منذ سنوات وانا اكاد انقطع الى موسيقى البيانو وحدها، او مملكة المفاتيح، كما يقال، او مفاتيح المملكة، كما يقال ايضاً. كلا، ليست لديّ حساسية من بقية الآلات الموسيقية، فليس من طبيعة الاشياء ان يعفّ المرء عن الاستماع الى آلات كالاورغن، او التشيلو، او الكمان… الخ. لكنني اعترف بأن للبيانو سحراً خاصاً عليّ، الى حد انني افضل احياناً ان اسمع موسيقى بعض الآلات الاخرى، او الاوركسترا، مكيّفة للبيانو. واعترف ايضاً بأن انشدادي الى هذه الآلة، بهذه اللجاجة، يعود الى اسباب عاطفية، اذا جاز القول. وتعود هذه العلاقة الى العام 1965 بالذات، يوم تم اطلاق سراحي من الاعتقال، بعدما امضيت عامين اتنقل خلالها بين معتقلات بغداد. لم يكن هناك كثير من المستقبلين، او لا اذكر بالضبط. ربما كان هناك عدد من المهنئين، لكنني لا اذكر سوى صديقي الدكتور رمزي، وابي، وامي، فقط، وتلك المفاجأة التي كانت اثمن هدية اتلقاها بعد الاعتقال. اصل الحكاية انني عند اجتيازي بوابة معتقل "خلف السدة"، وجدت ابي وصديقي الدكتور رمزي في استقبالي. وبعد العناق، فتح الصديق باب سيارته الخلفي لأبي ليتخذ مقعده، ثم الباب الامامي لأجلس الى جواره… كان ابي كعهده، صموتاً قليل الكلام، لم يكد ينطق طوال الطريق بغير كلمتي: "اشلونك ابني؟"، وتركنا انا وصديقي نتحدث عن قصة اطلاق سراحي وملابساتها التي لم تنته تماماً عند خروجي من المعتقل. وكنت لا ازال اشعر بالخجل من طقس وداع رفاقي المعتقلين، الذي اقتضى ان اشق دربي الى نهاية القاعة واعانقهم الواحد بعد الآخر، على جانبي القاعة من نهايتها الى بدايتها، وانا افكر في سترتي المدعوكة التي ظلت ملفوفة طوال عامين كاملين. وازداد احساسي بالخجل عندما انتهيت من وداعهم وانا اتصور نظراتهم تلاحقني وتشيعني من نوافذ القاعة، مثلما كنا نشيّع السابقين ممن اطلق سراحهم. لا اكاد اذكر شيئاً من وقائع ذلك اليوم، سوى انني قلت، بعد استراحة قصيرة في غرفة الجلوس بصحبة افراد عائلتي المتقلصة لأسباب مختلفة، وصديقي رمزي: "ارجو ان تسمحوا لي لحظات لأتفقد مكتبتي". كانت مكتبتي في غرفة نومي التي يتم الدخول اليها مباشرة من غرفة الجلوس… كنت في واقع الحال ملهوفاً لرؤية غرفتي العزيزة التي كنت استمع فيها الى الموسيقى، واشكل الوزارات من اكفأ وأخلص الرجال والنساء في وطني، واحلم برجاء، او سهام، او سعاد، او مريم، عندما آوي الى فراشي… حتى اذا دخلت الغرفة، وقع بصري رأساً على آلة بيانو سوداء انيقة وان كانت مستعملة على ما يبدو، في الركن الايسر المقابل للباب، جنب سريري. لم تصدق عيناي اول الامر. فوجود بيانو في منزلي - في غيابي، وغياب اشقائي الآخرين - كان اشبه بمفارقة، لأن ابي بعيد عن عالم الموسيقى كبعد الارض عن جو السماء. مع ذلك، اقتربت منه، ورفعت غطاءه مبهوراً، ثم مررت بأصابعي على مفاتيحه بحركة غليساندو 1، وقلت لا بد انه رمزي. وجدته واقفاً عند وصيد الباب. قال: "الصدفة وحدها خدمتنا في شراء هذا البيانو". واضاف "كنت اريد ان اقدم لك هدية موسيقية، وخدمتنا الصدفة". "شكراً جزيلاً. انت تطوقني بجميلك". ابتسم: "في الحقيقة، يجب ان نشكر جوزيف، الذي قدمه بنصف سعره، كما يؤكد، بعد ان علم انه هدية لك". "جوزيف، الموسيقي الذي يعمل في الاذاعة؟ كنت اعرف انه انسان طيب". "قال انه سيفرح باطلاق سراحك، وسيسعده لقاؤك". "وسيسعدني ايضاً. ولا بد ان اشكره على تساهله في بيع البيانو". كان كل شيء على حاله في الغرفة، عدا اكداس الصحف التي كانت تصدر في العهد السابق، وقد احرقها ابي قبل مداهمة دارنا. اما صورة افروديت للفنان بوتيشيللي فكانت ما زالت معلقة في مكانها مقابل سريري، وكذلك الصورة الفوتوغرافية المؤطرة لعازف البيانو بادريفسكي، وجهازا الراديو والغرامافون اللذان عدت بهما من الولاياتالمتحدة مع مجموعة الاسطوانات، والمكتبة طبعاً هناك واحدة اخرى في الغرفة المجاورة. وتذكرت رسالة مريم، التي اخفيتها خلف الحصيرة المعلقة على الجدار تحت مشجب ملابسي. لكنني ارجأت تفقدها. بعد فرحتي بالبيانو، القيت نظرة خاطفة على مكتبتي، التي لاح من بين محتوياتها بوضوح كتاب "لوليتا" بطبعته العربية ذات الغلاف الاخضر… هاانذا اخيراً بين ظهراني اهلي، بعد ان عدت الى حياتي الطبيعية الطليقة، وكتبي واسطواناتي، واشيائي الحميمة الاخرى، مع هذه المفاجأة السارة التي احسست على الفور بأنها ستغير ايقاع حياتي تماماً. وبالفعل، منذ تلك اللحظة صرت اتطلع بلهفة الى الاختلاء بهذه الآلة وتوثيق علاقتي بها، لأعوّض عن الفرص التي فاتتني في تحقيق هذه الرغبة. لكن الظرف في بادئ الامر لم يكن مواتياً تماماً. فمنذ اليوم التالي كان لزاماً عليّ مراجعة مديرية الامن العامة بشأن انجاز الكفالة لاطلاق سراحي، ومتابعة الاجراءات المتعلقة بمحاكمتي، فضلاً عن محاولة البحث عن عمل. مع ذلك بدأت مسيرة الألف ميل بالخطوة او الخطوات الاولى، حتى قبل زيارة السيد جوزيف والاتفاق معه على تلقي دروسي الاولى. ففي البدء كانت اللذة في اكتشاف الابجدية الموسيقية، والحرص على تمييز كل صوت من اصواتها، ومحاولة اتقانها على مدى اوكتافاتها كلها. لكنني لم التزم بمنهج التعلّم التدريجي، حتى بعد ان بدأت بتلقي دروسي على يد السيد جوزيف. فقد تراءى لي ان المسيرة طويلة جداً، ما لم اكثف جهودي في العزف، وشجعني على ذلك ما احفظه في ذهني من المقطوعات والمقاطع الموسيقية، رأيت ان اؤديها بنفسي على البيانو، من دون ان استأذن معلمي او احيطه علماً بذلك. لكن تقدمي في العزف الارتجالي من دون اعتماد النوطة جاء على حساب دروسي النظامية مع السيد جوزيف، التي تتطلب "هدر" وقت طويل مع تقدم بطيء، في حين كانت محاولاتي الارتجالية تحقق لي - على علاتها - نتائج سريعة ومغرية. هذا الى انني سرعان ما وقعت فريسة الغرور والرغبة في اداء مقاطع تندرج في اطار التأليف. وبدا لي بريق التأليف مغرياً الى درجة شجعني على شراء مسجل لتسجيل المقاطع التي كنت اعزفها، لكن من دون ان اجرؤ على اطلاع الآخرين عليها. وهكذا كنت امضي ساعات وساعات كل يوم مع محاولاتي التجريبية هذه، واسجل هذه المحاولات وامسحها باستمرار قبل ان استقر على صيغة ارتضيها. وقد ارهقتني كثيراً محاولات الجمع بين اليدين اليسرى واليمنى في اداء ايقاعين مختلفين… وعلى اية حال كان مزاجي طوال تلك الايام سوداوياً، على رغم خروجي من المعتقل، وسرى هذا على خربشاتي، او اذا انصفت نفسي، استطراداتي الموسيقية. كان عزفي بعامة مالنخولياً، يلهج بالكآبة. ذلك انني كنت في تلك الايام اعاني من حالة انهيار عاطفي بلغ ذروته غب لقائي الاخير بمريم، ذلك اللقاء الذي جاء مباغتاً لي في نتائجه ومخيباً لتوقعاتي. كنت اتوقع هذا اللقاء واتطلع اليه منذ خروجي من المعتقل. لكنه تأخر لسبب ادركته في ما بعد، الى ان اخبرني الصديق رمزي، ذات يوم، بأن مريم تزمع ان تزورني بصحبته. من حسنات الطوفان السياسي الجديد، عندنا، انه لا يعبأ بالتفاصيل، ما دام همه الحضور المادي للشخص المطلوب اعتقاله. لم يكن المعتقِلون يبحثون عن مستمسكات تفصيلية، كالاوراق او الرسائل او الصحف او الكتب التي تشي بهوية قارئها او صاحبها، عند اعتقال شخص ما، كما كان رجال امن العهود السابقة يفعلون، ما دام الشخص المطلوب مداناً سلفاً. لهذا لمت ابي لأنه احرق جميع الصحف التي كنت احتفظ بها، لأجل صفحاتها الثقافية بصفة خاصة. وتوقعت ان أجد رسالة مريم في موضعها بين خشبة المشجب والجدار، خلف الحصيرة التي ثبت في اعلاها مشجب الملابس، لأن تفتيش الدار كان هدراً للوقت، ما دمت انا المطلوب بالذات. وقد وجدتها، بالفعل، في مكانها مذ دسستها بين المشجب والجدار، مع ظرفها الغفل من العنوان، مطوية اربع طيات. كانت مكتوبة على صفحة وقفاها من اوراق دفتر مدرسي يومذاك كانت مريم في الصف المنتهي في كلية الآداب، فرع اللغة الانكليزية… كانت تتحدث فيها عن ارتياحها الجم الى مشوار الموسيقى الذي امضته معي في غرفة الاستقبال في منزلنا، مشيرة الى اللحن العذب في كونشرتو Grieg على البيانو التي اسمعتها اياها من جهاز الغرامافون. وتحدثت عن روايتي "دون كيخوته"، و"لوليتا" اللتين استعارتهما مني في لقاء سابق، وعلقت على الرواية الاخيرة، واعجابها بشخصية البطل همبرت همبرت. ولما كنت انا اكبرها بنحو خمسة عشر عاماً، فقد فسرت اعجابها بشخصية هذا البطل على انه يمكن ان ينسحب علي. وهذا كل ما في لامر، يومذاك. وقع انقلاب شباط 1963، وتم اعتقالي، وتعذرت الصلة بيننا، باستثناء محاولة مجهضة من جهتها لمواجهتي، بعدما نقلت الى معتقل "خلف السدة"، وكانت تحمل الي، كما علمت، علبة بقلاوة، لم تصلني، ولم تتم المواجهة، لأن السلطات قررت الغاءها في اللحظة الاخيرة. ولم تكرر هي المحاولة ثانية، اذ سمح بعد ذلك بالمواجهات الشهرية. قبل زيارتها لي بصحبة رمزي، لتهنئتي في مناسبة اطلاق سراحي، زارني رمزي كان تلفوني لا يزال مقطوعاً ومصادراً منذ توقيفي، وبقي معي فترة من الوقت، صارحني فيها، للمرة الاولى، بان مريم تعلقت به على رغم انه لم يشجعها على ذلك، وفاءً لي هذا الى انه كان متخماً بعلاقاته مع النساء. فاكتشفت انني لم اكن انا همبرت همبرت بالنسبة لها، بل رمزي الذي يكبرها بعشرين عاماً. ولما كانت الكلفة مرفوعة بيننا، وبحكم العلاقة الوثيقة، لمته انا مع ذلك لوماً شديداً، ولم ابرئه من حسن نواياه تماماً، وطلبت منه ان يتخلى عن استجابته الى حبها، بعدما علمت - منه - انه بات يميل اليها واعجب بذكائها ونزعتها التحررية، الى جانب جمالها. لكنه اكد لي انه لا يزال على اتم الاستعداد للتخلي عنها اذا كان - او بقي - لديها ميل تجاهي، وهكذا تركنا القرار لها. كانت الزيارة حساسة جداً اذن، ومركبة لكلينا، هي وأنا، لكنها كانت مصيرية بالنسبة الي. تعانقنا عند اللقاء. قبل بعضنا بعضنا الآخر من الخدود. وكانت هي اقل مني ارتباكاً، اقل بكثير والحق يقال. وجرى حديث طويل اول الامر عن المياه الكثيرة التي جرت طوال هذين العامين اللذين تصرّما منذ يوم اعتقالي حتى ساعة اللقاء: الدماء التي سالت في الوطن، والخراب الروحي، وضياع الحلم، الى جانب الحوادث العالمية العاصفة الاخرى، كمقتل جون كنيدي، وازاحة نيكيتا خروشوف، وموت ناظم حكمت… وتطرق الحديث ايضاً الى فيلم "لوليتا" الذي عرض في اثناء اعتقالي، وشاهدته مريم، والى الفيلم عن حيان فان غوغ الذي عرض عشية الانقلاب ولم يُتح لي ان اشاهده ايضاً، الخ، الخ…