطارات الأزمة في اتجاهات متباينة، وربما الى غير رجعة! وقد حصل هذا مؤخراً في حركة الاشتراكيين العرب في سورية التي يتزعمها عبدالغني قنوت احد المرافقين البارزين لمسيرة اكرم الحوارني حتى اواخر الستينات، وواحد من مؤيدي الحركة التصحيحة في سورية، منذ عام 1970. فما الذي حصل في هذه الحركة، وما هي الدوافع الرئيسية لها كما عبّر عنها اصحابها، وما الذي تعنيه في خارطة الأحزاب والقوى السياسية في سورية؟! ان المتتبع للنشاط السياسي والتنظيمي لحركة الاشتراكيين العرب في سورية يلاحظ ان آخر مؤتمر عام انعقد في اواسط العام 1993 اي قبل اكثر من ست سنوت، وان هذه السنوات الست شهدت مستجدات كثيرة وهامة على اكثر من صعيد سواء في الشأن السياسي الدولي أم في انعكاساته على الساحتين العربية والمحلية. ومع غياب مثل هذا المؤتمر تراجعت وتيرة الاجتماعات البديلة على مستوى اللجنة المركزية التي فقدت عدداً من اعضائها نتيجة الوفاة، ومرض أمينها العام عبدالغني قنوت مرضاً صعباً نتيجة اصابته بآفة في الشرايين حدّت من نشاطه وفعاليته المميزة والمعروفة عنه في الحركة. وفي الشهور الأخيرة، اخذ تيار تنظيمي واسع يعبر عن نفسه، من خلال تسليط الضوء على واقع الحركة وأزمتها، ثم دعا الى القيام بفعل تصحيحي يأتي من خلال عملية النقد والنقد الذاتي والدور التاريخي للأمين العام. وفي اواسط ايار مايو الماضي عبّر هذا التيار عن نفسه بمذكرة شديدة اللهجة وجهت الى قنوت، ونشر جزء منها في صحف عربية، فأثارت لغطاً وجدلاً في الحركة السياسية في سورية، ودار على هامشها حوار هام يتعلق بالعديد من المحددات السياسية والتنظيمية. لقد وقّع على هذه المذكرة المؤرخة في 15 ايار كل من: ماجد عزو الرحيباني وهو وزير عن الحركة في الحكومة السورية منذ سبع سنوات 2 - الكاتب المعروف حمدان حمدان 3 - المحامي محمد هلال السعودي 4 - عدنان شداد. وجميعهم من اعضاء المكتب السياسي ويشكلون اقلية هامة فيه، لها امتداداتها داخل اللجنة المركزية وبقية التنظيم. وتحدث هؤلاء في مذكرتهم عن ازمة خاصة تعيشها حركة الاشتراكيين العرب، وعن اخطاء في الأداء الديموقراطي التنظيمي، ورأوا ان المواقف السياسية لحزبهم غدت من كبريات المعضلات في تطور هذا الحزب السياسي، فغابت المواقف الفكرية والسياسية والاعلامية عن قضايا جوهرية "كفلسفة السلام مع اسرائيل، والعدوان المتوالي على العراق، واستراتيجية الضرب المفتوح لجنوب لبنان، وحصار ليبيا ومشكلة لوكربي، وضرب السودان، والحركات الأصولية في الوطن العربي، والتهديدات التركية لسورية، ومشكلة الأكراد…". وكعمل اجرائي دعا هؤلاء الأربعة الى استدعاء المكتب السياسي لمناقشة كل ذلك، وتعيين موعد لاجتماع اللجنة المركزية. ونفوا ان تكون مذكرتهم بمثابة حالة انشقاق، وانا هي دعوة للحوار. وما ان وزعت هذه المذكرة، حتى هوجمت من قبل كثيرين، واعتبرها البعض نوعاً من استغلال مرض الأمين العام، الذي ربما لم يكن قد اطّلع عليها. ورأى آخرون ان اصلاح اوضاع وأحوال الأحزاب مسألة في غاية الأهمية، وطُرحت ايضاً مسألة حجم اصحاب هذه المذكرة والأهداف الحقيقية لخطوتهم هذه. ولم تبحث بشكل جدي المسائل التي عالجتها المذكرة، وانما