خلاصة الوضع الراهن في الملف العراقي هي أن الولاياتالمتحدة لن توافق على أي تخفيف أو تعليق للعقوبات الاقتصادية المفروضة على العراق ما لم يقترن بقيود مالية تمنع الحكومة العراقية من التصرف بالعائدات، فيما بغداد من جهتها غير مستعدة اطلاقاً للموافقة حتى على رفع العقوبات إذا تم بظروف القيود المالية المطروحة. فالمعركة بصلبها وجوهرها ليست في شأن ما تبقى على العراق تنفيذه من قرارات مجلس الأمن أو في شأن امتلاك العراق قدرات تصنيع أسلحة محظورة. إنها معركة إزالة نظام تخوضها واشنطن بغطاء تلو الآخر، وهي معركة بقاء يخوضها نظام الحكم في بغداد. هذه المعادلة، إذا استمرت، لها افرازات على العراق وجيرته ليست في مصلحة أيهما الآنية أو البعيدة المدى، بل فيها استنزاف للعراق وجيرته بوسائل مختلفة. لذلك فإن المصلحة الفردية والجماعية تقتضي التفكير بما من شأنه أن يُحدث نقلة نوعية في نمط وتفكير السياسة الأميركية نحو العراق وبيئته كما في نمط وتفكير القيادة العراقية والمعارضة العراقية على السواء. وهذا ليس مستحيلاً. أولويات الولاياتالمتحدة في منطقة الخليج ليست متطابقة مع أولويات دول المنطقة، مع اختلاف درجات الاختلاف. القاسم المشترك هو انعدام الثقة بالحكومة العراقية بسبب مغامراتها ونبرتها. وقد تكون الرغبة في نظام بديل قاسماً مشتركاً، لكن هدف الإطاحة بالنظام واتخاذ الاجراءات لتحقيقه ليس موضع توافق في الآراء أو الاستعداد. فمعظم الدول العربية في جيرة العراق غير مستعد للانخراط التام بأي من سيناريوات الإطاحة التي تطرحها السياسة الأميركية. معظمها يقع بين طيات تمني الإطاحة وبين الخضوع لحتمية التعايش مع الحكومة القائمة في بغداد. أكثر هذه الدول يرفض التعاون مع المعارضة العراقية التي تتولى الولاياتالمتحدة إدارتها. والأهم ان هناك قلقاً عميقاً في المنطقة من اثر استمرار العقوبات الاقتصادية ليس فقط في العراق، وإنما في مستقبل العلاقات بين العراقيين والخليجيين. هذا إلى جانب المخاوف من استمرار الانطباع بأن الشراكة مع الولاياتالمتحدة لتدمير القدرات العسكرية العراقية تعفي إسرائيل من التدقيق في ترسانتها النووية وتغض النظر عن إيران. الولاياتالمتحدة لا تشعر أنها تورطت في سياستها نحو العراق على رغم وضوح فشل سياسة "استبدال النظام" التي لم تفد فيها العمليات العسكرية المكثفة ولا حرب الاستنزاف أو الحرب على النار الخافتة، ولا دعم المعارضة أو إصدار قوانين في الكونغرس أو صرف الأموال، ولا العقوبات التي لا سابقة لها، ولا العمليات التجسسية المباشرة أو غير المباشرة عبر لجنة نزع السلاح التابعة للأمم المتحدة اونسكوم، ولا العمليات التي قامت بها وكالة الاستخبارات المركزية في شمال العراق. فكل ذلك لم يحدث خللاً أو زعزعة يمكن أن تطيح النظام. فإذا كان هناك فشل متماسك لسياسة الولاياتالمتحدة الأميركية، فهو يتمثل في العراق ببقاء النظام تحديداً. هذا إذا كان هدف ازالة النظام هو حقاً أساس السياسة الأميركية. أما إذا كان الهدف الحقيقي تحييد العراق في المعادلة الاقليمية وموازين القوى، بغض النظر عن هذا النظام أو ذاك، تكون السياسة الأميركية أنجزت استراتيجيتها ببراعة، خصوصاً أنها جعلت استيراد الأمن حاجة أساسية لا غنى عن الولاياتالمتحدة فيها. تدرك الغالبية في العالم العربي، على مستوى القيادات كما على مستوى الشعوب، ان السياسة الأميركية للعراق تعمل ب"عبقرية" الفشل المدروس والنجاح المدروس. لكن تلك القاعدة العربية، بأقليتها وأكثريتها، هي التي تبث الروح والحياة في السياسة الأميركية لذلك، كان احتواء العاطفة العربية في موضوع العراق، أكبر تحدٍ للإدارة الأميركية، أهم بكثير