منذ سقوط جدار برلين، لم يشهد العالم اضطراباً سياسياً مفاجئاً وغير متوقع مثل اطاحة الرئيس الاندونيسي سوهارتو في مايو أيار المنصرم. ففي غضون أسابيع قليلة، تمكن "طلبة دفعة 98"، كما أطلق الطلبة الاندونيسيون المحتجون على أنفسهم، من اطلاق حركة ضخمة أجبرت رئيس الدولة على الاستقالة، بعدما كان يمسك بقبضة صارمة على البلاد، مكّنته قبل شهرين فقط من اندلاع الأحداث، من أن يحصل على موافقة جماعية من مجلس الشعب الاستشاري على فترة حكم أخرى له تمتد لسبع سنوات. هذه النهاية المثيرة للتحول من "المعجزة الآسيوية" الى "الأزمة الآسيوية" تبين الخلل السياسي الخطير في ما كان يفترض أن يكون نموذجاً للتطور الاقتصادي في حقبة ما بعد الحرب الباردة. ومن المهم خصوصاً أن نتذكر أن هذه الأحداث وقعت في أكبر دولة مسلمة في العالم. وقد كان اعلان أمين رايس، وهو رئيس جماعة اسلامية تطلق على نفسها اسم محمدية ويبلغ عدد اعضائها 25 مليون نسمة، بأن "على السيد سوهارتو أن يستقيل ويتنحى، وأن يعجِّل بذلك" بمنزلة نقطة تحول في الأحداث. كانت الطبقات الشعبية الريفية والحضرية أكثر من عاني من الأزمة الاقتصادية. وقد حاول سوهارتو مراراً وتكراراً أن يهدئ من ثورة شعبه، وهو اسس في عام 1990 الاتحاد الاندونيسي للمفكرين المسلمين، برئاسة حبيبي، وذلك لتحسين صورته بين المراقبين. وحتى اندلاع الأزمة، كان يُعتقد أن القوى الاسلامية تم احتواؤها سياسياً. وفي حقيقة الأمر، طلب حبيبي من رايس أن ينضم الى مجلس وزرائه، لكن الأخير رفض عرض حبيبي. ان المثال الاندونيسي وثيق الصلة بالعالم العربي، ففيه لا نرى قضية السلطوية والتبعية فحسب، ولكن نرى التخوّف من الحركات الاسلامية ومحاولة احتوائها. وفي حقيقة الأمر، إذا كانت الاطاحة المفاجئة والمتطرفة بالقيادة حتى هذه اللحظة مقصورة على اندونيسيا، فإن القضايا الايديولوجية المحيطة بتركيبة التطورات الاقتصادية والسياسية مألوفة لنا جميعاً. فاندونيسيا كانت "نمراً" آسيوياً نموذجياً، إذ كانت تتمتع بمعدلات نمو عالية على مدى سنوات عدة، مولِّدة تنمية حقيقية، وان كانت مشوشة ومضطربة. وكان الحل المقترح أن تطوِّر اندونيسيا اقتصاداً تصديرياً نشطاً، مفتوحاً على أسواق العالم، وجاذباً لرؤوس الأموال الأجنبية، في ظل ما تتمتع به من رواتب منخفضة ومعدلات عائد عالية. أما أن نظام هذه "السوق المفتوحة" كان غير ديموقراطي في أساسه، وترأسه زمرة من الأصدقاء المقربين، فإن ذلك كان انعكاساً ل "القيم الآسيوية"، التي مجدت العمل والنظام وفضلته على فوضى ممارسات الديموقراطية "الغربية". وفي الحقيقة كانت الفكرة السائدة حينها هي أن النمو الاقتصادي والخبرة الاقتصادية يمكن أن يحلا محل التغيرات السياسية. ولكن، في ظل أسواق عالمية غير منتظمة، يمكن أسواق التصدير أن تتلاشى شيئاً فشيئاً، وكذلك الأمر بالنسبة الى رؤوس الأموال الأجنبية المحفزة للنمو الاقتصادي التي يمكن أن تختفي في لحظة، كما أن رأسمالية عدم تدخل الدولة