سمعت بحركة رياض الترك بعد فترة من تركي الحياة الحزبية اليسارية في العراق. ولا اخفي تعاطفي على رغم عمليات التشويش. ومهما قيل عن الترك وحركته الحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي، فإن لهما فضل التمرد على الوصايات الخارجية باسم "الأممية"، والتمسك بشعار الديموقراطية التعددية داخل التيار الشيوعي وخارجه، والانتفاض على قواعد العمل السياسي الشللي والنفعي. وإذا اصطدمت الاحلام والمشاريع الثورية التجديدية، بالعقبات والمصاعب، وإذا كانت تشوبها، احياناً، نزعات رومانسية و،إرادوية غير واقعية، فإن لأصحابها، ومطلقيها، مأثرة المبادرة النقدية الجريئة، وروح التجديد ومغامرته. مر أكثر من عقدين على انطلاق حركة الترك، وحوالي العقدين على اعتقاله الذي انتهى مؤخراً. وخلال هذه السنين، وقعت احداث وتطورات خطيرة بل جذرية، على الاصعدة الاقليمية، والدولية، خصوصاً الانهيار السوفياتي، وتفكك "المنظومة الاشتراكية" والانفراد الاميركي في الساحة الدولية. وخلال هذه السنوات الصعبة والمعقدة، جرت مراجعات، وتصحيحات، فكرية، وسياسية، في الحركات الشيوعية العالمية، ابتداء من الحزب الشيوعي الروسي، وأعيد النظر الجذري في الكثير من اطروحات لنين ومقولاته، ناهيكم عن اطروحات ستالين وممارساته. فهل كانت الحركة الشيوعية العربية على ذات المستوى من الوعي والادراك والمسؤولية؟ هذا موضوع متروك بحثه وتحليله المتعمقان للمحللين والمؤرخين ذوي الاختصاص، وهو ليس مدار مقالتي على الرغم من كل اهميته. فالذي تدور حوله المقالة بضع ملاحظات تاريخية عن محاولات التجديد الأولى في الحركة الشيوعية العربية، وابتداء: ما المقصود بالتجديد؟ مما لم يعد ممكناً انكاره هو خضوع تلك الحركة للوصاية السوفياتية المطلقة او شبه المطلقة. فالقضايا الوطنية والهموم القومية كانت تقاس على مقاس السياسات السوفياتية في المنطقة وبارشاد وتوجيه "الحزب الأم". وبالتالي، فإن حركات التجديد الأولى ما كان ممكناً لها ان تنطلق الا من موقع التمرد الواعي على تلك الوصاية الفكرية والسياسية، بل وحتى التنظيمية. وبسبب من السرية والتدخل السوفياتي المستمر في حياة الاحزاب الشيوعية العربية، فإن معايير اصطفاف الكادر كانت مختلة، والحياة الداخلية مضطربة وتتميز في اغلب الحالات باستفحال النزعات الانتفاعية، والمنافسة على المناصب والامتيازات، ومحاربة الرأي الآخر بكل قسوة، وتفسير الضبط الحزبي تفسيراً ستالينياً سُدّته ولحمته الخضوع الاعمى للقيادة غير المنتخبة ديموقراطياً وحتى اذا قادت الحركة الى المهالك والكوارث. اما المتصدون للتصحيح فهم "متكتلون" او "منشقون"، فالقيادة هي الحزب اولاً وأخيراً. وليس من الصدف ان يتكرر مصطلح "انشقاق" و"منشقين" الى يومنا هذا في تناول التجارب الشيوعية، وكأنما العالم لم يُطح بالمفاهيم القديمة، وكأنما "التعددية السياسية" مجرد لافتة لا فعل. والا فكيف لا يحق لأية جماعة سياسية ملتزمة تأسيس الحزب الذي تريد وبالاسم الذي تختار؟ لم يكون تعدد الاحزاب الشيوعية او البعثية في القطر الواحد ظاهرة غير طبيعية؟ والأغرب ان اكثر الشيوعيين العرب نسوا ان لينين نفسه "انشق" عن "الاكثرية في اللجنة المركزية" الروسية عام 1916، وأكد حينها ان المحك هو التمسك بالمبادئ. وهذا ما اكده ايضاً يوسف سلمان يوسف فهد في الاربعينات بتأكيده "ان الاكثرية مقيدة بالخطة اللينينية الثورية، فإن خرجت عنها فلم تعد بالاكثرية الواجب الخضوع لها بل تصبح انحرافاً لا يتفق ومبادئ الأممية الشيوعية". ولذا، وبكل المقاييس، يكون من العبث الحديث اليوم عما اذا كانت حركة الترك "انشقاقا" او غير انشقاق، ويكفي انها عنت ميلاد حزب شيوعي جديد متمرد على