من احتواء النظام في بغداد. وقد نجحت فيه لأنها بارعة في الإمساك بمثل هذه الخيوط، ولأن الزمن العربي زمن تفجر عاطفة واندفاع عاطفي يزول بزوال الزخم، لذلك فإن موضوع العراق مُخدّر في الذهن العربي تشوبه بين الحين والآخر نوبة ثم يعود إلى دهاليز النسيان. وهذا ليس بصدفة. ليس بصدفة ان تكون المعارضة العراقية، بأقطابها الأبرز، أكثر جبهة معارضة عربية منبوذة ومشكك فيها. ذلك ان الإدارة الأميركية، عبر الوسائل التي تعتمدها في دعم وتسويق المعارضة العراقية، تتقصد تحقيرها وشحذ البغض لها على الساحتين العراقية والعربية. فلو كانت واشنطن حقاً في وارد تهذيب معارضة حقيقية، أو في وارد بناء معارضة أصيلة، لما عرضت المعارضة العراقية لهذا النوع من التجارب ولما استخدمتها لمجرد عرضها. إن الإساءة الأميركية لفكرة ومبدأ المعارضة العراقية تكاد تساوي أو تفوق الاساءة التي تزعم أنها تريد إلحاقها بالنظام العراقي. ولو كانت الولاياتالمتحدة مهتمة حقاً بانشاء معارضة عراقية لتمكنت من إجبار النظام في العراق على افساح المجال للمعارضة من الداخل، كما أجبرته على ما قيل إنه مستحيل في قاموسه مثل الموافقة على الرقابة البعيدة المدى على برامج التسلح العراقي، ومثل الاعتراف بالكويت دولة مستقلة. إنها سياسة "رفع عتب" لا علاقة لها بالديموقراطية أو التعددية أو حماية الأقليات والمضطهدين. وسياسة رفع العتب هذه تطبق الآن في الشروط الأميركية التعجيزية عند الكلام عن "تعليق" العقوبات الاقتصادية المفروضة على العراق، وكأن الهدف امتصاص وطأة التهم بتجويع العراقيين وفرض عقوبات ساهمت أو تساهم بموت 5 آلاف طفل شهرياً وحوالى المليون عراقي، إضافة إلى انهيار فظيع في النسيج الاجتماعي والبنية التحتية. وللتأكيد، فإن الحكومة العراقية، بسوء سياساتها وإساءة تقديرها وسيرتها التاريخية على الصعيدين الداخلي والاقليمي، هي الشريك الأساسي في مأساة العراق. فالهدف من تركيز البحث على السياسة الأميركية هنا ليس إعفاء السياسة العراقية من المسؤولية. الهدف هو استطلاع ما إذا كان في الافق أي أفكار لمعالجة الملف العراقي بغير التقليدي والمعهود في السياستين الأميركية والعراقية، خصوصاً أن الأولويات العربية، والخليجية بالذات، ليست متطابقة مع الأولويات الأميركية أو العراقية. فالوضع الراهن ليس بتلك الدرجة من السوء في حسابات الإدارة الأميركية والحكومة العراقية طالما أنه يلبي السقف الرئيسي لكل منهما. فالولاياتالمتحدة تمتلك صمام الأمن في المنطقة، وتستفيد من "الخطر" المستمر في بقاء الرئيس صدام حسين في السلطة والحكومة العراقية ترى في بقاء النظام في السلطة الانتصار الأكبر، ولا تمانع تعطيل برامج التفتيش والرقابة الدائمة على الأسلحة التي سلطت عليها أضواء الاذعان، كما أنها تستفيد من صيغة النفط للغذاء والدواء التي تمكنها من تصدير كمية محدودة من النفط. إضافة إلى ذلك، ان تخرق العقوبات بهدوء بما يجعلها أقل قسراً باستثناء أثرها المباشر على القطاعات الإنسانية. قد يجد بعض دول المنطقة الوضع الراهن ملائماً أيضاً طالما أنه خالٍ من المواجهة المباشرة وطالما أنه ينفذ عملياً سياسة "الاحتواء"، لكن البعض الآخر يخشى الافرازات المستقبلية لاستمرار الوضع الراهن ويرى أن من الضروري التفكير في سبل الخروج منه بعقلانية وبأفكار خلاّقة، خصوصاً أن كلاً من الولاياتالمتحدةوالعراق يتمنى مخرجاً لأن الوضع الراهن ليس مثالياً. قد يرى هذا البعض فائدة في تشجيع الولاياتالمتحدة على التفكير في فوائد إقامة حوار مع العراق، يبدأ عبر مجلس الأمن الدولي، أو عبر قنوات عربية، ليس بهدف القفز إلى نقل صدام حسين من خانة "العدو" إلى خانة "الصديق"، وإنما بهدف توفير الحوافز للعراق لتحقيق النقلة النوعية المنشودة على كل المستويات والأصعدة المحلية والاقليمية والدولية. الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات كان بالأمس القريب "ارهابياً" في رأي الولاياتالمتحدة، وها هو اليوم شريك في السعي إلى السلام وهو يستقبل ضيفاً موقراً في البيت الأبيض. فليس من المستحيل التفكير في الانتقال من "شيطانية" صدام حسين في الفكر الأميركي إلى التعامل معه في المستقبل إذا زالت أسباب العداء. هذا على صعيد "الفرد" المعني بالعداء. أما على صعيد الدول، فإن الولاياتالمتحدة لم تتوقف عن الحوار مع الاتحاد السوفياتي حتى عندما وصفه الرئيس السابق رونالد ريغان بأنه "الامبراطورية الشريرة". كانت الأسلحة النووية لغة صامتة بين الدولتين العظميين حينذاك، وكان يرافقها الحوار. فالأعداء في التاريخ لم يتوقفوا دائماً عن مخاطبة بعضهم بعضاً والصراعات حلّت في معظمها بالحوار. قد يقال إن الولاياتالمتحدة تنظر إلى العراق على أنه الطرف المهزوم في حرب الخليج وعليه فقط الاذعان لاملاء شروط المنتصر. لكن واقع الأمر أن معادلة الهزيمة والانتصار لم تحسم من ناحية الحكم في العراق. إذا كان في الذهن الأميركي تطبيق امثولة مقاطعة فيديل كاسترو لإحباطه في كوبا واحباط كوبا معه عبر الحصار، فإن البيئة العربية غير قادرة على استيعاب وسائل احباط النظام في العراق واحتوائه لأن كلفتها الإنسانية والسياسية باهظة. يمكن ان تتجه البيئة العربية نحو الحوار، كما تفعل بأكثريتها، وهذا بدوره له أثر سلبي على السياسة الأميركية القائمة على العزل التام للعراق. فأين الاستفادة الأميركية من بقائها وحدها الطرف الذي لا يمتلك أداة الحوار للتأثير في العراق؟ بهذا المنطق يمكن طرح فكرة التحاور مع الإدارة الأميركية لشرح الفوائد الجوهرية من الحوار. هذه الفوائد تنطلق أولاً من قاعدة الأهمية التي توليها بغداد للحوار وهي تدرك ان له ثمناً. والثمن ثمين إذا أحسنت البيئة العربية هيكلته، وإذا وضعت الولاياتالمتحدة أسساً صحيحة له. فعبر هذه الصيغة من الحوار من خلال مجلس الأمن يمكن اتخاذ كل اجراءات التيقن من أن العراق لن يعيد بناء ترسانة الأسلحة المحظورة. وعبر مبادرة عربية لإقامة حوار أميركي - عراقي يمكن استصدار أقصى ما يمكن من الضمانات بأن العراق لن يعود إلى لغة التهديد والعدوان ضد جيرانه. ولربما تكون الأقطاب الرزينة في المعارضة العراقية بين أكبر المستفيدين إذا ساهمت بدورها في اقناع الإدارة الأميركية بجدوى الحوار من أجل الحصول على ضمانات تؤمن لها القدرة على المعارضة من الداخل، لتكسب قاعدة تؤدي في نهاية المطاف إلى فرز ديموقراطي لمن في السلطة. فقد حان الوقت لوضع العملية الديموقراطية جزءاً من المطالب الدولية للعراق. وأخيراً، من الضروري أن تتمسك الدول العربية بالقرارات الدولية والشرعية الدولية أساساً في حلف العراق من دون الانسياق إلى محاولات تمييعها والقفز عليها. ذلك ان الملفات العربية عديدة على الساحة الدولية، وكل موافقة ضمنية على الانتقاص من الشرعية الدولية سيعود عليها لينتابها ويسكنها. فإذا لبى العراق مطالب نزع السلاح، مثلاً، لتقف معه البيئة العربية، أقله لئلا تبدو وكأنها شريك غافيل في معادلات موازين القوى التي تقاضي عقول العلماء العرب، فيما الأيدي الإسرائيلية والإيرانية والتركية تصنّع الأسلحة وتتفوق نوعياً وكمياً. أمنية استبدال النظام في العراق ثمنها مأساة تتمثل في عقوبات ضحيتها الآنية الشعب العراقي وضحيتها غداً ارث العداء والانتقام عندئذ لن تكون الولاياتالمتحدة الوريثة، لذلك فمن الضروري العمل على فرز جديد للأولويات.