الجديد في المعادلات التي تُصاغ كسياسة استراتيجية ثابتة للولايات المتحدة يتمثل في بدء البحث في مصير الرقابة الدولية البعيدة المدى لبرامج الأسلحة العراقية ما بعد رفع العقوبات عن العراق. هذا الطرح ليس أبداً دليلاً على تغيير في السياسة القائمة لواشنطن، المعارضة قطعاً لرفع العقوبات، وانما هو ركيزة في حجج التمسك بهذه السياسة. فالعقوبات سلاح في صدد التطوير بما يتعدى العقاب والانتقام أو الضغط لاجراء تغيير. انها تُدرَس في واشنطن كسلاح وقائي يردع ليس العراقيين وحدهم وانما بقية العرب أيضاً عن التفكير لاحقاً في امكان إحياء العراق كقدرة عسكرية رئيسية في العمق الاستراتيجي العربي. فالخلل القائم في موازين القوى الاقليمية مدروس ومعتمد، وتصحيحه قد يتطلب مستقبلاً قمة عربية على استمرار اخضاع العراق لرقابة دولية بعيدة المدى. وهذا تماماً ما تريد واشنطن ان تقطع الطريق إليه. السؤال المطروح في ذهن المعنيين ليس في دوائر الإدارة الأميركية فحسب وانما أيضاً بين صفوف العاملين لحساب اللجنة الخاصة المكلفة بإزالة الأسلحة العراقية المحظورة اونسكوم هو التالي: ما الذي سيضمن استمرار الرقابة البعيدة المدى لبرامج الأسلحة العراقية بعد زوال العقوبات التي تجبر بغداد على التعاون مع اونسكوم؟ السؤال في حد ذاته منطقي من جهة، ولئيم من جهة أخرى. لئيم لأنه ينطوي على تحقيق غاية استمرار اخضاع العراق لعقوبات مضنية تهلكه شعباً وبنية تحتية حتى بعد أن ينفذ كل مطلب وأمر للجنة الخاصة التي تحمل مفتاح رفع العقوبات عن العراق. ولئيم لأنه أخطر من سياسة غير قانونية أصلاً هي سياسة بقاء العقوبات على العراق طالما ان نظام صدام حسين في السلطة. ولئيم لأنه لا يتردد في تقنين العراق وشعبه رهينة شكوك واحتمالات مفتوحة على أي احتمال بغض النظر عن بقاء هذا النظام في السلطة أو استبداله بنظام آخر. في الوقت ذاته يبدو السؤال منطقياً وله مبرراته القانونية والسياسية، ذلك أن تدجين العراق ومنعه من استعادة قدراته العسكرية المحظورة قرار دولي تم اتخاذه بالاجماع. وبالتالي، من حق اونسكوم وواشنطن طرح السؤال عن ضمانات استمرار الرقابة البعيدة المدى الضرورية للحؤول دون استئناف العراق برامج الأسلحة الكيماوية والبيولوجية والنووية المعروفة بأسلحة الدمار الشامل. كذلك، ان طرح السؤال منطقي لسببين رئيسيين هما: اولاً، سجل الحكومة العراقية الحافل بالاخفاء، ما يجعل صعباً تصديق مزاعما بأنها تخلت كلياً عن أهداف إعادة إحياء برامج أسلحتها المحظورة. ففي ذهنها، لا شيء دائماً الى ما لانهاية. ثانياً، ان قراءة الاجواء العربية الشعبية تفيد بادراك الرأي العام خلل موازين القوى الاقليمية واعتباره قراراً اميركياً مجحفاً في حق الطرف العربي ينطوي على كراهية وعنصرية ضد العرب. وبالتالي فإن التساؤل عن الاستعداد العربي للقبول باستمرار تحييد العراق برقابة دولية على المدى البعيد ليس تساؤلاً اعتباطياً. فمقوماته منطقية. هذا السؤال مطروح على الجميع، والرد عليه أساسي وجذري في اطار بقاء العقوبات على العراق أو احتمالات رفعها. انه الحلقة الثانية الرادعة لرفع العقوبات في حال سقوط الحلقة الأولى التي تعتمدها واشنطن مهما نفت، وهي حلقة بقاء العقوبات على العراق طالما أن صدام حسين في السلطة. منطقياً، يمكن القول إن معالجة الخلل في موازين القوى الاقليمية هي السبيل الأكثر ضماناً لاحتواء أي رغبة عربية في اخراج العراق من خانة التحييد والمراقبة البعيدة المدى لبرامج تسلحه. يمكن القول أيضاً ان الجدية في اخلاء منطقة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل هي الضامن الأول لإبقاء العراق تحت الرقابة الدولية باجماع اقليمي. ويمكن الاضافة ان انجاح عملية السلام ونقل المنطقة الى تعايش سلمي حقيقي ينسف عملياً أي رغبة عربية في إحياء العراق في إطار العمق الاستراتيجي العربي في مواجهة اسرائيل. المشكلة في المنطق هذا ان الولاياتالمتحدة تدرك استحالته. فاسرائيل ستبقى دولة نووية تحتفظ بأسلحة محظورة في وقت السلام كما في زمن الحرب. واسرائيل تعتبر امتلاكها سلاحاً نووياً رادعاً ضرورياً في ظل السلم كما تعتبره وقائياً في ظل الحرب. ثم