الوصايات الخارجية، ومنفتح على الهموم القومية، وطامح الى التجديد التنظيمي ديمقراطياً. ولعل من الدقة التاريخية القول ان محاولات التجديد الشيوعي العربية بدأت في العراق اولاً، والمقصود قيام "حزب القيادة المركزية" في ايلول سبتمبر 1967 والذي كان قيامه تتويجاً لصراعات داخلية مرة استفحلت منذ اواخر عام 1963. وكان السوفيات يمارسون على قيادات الخارج ضغوطاً كثيفة لالتزام خط دعم نظام عبدالسلام عارف، وفي ما بعد، الاندماج الشيوعي في تشكيلة الاتحاد الاشتراكي كما وقع في مصر. وكان النظام العارفي يطرح نفسه كحليف للناصرية وكنموذجها العراقي. وفي الأعوام 1964 - 1966 صدرت لا سيما لكاتب هذه السطور بيانات ومحاضرات وكتب تجادل، بلا مجاملة، الاطروحات السوفياتية حول "التطور اللارأسمالي" و"قيادية" تيار البورجوازية الصغيرة، الذي كان مقصوداً به اساساً تلك الأنظمة العسكرية "التقدمية" في بلاد العرب والعالم الثالث، وعلى رأسها النظام الناصري. وجاءت كارثة حزيران يونيو 1967، لتصبح حافزاً اكبر لمحاولات التصحيح والتجديد الشيوعية، ابتداء من العراق. ان انهيار حركة القيادة المركزية وهي في مرحلتها التأسيسية ربيع عام 1969 وما لحق التجربة من تشويه وتزوير واختلاق لعب فيه السوفيات وأبواقهم الدور الأول، وإن اقتران ذلك الانهيار باعلاني من شاشة التلفزيون نيسان/ ابريل 1969 عن وقوع الحزب في اخطاء سياسية فادحة تنفيذاً لصفقة لم تكن شخصية كما يزعم الخصوم، وإنما صفقة سياسية لوقف القمع واطلاق سراح المئات من الكوادر المخلصة المهدد كثير منها بالتصفية الجسدية أقول ان هذه التطورات سمحت بالتعتيم على تجربتنا ومحاولة تصويرها "كحركة مغامرة لزمرة متهورين". والحال ان حزب القيادة ضم كل الكادر العمالي الشيوعي والتنظيم الطلابي الشيوعي في بغداد، وكان فيه وباعتراف زكي خيري قبيل رحيله اكثر من ألف كادر مجرب، ناهيك عمن يلتفون حول ذلك الكادر من آلاف الحزبيين والمؤيدين. لكن الحق، ايضاً، ان الندوة وأدائي فيها ساهما في التشويش والتعتيم لتركيزهما على الاخطاء وحدها. أترك هذه الاستطرادات الضرورية في رأيي علماً بأنه سبق لي بحث الموضوع في العديد من كتبي ومقالاتي. اتركها لأعود الى تجربة رياض الترك وحزبه. من الملاحظ ان تجاربنا السياسية شيوعية كانت ام قومية بعثية وناصرية لم تحظ الا في النادر الأعم بتحليل ودراسة متكاملين، يراعيان ظروف كل تجربة، والأوضاع السياسية والاجتماعية - الاقتصادية التي نشأت فيها، وطبيعة السلطة القائمة، عهد ذاك، وممارساتها، ومجمل الاوضاع العربية والدولية الواجب اخذها بالحسبان. فالتجربة الناصرية لا تزال بين افراط في التمجيد لحد التقديس، والى محاولات الغاء وتأثيم. وكذلك التجربة البعثية في كل من سورية والعراق ربما باستثناء كتاب هاني الفكيكي، على رغم منطقه التبريري. ولما كنت غير مطلع بما فيه الكفاية على النقد الذاتي الشيوعي خارج العراق، فإن مذكرات العديد من رموز الحركة الشيوعية في العراق تؤكد، مع الأسف، على استفحال المنطق التبريري، والتشبث بالماضي، وتبشيع المعارضين والتشهير الظالم بهم، واعتماد منطق المغالطة وتحريف الوقائع التاريخية. وما قرأته اخيراً في "الحياة" عن تجربة رياض الترك لمناسبة اطلاق سراحه في بادرة رسمية محمودة وإن جاءت متأخرة جدا لا يقدم للقارئ تحليلاً علمياً وتاريخياً متكاملاً، وإنما هناك نتف ووقفات مجزأة تفتقر الى مراعاة الظروف الحسية الواقعية التي قامت عليها تلك الظاهرة - التجربة. وكثيراً ما تكون التطورات الاخيرة في اوضاع دولية وعربية مستجدة تماماً، منطلقاً للاستنتاج والحكم. ولكنني، شخصياً اقدر روح الاعتدال والجو الهادئ غير المتشنج في هذا النقاش الذي