ستنقلب حتماً الى توأمها الشرير، أي حال مفزعة من الإفلاس. وبالتالي، فإن المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي ستتدخل وتفرض برامج تقشف لتسديد الدائنين الأجانب الذي لم يخرجوا من الأزمة في الوقت المناسب. أما ملايين الاندونيسيين الذين فرّوا من فقر المناطق الريفية، ليعملوا في المصانع الواقعة في المدن، ويسكنوا في أحيائها الفقيرة، على أمل أن تتحسن أحوالهم، وكذلك ملايين الطلبة الذين يتخرجون من الجامعات الجديدة من دون أن تتوافر لهم الوظائف، هؤلاء جميعاً سيشعرون فجأة بأن نبض الديموقراطية متوافق تماماً مع "آسيويتهم"، حين يبحثون عن ثروتهم الوطنية التي ابتلع معظمها النخبة لأنفسهم. وأخيراً، فإن صندوق النقد الدولي والغرب سيشعران بالصدمة، تلك الصدمة التي سببها أنهم لم يلحظوا هذا الفساد والشللية والسلطوية طوال الأعوام الثلاثين الماضية، وعندها سيشجعون هم أنفسهم "الدمقرطة" كمسكّن "لإعادة التنظيم الهيكلية". وهكذا ينتهي نظام "مستقر" استمر لأعوام طويلة في السلطة في غضون أسابيع قليلة. هذه هي دورة الأحداث في اندونيسيا. اذ تضاعف تدفق رأس المال الى المنطقة أربع مرات بين عامي 1988 و1996. وفي حين أن استثمارات المضاربات المتقلبة في محافظ السندات المالية ازدادت بنسبة 46 في المئة، انكمشت الاستثمارات المصرفية التجارية والتنموية الأكثر استقراراً الى 10 في المئة فقط. ومع سحب رؤوس الأموال المفاجئ بسبب الافراط الانتاجي والمشكلات الاقتصادية اليابانية، هبط الاقتصاد الاندونيسي هبوطاً مفاجئاً، اذ قدّر هبوطه الانتاج في عام 1998 بنسبة 20 في المئة. أما الأثر الاجتماعي لذلك فهو فقر ملايين الاندونيسيين. ففي أقل من ثلاثة أشهر، انخفض دخل الفرد في اندونيسيا من 1300 إلى 300 دولار سنوياً. كما قاربت البطالة نسبة 20 في المئة وأضحى نصف العاملين في القطاع الصناعي بلا عمل، ومحصلة كل ذلك ازدياد عدد الجياع. طلب صندوق النقد الدولي مقابل المساعدة المالية الخاصة لاندونيسيا، وهي تبلغ 43 بليون دولار، أن تطبق اندونيسيا برنامجاً تقشفياً لتغطية الدَين الخاص الذي تعانيه الشركات المحلية. وما أن زادت الحكومة أسعار الوقود بنسبة 70 في المئة حتى اندلعت الموجة الأخيرة من الاحتجاجات في فترة مبكرة من العام. وتم الضغط على سوهارتو نفسه للتخلي عن احتكاره لصناعات معينة وكان سبباً في بلوغ ثروته 30 بليون دولار أميركي. أما البنك الدولي، الذي يعتقد أنه كان على دراية بأن ثلث رأس المال الذي يصب في الدولة تقريباً كان يسرق، فيقدر أنه حتى عام 2015 يتعين على اندونيسيا أن تنفق 192 بليون دولار أميركي لتحسين البنية التحتية الأساسية المياه والصرف الصحي والمواصلات وغيرها. ومن المستحيل الآن توفير مثل هذه الاستثمارات العامة. أثارت الأزمة أسئلة من مختلف الأطراف حول الآثار المدمرة لتدفق رأس المال العالمي غير المنظم بتاتاً. ويشير بول كروجمان، وهو اقتصادي من جامعة MIT، في مقالة له الى أن ضبط رأس المال