تبقى الجولة السياحية في ارجاء دمشق ناقصة اذا لم تنتهِ بزيارة احد اهم معالمها التاريخية الذي يبرز طابعها التجاري ويتمثل في الخانات التي ما زالت تمارس حتى الآن الدور المرسوم لها بتمركزها في الاماكن التجارية والحرفية والصناعية وسط اشهر المواقع الاثرية في دمشق القديمة. وما بقي من الخانات في اسواق دمشق القديمة صار محمية باعتبارها من الابنية الاثرية التي تتحدث عن الماضي. وعلى رغم انها مازالت تمارس الوظائف التجارية فإن معالمها وأساليب توظيفها تبدلت الى مشاغل ودكاكين ومكاتب ومستودعات واصبحت اسعارها حالياً اغلى من "الشانزليزيه" كما يقول أحمد اللحام مالك احد المحال في خان الصدرانية وسط سوق البزورية الشهير. يؤكد اللحام الذي تعود ملكية محله الى جده منذ 400 عام، ان عمليات البيع والشراء للمحال داخل الخانات "قليلة لأن الاسعار اصبحت مرتفعة جداً وهي اغلى من الشانزليزيه". ويضيف ان النشاطات التي يضمها الخان اصبحت متنوعة فهناك تجار الاقمشة والنسيج الى جانب بائعي العطورات والرز والشاي ومكاتب الاستيراد والتصدير والحلاقين والاسكافيين وغيرها. اللافت ان اهم الخانات الباقية في دمشق لا تزال قائمة في الاسواق التجارية التي تحيط بالجامع الاموي من الجنوب والغرب وبصورة خاصة في اسواق مدحت باشا والبزورية والصاغة والحرير والخياطين حيث تمارس وظائفها ضمن الاماكن التجارية والحرفية والصناعية، غير ان عددها قليل لا يقارن مع ماكانت عليه في العهود الايوبية المملوكية اذ بلغت مائتين وخمسة وثمانين خاناً لمختلف الاختصاصات التجارية والفندقية والعسكرية والبريدية. وجاء في المصادر التاريخية ان الخانات برزت بعد الفتح الاسلامي لدمشق وقيام الدولة الاموية التي انشأت شبكاتها الادارية والعسكرية والبريدية وتعددت اغراضها في المرحلة الاولى كأبنية للاجتماع والمبيت وتخزين البضائع وعقد الصفقات. وتعددت وظائفها بين ايواء القوافل وتموينها وبين كونها مقراً للمقاتلين او منشآت لأغراض البريد او العمل الفندقي البحت. وتضيف المصادر ان كلمة الخان ذات الاصل الفارسي استخدمت منذ بداية العصر الاسلامي للاشارة الى الخانات التي اقيمت على الطرق بين المدن ثم اطلقت على الخانات التي اقيمت داخل المدن تلبية للحاجة المتعاظمة. وتنقسم الخانات من حيث الملكية الى ثلاثة اقسام: سلطانية اي انها ملك للسلطان او الدولة التي يقيمها ولاة الاقاليم وفق امر من السلطان نفسه، وفي العهد العباسي كان الوزراء يكلفون ببناء الخانات لأهداف عسكرية او تجارية او بريدية او لايواء الحجاج. النوع الثاني هو الخانات الخيرية التي انشئت لتقدم الموارد الثابتة للمؤسسات التربوية او الخيرية. اما النوع الثالث فهو الخانات التي ينشئها الاثرياء والتجار واصحاب النفوذ لاستثمارها من اجل الربح. وأنشىء في دمشق خان واحد في القرن الثامن الميلادي خلال العهد الاموي سمي "دار الضيافة". وفي القرن التاسع اقيم خان عباسي اطلق عليه فندق "أماجور". وفي القرن العاشر خان عباسي اخر سُمي "خان البطيخ". ثم اطلق اسم "القيسارية" على خانين شيّدا في العهد الفاطمي. وفي عهد نورالدين الزنكي البطل الاسلامي الذي وحد الشام ومصر ارتفع عدد الخانات او القيساريات الى 22 دفعة واحدة تبعاً لتطور دمشق مع قيام وحدة الدولة وازدهار التجارة بين مصر والشام والعراق. واعتبر المؤرخون انشاء قناة السويس وظهور السفن التي تسير بالبخار ضربة وجهت للخانات بسبب تحول طرق التجارة الى عرض البحر ثم جاءت الضربة الثانية مع ظهور السيارات التي تعمل بالنفط وزوال ظاهرة القوافل وتبدل خارطة الطرق التجارية العالمية. ويقف اليوم خان "أسعد باشا" الى جوار الجامع الاموي وقصر العظم على رأس خانات دمشق بصورة خاصة والمشرق العربي عامة من ناحية ضخامة البناء وقوة التصميم وفخامة المدخل وتعدد الاقسام. ويحمل الخان اسم أسعد باشا والي دمشق بين عامي 1743 و1756 الذي بناه على مساحة تزيد عن 2500 متر مربع من وسط سوق البزورية الشهير. واستملكته وزارة الثقافة اخيراً وأعادت ترميمه وأنفقت علىه مبالغ طائلة حتى استعاد نظافته ومتانته وتوازنه وتدرس وزارتا الثقافة والسياحة حالياً الطريقة المثلى لتوظيفه بشروط تصون عمارته وأقسامه وتظهره بالشكل اللائق. وتزدان واجهات الخانان الدمشقية عموماً بأقواس من المقرنصات والزخارف والحجارة الوردية والكتابات التاريخية والابواب الخشبية الكبيرة والنوافذ الحجرية والقباب ويتمتع الفراغ الداخلي بمشهد ضخم يعود بنا الى اجواء القرون الوسطى. وتدرس وزارتا الثقافة والسياحة استملاك عدد آخر من الخانات للحفاظ عليها رغم كلفة ترميمها الكبيرة الا انها تعتبر صروحاً عمرانية شاهقة تشهد على عبقرية واضعي التصميم ومعلمي البناء ودقة الحرفيين ومتانة البناء العربي. وفي جولة على الخانات الباقية في دمشق يطالعنا خان "العمود" وخان "الصدرانية" في سوق البزورية، وخان "جقمق" في سوق مدحت باشا من العصر المملوكي وكان انشأه سيف الدين جقمق نائب السلطنة بين عامي 822 و824 هجرياً في مدخله اكبر بوابة مزخرفة مشرعة لخانات دمشق اعيد ترميمه بعد حريق وتشغله متاجر الجوخ والاقمشة والخيوط. وخان "الخياطين" يتوسط الجانب الشرقي من سوق الخياطين انشأه الوالي العثماني شمسي باشا عام 963 هجرياً ويعتبر اقدم خان عثماني في دمشق. وخان "الحرير" بناه الوالي العثماني درويش باشا عام 981 هجرياً وهو الآن في الموقع المواجه لمنطقة الحريقة التجارية، وخان "الجمرك" بناه الوالي مراد باشا 1596 ميلادياً ويقال انه كان وقفاً على فقراء الحرمين الشريفين ثم انقلب الى ملكية خاصة اضافة الى خانات اخرى.