دار، خلافاً للسجالات السياسية العراقية - العراقية!! وإذا استثنينا المفارقة في مصير الرمزين الأولين للتجربتين الشيوعيتين المتمردتين العراقية والسورية فإن ما بينهما الكثير: الأول هو التمرد على الوصاية السوفياتية، من منطلق وطني مستقل لا من منطلق صيني او تروتسكي او "غيفاري". والثاني هو الحملة الشرسة التي قادها السوفيات بكل ضراوة ضد التجربتين، الى حد طرد عناصر "القيادة المركزية" من الجامعات بل حتى المستشفيات عام 1967 في الدول الاشتراكية ومراقبة الرسائل، والاعتداء بالضرب، والتسفير الظالم الى العراق. والثالث هو التمرد على الأوضاع الحزبية الداخلية المريضة من دون التمكن من معالجتها جذرياً لضيق الوقت ولتصاعد القمع المعادي. والرابع هو الانفتاح على الهموم القومية بما كان يشكل تحدياً سافراً للطروحات السوفياتية، لا سيما في الموضوع الفلسطيني. ومرة اخرى تؤخذ القضايا بظروفها آنذاك وليس بأوضاع اليوم المختلفة تماماً. والخامس ان هذا الانفتاح "القومي" العريض كان كفيلاً بأن يقرب ما بين البعث القومي الوحدوي وما بين الاجنحة الشيوعية التجديدية، سوى ان الامور سارت بالعكس تماماً. وإذ لا اريد الحكم، هنا، على مواقف المناضل الترك من السلطة السورية عهد ذاك، فإنني أؤكد مجدداً على اننا في العراق اخطأنا على الأقل تكتيكيا في رفع شعار اسقاط الحكم والعودة الى شعارات الكفاح المسلح، خصوصاً ان السلطة كانت جديدة، وكانت قد قامت بخطوات انفتاحية صحيح لغرض التكتيك وكسب الوقت من بينها اطلاق سراح المعتقلين والسجناء الشيوعيين وإعادة جميع المفصولين منهم الى الوظائف والعمل. الا انه، من الجهة الاخرى، فإن تلك السلطة لم تطق قيام حزب القيادة بإضراب عمال الزيوت النباتية فقمعته بكل قسوة، واعتقلت احد رفاقنا وأعدمته، ثم انطلقت مسرعة الى فتح صفحة الحرب في كردستان العراق، فيما كانت الحملة القمعية ضد مناضلينا وأعضاء القيادة تتوسع وتستفحل. ففي تلك الظروف بالضبط رفعنا الشعار المجابه - شعار اسقاط الحكم. وأرى ان ظروفاً مشابهة لحد ما سبقت شعارات المواجهة التي رفعها الحزب الشيوعي السوري رياض الترك والتي ساهمت في تأجيج الموقف الى حتمية الصدام. اقول لست في موقع يؤهلني للحكم على صحة تلك المواقف او لاواقعيتها، لكنني أذكّر بما حدث في الشارع السوري من احداث خطيرة منذ اواخر عام 1979، ورد الفعل الحكومي العنفي الواسع النطاق وفي مواجهتها. فأين المسؤولية، عن الصدام؟ وهل هي متوزعة؟ وبأية درجة؟... ومرة اخرى، فإن اوضاع امس لا تقارن بأوضاع اليوم حيث مأزق "العملية السلمية" والمواقف السورية الايجابية في قضية الصراع العربي - الاسرائيلي، وفي قضايا الحصار المفروض على العراق وسواه. وبعبارة: هل كان المطلوب دفع الامور، آنذاك، الى مزيد من التأزم فالصدام، ام الاكتفاء بالنقد الصريح، والتعبئة الشعبية، واستشراف اية منافذ، ممكنة، للحوار مع السلطة؟ وهل كان صحيحاً وصف العمليات "الاخوانية" بالدفاع العنفي الشرعي عن النفس، ام تخطئتها صراحة والاصرار على النضال الجماهيري السلمي لا غير؟ هذه اسئلة مفتوحة للسجال السياسي السوري - السوري على الخصوص ومهما يكن التقدير، فإن المطلوب اليوم، في رأيي المتواضع، توفير الحد الادنى على الأقل من الجو المناسب والحرية والطمأنينة لكي يستطيع رياض الترك، تسجيل تأملاته، ودراسة تجربته بروح النقد والنقد الذاتي المتجردين. وإن شهادته الصريحة هذه هي من الشروط الأساسية لا الشرط الأوحد لكي يعاد تقويم التجربة بما يفيد شباب اليوم والجيل المقبل في سورية والعالم العربي، وبما يزود الرصيد السياسي العربي بمادة، لا شك هي غزيرة، للتأمل والاستعبار والممارسة. * كاتب عراقي مقيم في باريس