بعض الشيء قد يساعد الدول الآسيوية في كبح الأزمة. وفي هذا السياق تدخلت ماليزيا الى حد جعل العملة المملوكة خارج الدولة تفقد قيمتها بعد مضي شهر، وتقييد السحوبات من النقد الأجنبي لمدة عام. أما هونغ كونغ فتدخلت في أسواق رأس المال. كما يشير كروجمان أيضاً الى "نفاد الصبر عموماً في محاولة إرضاء الأسواق العالمية... فالمستثمرون الدوليون يطلبون ويطلبون، ويبدو الآن أن هذه الدول لن تنجح في ذلك أثناء انشغالها بإعادة بناء اقتصاداتها". أما نوردن سوبي من معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية في كوالالمبور، الذي أسهم في وضع تشريعات ماليزيا الجديدة، فيعبر عن ذلك بشكل حاد حين يقول: "اننا نؤمن بأن النظام الدولي للمتاجرة بالعملات فقد صوابه... ولا يبدو أن هناك بديلاً آخر". ومن السخرية أن أحداً لم يعبر عن ذلك بعبارة بليغة مثلما فعل سوهارتو نفسه، الذي قال في قمة مجموعة ال 15 التي عقدت في جاكارتا في نوفمبر تشرين الثاني الماضي: "بين ليلة وضحاها، تسببت تقلبات تدفق رأس المال وأسواق المال في ارتداد التقدم الاقتصادي والاجتماعي للدول النامية... محطمة عملاً دؤوباً وتضحيات استمرت لعشرات السنين". من الواضح لنا جميعاً أن الدول لا تستطيع أن تقف مكتفة الأيدي وهي تشاهد مواطنيها يعانون من أجل تطبيق مبدأ السيولة العالمية الكاملة. ومن المؤكد ان المواطنين أنفسهم لن تكون معاناتهم في صمت، فلا بد للاقتصاد العالمي أن يعيد اعطاء الجوانب الاجتماعية أولوية على سواها. وقد أدرك رئيس البنك الدولي جيمس ولفينسون ذلك مؤخراً حين قال: "علينا أن نركز على القضايا الاجتماعية... لأنه إذا لم تكن لدينا القدرة على معالجة الأحوال الاجتماعية الطارئة، وإذا لم تكن لدينا الخطط بعيدة الأمد لمؤسسات راسخة، وإذا لم تكن لدينا العدالة والمساواة الاجتماعية، فلن نعرف استقراراً سياسياً، وإذا لم يتحقق الاستقرار السياسي فمهما جمعنا من أموال في اتفاقيات مالية فإنها لن تعطينا استقراراً مالياً". هناك الكثير من القضايا المطروحة هنا والمرتبطة في عدد من المجتمعات العربية التي تمر في تحولات. وتذكرنا الأوضاع الاندونيسية بمخاطر الاقتصاد المعولم الجديد، وليس هذا فحسب، بل تذكرنا بهشاشة الأنظمة، حتى المحصنة منها. ولا بد أن تبقى الاصلاحات السياسية مطروحة، ومن الحماقة أن ننظر الى نقيض ذلك بحثاً عن "الاستقرار". وليس لنا أن نستغرب أن أكثر الأنظمة المحصنة كان أسرعها سقوطاً! فممارسات الماضي التي بدت أبدية في العديد من الدول ليست بمنزلة الأعاصير السياسية والاقتصادية لمرحلة ما بعد الحرب الباردة، سواء في آسيا، أو في الاتحاد السوفياتي السابق، أو في العالم العربي ذاته. ولا بد أن نكون في العالم العربي على قدر هذه التحديات، وبوسعنا أن نكون كذلك، استعداداً لمستقبل مشرق تستحقه شعوبنا. * مؤسس "معهد الدراسة عبر الاقليمية لشمال افريقيا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى" في جامعة برنستون.