ما يجري اليوم على الساحتين الفلسطينية والعراقية خصوصاً والعالم العربي عموماً، هو نتيجة حتمية للخلل الذي أصاب في الصميم كثيراً من القيم والأخلاقيات التي كنا نعتز بها حتى وقت قريب. هذا الخلل نرى انعكاساته في انهيارات واقعة على كل الأصعدة بلا استثناء: السياسي والاقتصادي والعسكري والفني والرياضي والاجتماعي والثقافي والاكاديمي والتعليمي، حتى اصبح المهتمون يتساءلون في حيرة: كيف السبيل إلى التغيير؟ في علم المعادن "الفلزّات" يتحول المعدن من طور إلى طور آخر إذا توفر له المناخ الملائم والوقت الكافي والقوة الدافعة لإحداث التحول المنشود. والفرق بين الطورين القديم والجديد ينبع أساساً من البنية الهيكلية الفريدة Atomic Strucure المميزة لكل طور والتي تنتظم فيها الذرات، مما ينتج عنه خواص طبيعية وميكانيكية مختلفة، علماً بأن الذرة المكونة للطورين وحدة البناء هي نفسها لم تتغير. ويتطلب تكوين الطور الجديد إجراء عمليتين ناجحتين هما التنوية والنمو: أي تكوين عدة أنوية - من عدد قليل من الذرات ببناء هيكلي مختلف عن بنية الطور الأول - تتيح لها الظروف فرصة للنمو وتخطي الحجم الحرج الذي إذا فشلت النواة في الوصول إليه تذوب وتفنى. لكي تصل نواة الطور الجديد إلى الحجم الحرج لاپبد من نزوح الذرات إليها بعد فك ارتباطها بالطور القديم، على أن تستمر عملية النزوح تلك حتى تتخطى النواة الحجم الحرج الذي يصبح بعده استمرار نموها مسألة وقت فقط. هناك نوع آخر من التحولات الطورية يحدث عند طش المعدن في الماء من درجة حرارة مرتفعة. هنا يتحول المعدن في جزء من الثانية إلى طورجديد يتميز بقوة وصلادة فائقتين غير أنه يعيبه عدم الاتزان، بمعنى أنه لا يلبث - فور تعرضه لضغوط أو ارتفاع طفيف في درجة الحرارة - أن يرتد مع مرور الوقت إلى الطور المتزن الذي كان ينبغي أن يتحول إليه لو كان التبريد قد تم بداية ببطء بدلاً من أسلوب الطش العنيف. هذه الأطوار غير المتزنة يمكن أن تبقى على حالها إلى ما شاء الله في غياب المؤثرات الخارجية. أيضاً، بالإضافة إلى القوة والصلابة والصلادة، يجب أن يتميز المعدن بالمرونة، أي بقليل من القابلية للتشكيل. أما إذا كان المعدن "ناشفاً"، كما حال الأطوار غير المتزنة، فإنه قد يتفتت عند تعرضه لإجهادات أو ضغوط. من الأمثال المأثورة في مصر مقولة "الناس معادن" التي تقرن أخلاق وسلوك الناس بخواص المعدن. فمن الناس من هم مثل الحديد: صلد قوي صعب الانصهار. ومنهم من هم مثل الألومونيوم: ليّن ضعيف سهل الانصهار. والمقارنة المعقودة في هذا المقال ليست بين المعدن والإنسان بقدر ما هي بين الأطوار التي توجد فيها المعادن وتلك التي تتقلب بينها الأمم والمجتمعات الإنسانية. الفارق بين الذرة في المعدن والإنسان وحدة البناء في المجتمع هو أن الذرة تلتزم تلقائياً بقوانين وسنن ثابتة في كون الله، بينما الإنسان لديه حرية الاختيار بين الالتزام بهذه القوانين وانتهاكها. قد يحدث أن يتحول طور ضعيف إلى طور قوي أو العكس، غير أن القانون الذي يحكم آلية التحول في كلا الاتجاهين هو سنة كونية راسخة، وطبيعة المناخ المتاح هي التي تحدد اتجاه التحول. والالتزام يعني الأخذ بفئتين من الأسباب مادية ومعنوية الكفيلة ببناء الهيكل المميز لكل طور، واللتين يستحيل الأخذ بفئة منهما دون الأخرى. لقد تقدمت المجتمعات الغربية إلى الأفضل لأنها عبدت شهواتها شكلاً ومضموناً وأخلصت لها النية، فسهل عليها بالتالي الأخذ بأسباب المادة. أما شعوب المسلمين فقد عبدت الله شكلاً فقط دون إخلاص النية، فعجزت عن التقدم المادي المجتمعات المسلمة في حاجة إذن إلى عملية تحول طورية كتلك التي تحدث في المعادن على أن تتكون النواة الإنسانية من أفراد صالحين ملتزمين بالقوانين الكونية لا تشوب أعمالهم مصلحة شخصية أو منفعة مادية. * كاتب مصري.