طُرح سؤال ذو معنى يقول: "هل بضعة اشخاص هم القاعدة؟!". ولحسم مثل هذا الجدل، بادر حمدان حمدان بعد شهر واحد تقريباً، وبمشاركة محمد هلال السعودي الى تقديم استقالتيهما من الحركة. وقال حمدان حمدان: "ليس ثمة حل امام هذا المشهد المضطرب سوى ان يخلي الواقع البائس الساح لواقع مرتجى غيره…". وبدا ان الأمور توقفت عند هذا الحد، لولا مذكرة التضامن الاخرى التي وجهتها شريحة مهمة من الكادرات الى عبدالغني قنوت، أعلن فيها بعض اعضاء اللجنة المركزية والمؤتمر العام الانضمام الى "اولئك الأحرار من قياديي الحركة الأربعة" ومن ثم الانسحاب من حركة الاشتراكيين العرب! وعلى رغم كل هذه التطورات نفى الأعضاء المنسحبون سواء كانوا قياديين ام اعضاء عاديين اية نية بتشكيل حالة سياسية جديدة، او اعلان حركة انشقاقية. بل رأى احد القياديين ان مآل الاشتراكيين العرب المتبقين هو الانضمام الى جناح عبدالعزيز عثمان الذي ظهر قبل اعوام ويحمل الإسم نفسه. لقد أوحت هذه الوقائع التي حدثت خلال الشهور الثلاثة الاخيرة، بمجموعة تساؤلات على الشارع السياسي في سورية، فهل يمكن اعتبار ما حصل بمثابة ازمة فكرية سياسية تنظيمية؟ وهو سؤال يطرح مع كل حوار او اشكال ساخن في كل حزب. فاذا بحثنا في الجانب الفكري والسياسي نكتشف انه لا يوجد اي خلاف فعلي بين الطرفين بل ان المنسحبين اخذوا على قيادة الحركة عدم طرح مواقف سياسية او تحليلات فكرية تجاه المستجدات الهامة. وتنحصر المسألة في النهاية بنقاط تنظيمية تتعلق ب: 1 - عدم احترام النظام الداخلي بشكل عام 2 - تجميد الهيئات وحصر الصلاحيات بمجموعة قليلة حول الأمين العام لا يرضى عنها الآخرون 3 - عدم عقد المؤتمر العام. وفي واقع الأمر، اخذت الحركة على المنسحبين خرق النظام الداخلي، بنشر الخلافات الداخلية الى العلن، وعدم خضوع الأقلية للأكثرية، بالاضافة الى الاتهامات التي قيلت بشأن استغلال مرض الأمين العام. اما الجناح الآخر في الجبهة الوطنية، الذي يقوده المهندس غسان عثمان، فيسجل له التصرف الدقيق حيال ما حصل، حيث لم تتدخل كوادره بأي تطور من تطورات الأزمة، مستندة الى قرار قديم جديد، هو: لا تدخل ولا تأييد.. وقام غسان عثمان في خطوة هامة بزيارة الزعيم التاريخي للحركة عبدالغني قنوت. وقال في احاديث علنية ان الهدف الاستراتيجي هو الحركة الموحدة للاشتراكيين العرب. وهذه نقطة هامة ينبغي الوقوف عندها. فالأحزاب السياسية في سورية ليست بحاجة الى انشقاقات او تفريخ احزاب من الاحزاب الموجودة. وقد سعت قيادة الجبهة في مراحل متعددة الى محاولة رأب الصدع مع اتجاهات داخل حزب الاتحاد الاشتراكي ومع اتجاهات داخل الحزب الشيوعي السوري، وربما تحاول مجدداً مع الاشتراكيين العرب. ان حركية الأحزاب والقوى السياسية في سورية، ضمن الظروف والمستجدات الحالية والطارئة تستلزم مزيداً من اللحمة في نفس الوقت الذي يجري فيه الصراع من اجل ايجاد السبل والمواقف المناسبة ازاء تلك الظروف والمستجدات. والشارع السياسي سوف لن يكون مستعداً لاستقبال انشقاقات جديدة، لأن اهتمامه الأول والأخير ينصب على القضايا الوطنية والاقتصادية وينظر الى اي تفعيل بهذا الشأن باهتمام وحرص! * كاتب سوري.