يقول الموسيقي اللبناني مارسيل خليفة في معرض ردّه عن نفسه تهمة المساس بالقرآن الكريم، اذ أنشد أبياتاً للشاعر محمود درويش تستوحي قصة النبي يوسف، يقول انه "خارج عن كل الطوائف، والطوائف لا تعنيه". فهو "مواطن لبناني معني بالانسان في لبنان بكل مناطقه". ودفاع خليفة هذا يلائم بحق سيرته وواقع حاله، وانما المفارقة ان الرجل يسعى لاستحضار حيّز اجتماعي "للمواطن اللبناني" في وقت يبدو لبنان غارقاً في الاجواء الطائفية بأكثر اشكالها مباشرة وبدائية. ففي السنوات الاخيرة، سنوات ما بعد الحرب الاهلية، ازداد في لبنان تطابق تفاصيل الحياة، المواقف والآراء، الاحداث الصغيرة والكبيرة، كل واحدة منها وفي كل مرة، مع ما يمكن تسميته "تركيبة" البلد. تمتلك هذه التركيبة قدرة فائقة على استيعاب اي فكرة او حدث، فتعيد نظمها ضمن منطقها وآلياتها في الفعل وفي التعبير عن نفسها. وقد بدت هذه القدرة اكبر بعد انتهاء الحرب الاهلية وخروج المقاومة الفلسطينية من لبنان وانهيار الحركة اليسارية، اذ تبسّطت التركيبة، متحررة من عوائق الخارجين عن الطوائف من امثال مارسيل خليفة، وعوائق البعد السياسي، العربي والعالمي، للقضية الفلسطينية، وهو بعد يمتلك بالضرورة حداً عالياً نسبياً من التلوّن والتعقيد. تبسّطت التركيبة ايضاً وتعممت، عندما أُعيدت صياغتها في اتفاق الطائف، فارتسمت حدود التغيير من ناحية واصبحت عودة كل ذي حق لاحتلال حيّزه وصيانته والذوذ عنه، مسألة وجودية ملحة، من ناحية ثانية. تمتص الآلية الطائفية، المباشرة والبسيطة، كل امكانية يثيرها النقاش الفكري للتقدم نحو تحديد نقاط اللقاء والاختلاف، ناهيك عن تطويرها واغنائها وتجاوزها. يتخندق كلٌ في طائفته وتصبح المسألة، دوماً وباستمرار، مسألة التوازن الطائفي ذاك وخطر المساس به. يتكرر دوماً سؤالٌ عن المستفيد من تحريك المسألة، ثم تليه تأكيدات من نوع ان الامور ليست كما تبدو في ظاهرها، فلا مارسيل خليفة هو المقصود ولا القصيدة، بل هناك مستوى خفي تماماً عن القضية كأن يكون مثلاً "دفع دار الفتوى لتحريك الملف جزءاً من الحملة السياسية على رئيس الحكومة السابق"! هكذا يتوسل الصراع السياسي في لبنان ادوات تنتمي لكل الميادين، ولعله لذلك يقال ان كل شيء في لبنان "سياسة" بهذا المعنى البائس للسياسة. وهكذا يضيع تماماً الموضوع الاصلي، تغشاه مساجلات لا علاقة لها به مبدئياً، مساجلات تعيده دوماً الى نقطة البداية، الى السطح الاول. واذ تُحرك ضد مارسيل خليفة الدعوى القضائية، يبدأ التضامن معه من النبطية عاصمة جبل عامل، فتجد من يستحضر واقعة ان خليفة غنّى في يوم "يا علي"! وقبل ان تستفيق من دهشتك لهذا التأويل، وفيما أنت تتذكر "يا علي" تلك التي لم تخطر على بالك في هذا الموضع كتبرير ل"تضامن الشيعة" مع مارسيل خليفة، يطالعك الصياح المتكاثر حول اخطار اثارة النعرة الطائفية. وتبدو هذه النعرة قابلة للإثارة مع دبيب اي مظهر للحياة، فيصبح مآل تجنبها هو الركون الى الجمود التام، الموات المتمثل بالالتزام الرتيب بمستلزمات الحدّ الادنى من الحياة، ذلك الحد الذي لا يحتمل بالتأكيد الثقافة. هكذا لا يعود ممكناً قراءة المواقف والآراء بمنظور ما تقوله هي، ولا يعود ممكناً تقويمها على ضوء مقاييس فكرية وثقافية وسياسية تمتلك الحد اللازم من الانسجام مع طبيعتها تلك، ومن القابلية العامة لادراكها، وتصبح كل المواقف والآراء، تلك المتمثلة بالفعل والاخرى، ردة الفعل عليها، تصبح كلها بحاجة الى تأويل، الى ترجمة تطابقها مع عناصر التركيبة الطائفيةاللبنانية، وتستعصي بالتالي على من لا يعرف تفاصيل ودقائق هذه التركيبة. واذ تثير الاعجاب العقلية المفعمة بالحياة التي تقف خلف كلام السيد محمد حسين فضل الله القائل انه لا يجد "اساءة في تضمين القصيدة التي تعبّر عن مضمون انساني يتصل بقضايا الانسان المقهور، آية"، ولا يجد اساءة بتلحينها، او كلام السيد محمد حسن الامين الذي يؤكد ان "استيحاء النص القرآني في النصوص الادبية ظاهرة ايجابية"، تكون مستلزمات التأويل اياها تدور على غير معنى الكلام الصريح هذا وما ينبغي له ان يثير من نقاش ملحّ ومفيد حول مسائل من نوع علاقة الدين بالثقافة، اي بما يمارسه ويطرقه الناس في حياتهم اليومية، ومسائل اخرى من نوع البحث عن اسباب ونتائج تكلّس بعض المراجع مقابل حيوية وانفتاح مراجع اخرى، وحتى نقاش، محلي لبناني ربما، عن بعض نتائج الحرب الاهلية لجهة صعود الحضور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي لطوائف مقابل انحسار وانحطاط اخرى… وهي كلها مسائل جديرة بالنقاش بمناسبات مثل هذه، مناسبات كثيرة تسنح، ولكنها عوضاً عن النقاش تنسرب نحو انتظام "المسرح": تكرّ سبحة التصريحات، يدلي ممثلو التركيبة كلٌُ بموقفه، ترتسم الحلبة، يقاس التوازن، تبدأ الجولات… سوى انه لا ضربة قاضية، هناك دوماً مخارج استيعابية، هناك بالطبع رابحون وخاسرون، ولكن الاصول المعتمدة في المراعاة تغلّف حدة النتائج، فتنفض الحلبة الى حين. لكن الساحة اللبنانية ليست فحسب هذا الركام المتخلّف عن الحروب الاهلية المتكررة، والمؤشر الى نُذر حروب اخرى ترتسم ملامحها المخيفة في الأفق. هناك شيء آخر، اصوات فردية وجماعات. هكذا لن يدين مارسيل خليفة بنجاته المتوقعة الى مفاعيل توازن التركيبة إياها فحسب - وهو يشبه توازن الرعب ايام الحرب الباردة - بل ايضاً الى ما هو نابت من خارجها، ولو بوهن… الى ما تمثّل نفسه.