ان تعزيز علاقات شراكة عسكرية واستراتيجية على نسق العلاقة التركية - الاسرائيلية ليس تطوراً عابراً وانما سياسة راسخة بين أهم أهدافها تقليص الوزن العربي في موازين القوى الاقليمية. اما ايران فالعداء معها مسألة عابرة نسبياً اذ أنها في نظر الغرب عموماً دولة رئيسية في آسيا الوسطى كما في الشرق الأوسط أساس العلاقة معها إما تهادني أو انه يصب في خانة الشراكة. عربياً، يبقى العراق المفتاح الرئيسي في اطار موازين القوى. وهذا جزء أساسي من السياسة الأميركية الاستراتيجية نحو هذا البلد. ركيزة هذه السياسة ليست بقاء أو زوال صدام حسين. انها بقاء العقوبات على العراق. فواشنطن مصرّة على استمرار العقوبات في وجه أي ضغط أو أي اجماع اقليمي أو دولي. مصرة عليه حتى وان كان بقاء نظام صدام حسين في السلطة الوسيلة الوحيدة لتحقيقه. بل انها قد تعمل من أجل بقاء النظام اذا كان هذا هو المفتاح الوحيد لاستمرار العقوبات. فهدف العقوبات ليس اسقاط النظام. هدفها اسقاط العراق، بمقوماته وقدراته وعلمائه وكفاءاته، من المعادلة الاقليمية. هدفها نقل تحييد العراق وتدجينه من عناوين القرارات الدولية الى منظومة شبه أبدية، وإبقاء لجنة اونسكوم أداة رئيسية في تحقيق هذا الهدف. لهذا السبب تشعر لجنة اونسكوم ورئيسها ريتشارد بتلر بذلك القدر العظيم من الثقة بالنفس والقدرة على الاملاء. ولهذا السبب ترفض اونسكوم ويرفض بتلر فكرة "اغلاق" الملفات تدريجاً، والتي تنص على نقل ملفات التسلح مثل ملف التسلح النووي أو ملف الصواريخ من خانة نزع السلاح الى خانة الرقابة البعيدة المدى، ملفاً تلو الآخر. فواشنطن ليست جاهزة للتعاطي مع مرحلة الرقابة البعيدة المدى، ووظيفة اونسكوم ان تماطل وتؤجل نقل الملفات تدريجاً الى تلك المرحلة، في انتظار استنتاجات واشنطن وقراراتها. ماذا أمام العراق والعرب من خيارات؟ يوجد رأيان، ولكل منهما حجج منطقية قوية. رأي يقول ان على العراق امتطاء موجة التدجين والعقوبات والانتظار الى حين استكمال تفاعل التطورات الاقليمية والدولية، الشعبية والحكومية، وبعد ذلك يستعيد العراق مركزيته في العمق العربي، سياسياً كما عسكرياً، ويلعب دوره الطبيعي في موازين القوى الاقليمية. رأي آخر يقول ان موازين القوى لم تعد فقط عسكرية بل ان هناك دوراً مميزاً للدول ذات الوزن المدني الثقيل، مثل اليابان والمانيا، في العلاقات الدولية. وبالتالي، فمن مصلحة العراق التخلي تماماً عن أي طموحات عسكرية ليدهش الموازين بثقل مدني وديموقراطي يشكل انقلاباً جذرياً على موازين القوى التقليدية ويثبت جدارة وتأثيراً عظيمين اقليمياً ودولياً. الرأي الأول تقليدي تم اختباره، وله ميزاته في معادلات القيادة والزعامة والتصدي لسياسات غير عادلة، بل عدائية، ولممارسات تفتقد التوازن والعدالة والصدق في العلاقات. الرأي الثاني عصري وخلاّق وثوري في بيئته قد يؤدي الى احباط سياسات تقوم على التنبؤ الروتيني بما هو آتٍ من الفكر العربي المعهود والسائد. من ناحية يبدو أن القرار في يد واشنطن قطعاً. من ناحية أخرى توجد أرضية خصبة لتحويل الافتراض الاوتوماتيكي الى مفاجأة مدهشة عبر الانقلاب على القرار الأميركي بقرار عربي. المهم التفكير بصياغة قرار. فالمسألة ليست صدام حسين وانما العراق. الرئيس العراقي بالتأكيد مساهم أساسي في صياغة القرار العراقي والعربي. إنما القرار ليس عراقياً فقط وانما هو قرار عربي له بعد وتأثير كبيران في مستقبل العراق كبلد، وفي مستقبل العراق في الثقل العربي في موازين القوى الاقليمية. معظم الدول العربية يتمنى تجنب الموضوع، وبعض الدول العربية يختلف جذرياً مع أولويات السياسة الأميركية وهذا البعض يعتبر أن أولوياته هي الخلاص من النظام القائم في العراق ومع زوال النظام تزول العقوبات. هذه ليست الأولويات الأميركية ولا هي السياسة الأميركية. وأضعف الايمان ان تبدأ القيادات العربية التفكير في معنى ومغزى الأولويات الأميركية بتفهم وفهم لمنطقها من أجل صياغة ردود واضحة عليها. فالتملص في شأن كمستقبل العراق يضع القيادات العربية في كفة موازية لمسؤولية النظام في بغداد عن مصير العراق كدولة وكثقل في موازين القوى الاقليمية.