بدأ مشروع «محطة الفضاء الدولية» International Space Station يأخذ طريقه نحو الاكتمال. فبعد ست رحلات مقبلة، ينتهي الفريق المُكلّف من وضع اللمسات النهائية على بنيانها، منهياً بذلك 12 سنة من عمليات البناء غير المسبوقة في الفضاء. وبحسب عقد وقّعه الكونغرس الأميركي عام 2008، يكتمل البناء في عام 2010، عندما تصل إلى المحطة قطعة أخيرة تُعقد الآمال عليها في رصد «شيء» غير عادي البتّة. الأدق القول انه ليس «شيئاً» بالمعنى الذي عرفته البشرية في تاريخها. الأصح القول انه «عكس الشيء»، لأن الأمر يتعلق برصد «المادة المُضادة» («أنتي ماتر» Anti-Matter) وتجمّعاتها في الكون، بل حتى مجرّاتها، إن وُجِدَت. وليس مفهوم المادة المُضادة سهلاً ولا محسوماً. فمنذ الحضارة اليونانية القديمة، اعتاد البشر التفكير في المادة، باعتبارها تتألف من أشياء صغيرة هي الذرات ومكوّناتها الداخلية الدقيقة. وتتألف المادة المُضادة من «ذرّات» (الواقع أن هذه الكلمة تستخدم هنا بمعنى مجازي) لها خصائص تعاكس الذرات التي تتألف منها المادة! مثلاً، تملك الذرّات إلكترونات لها شحنة كهربائية سلبية. وأما المادة المضادة، فإن إلكتروناتها تحمل شحنة كهربائية سلبية. وهكذا دواليك. ويُشبه البعض العلاقة بين المادة وبين «المادة المُضادة» بالعلاقة بين الإنسان وصورته في المرآة. والمفارقة أن تلاقي المادة مع «مُضاداتها» يؤدي إلى تلاشيهما معاً، فكأنهما يذوبان في بعضهما البعض، مع إطلاق كمية من الأشعة! مجس المغناطيس: مفتاح الألغاز لا يزال العلم في بداية الطريق في معرفة المادة المُضادة. ولذا، ضمّن العلماء «محطة الفضاء الدولية» جهازاً يتخصّص في رصد تلك «المادة». وأطلقوا عليه اسم «مجس ألفا المغناطيسي» («ألفا ماغناتيك سينسور» Alpha Magnetic Sensor). بلغت كلفته ملياراً ونصف مليار دولار. بالإضافة الى التعرّف إلى مجرّات «المادة المضادة»، سوف يختبر هذا المجس النظرية المتعلقة ب«المادة القاتمة» Dark Matter، التي تسمى أيضاً «المادة السوداء» Black Matter. ويفترض ان تلك المادة تشكّل 83 في المائة من الكون. كما يختبر ذلك المجس مواد «غرائبية» تتصل بنيتها بنوع «ثقيل» من الكواركات Quarks. ما هو الكوارك؟ إنه جسم متناهي الصغر، تتألف منه المكوّنات الداخلية للذرة. لذا، يعتقد العلماء ان فهم هذه المواد «الغرائبية» يساعد العلماء على دراسة «أشباه النجوم» الصغيرة الحجم، والثقوب السود المتناهية في الصغر، اذا وُجدت تلك الأشياء أصلاً! من المستطاع تحسّس وجود هذه الظواهر «الغرائبية» عبر التقاط الاشعاعات التي تصدر عنها، وهي بالضبط مهمة المجس المغناطيسي في «محطة الفضاء الدولية». ومن الواضح أن العلماء لا يعرفون سوى النزر اليسير عن هذه الظواهر. لذا، يراهنون على أن نجاح مهمة المجسّ المغناطيسي ستفتح أمام العقل البشري حقولاً لم تكن تخطر لأشد خيالاته جموحاً. ثمة «وجه آخر» للكون ربما عثر عليه المجس، وفتح الباب أمام التعمّق في أسراره. وتعطي «المادة- المُضادة» نموذجاً من ذلك. فماذا يعني أن يكون للمادة «عكسها»؟ وكيف يمكن ان نتخيل «مُضاد الجاذبية» Antigravity مثلاً؟ نعرف أن الجاذبية قوة تشد الأشياء إلى بعضها وتربطها، فكيف يكون حال القوة التي تفعل عكس ذلك، فتدأب على الإبعاد والتمزيق والتشظي؟ ما الذي تفعله قوة بهذه الصفات في الكون؟ مثال آخر. نعلم ان المادة تكون صلبة أو سائلة أو غازية، فكيف تكون المادة المُضادة لها في تلك الأحوال؟ كيف يكون مُضاد السائل؟ ما هي مواصفات مُضاد الغاز؟ كيف يُقاس مضاد الصلابة؟ من الواضح أن العلماء يعقدون رهانات كبرى على المجس المغناطيسي في «محطة الفضاء الدولية»، الذي يأملون أن يعطيهم مفاتيح لتلك الألغاز المُعقّدة. في مطلع القرن العشرين، وضع العالِم الشهير ألبرت أينشتاين معادلة تفيد أن المادة تعطي من الطاقة بما يتناسب مع سرعتها. وإذا وصلت السرعة الى سرعة الضوء، تحوّلت المادة كلياً إلى طاقة هائلة. الأهم من ذلك، أنه نادى بالعكس أيضاً، بمعنى أن الطاقة، إذا «ابتردت» تحوّلت الى مادة! وفي عشرينات القرن الماضي، درس فيزيائي شاب يدعى بول ديراك الإلكترون، ذلك الجسيم الصغير الذي يدور بلا انقطاع حول نواة الذرة، محملاً بشحنة كهربائية سلبية. وحلّل ديراك نشوء الالكترون على ضوء ما قاله أينشتاين من تحوّل الطاقة الى مادة. ومن خلال علم الرياضيات، توصّل ديراك الى أنّ ثمة حليّن ممكنين: أحدهما يتناسب مع وجود جسيم الإلكترون ذي الشحنة السلبية، والآخر «عكسه» وله شحنة كهربائية موجبة. وسمى ديراك الجسيم الآخر «الالكترون المُضاد». واختزله بكلمة «بوزيترون» Positron. وأدى ذلك الى بروز أسئلة عن احتمال وجود «مُضاد» لكل مكوّن في المادة وذرّاتها، بل وإمكان وجود «كون مُضاد» بالكامل! وراح علماء الفيزياء يتسابقون في وضع نظريات عن ذلك الكون «الآخر». ففي 1932، تفحّص كارل أندرسون، الذي كان استاذاً في «معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا»، خطوط الفقاعات المضيئة في «سحابة» في مختبر، والتي تتألّف من الجسيمات الإلكترونية الصغيرة التي تكوّن الذرات. ورصد أندرسون مرور جسيم ذات كتلة شبيهة بكتلة الإلكترون، لكنه سار بانحناء معاكس في الحقل المغناطيسي للغرفة، بمعنى أنه جسم له شحنة معاكسة للإلكترون. إنه بوزيترون. والتفسير البديهي لهذا الاكتشاف أن شعاعاً كونياً قد اخترق «السحابة» وجسيماتها، فولّد إلكتروناً وبوزيترونا، ثم... تلاشى. واستنتج أندرسون أن «مُضاد الإلكترون» موجود فعلياً، واستطراداً، لا بد من وجود «ذرة مُضادة» و«مادة مُضادة»، بل «كون مُضاد» بأكمله أيضاً! بعد ذلك، جرى اختراع آلة سُميّت «سيكلوترون» Cyclotron. وبفضل تقنيات كهربائية ومغناطيسية، يستطيع السيكلوترون أن يدفع الجسيمات الدقيقة التي تكوّن الذرة، بحيث تدور في سرعة هائلة، ما يترافق مع طاقة مرتفعة أيضاً. ومع تطوّر السيكلوترون، صار من الممكن دفع الجسيمات الذرية الدقيقة، كي تسير في سرعة قريبة من سرعة الضوء. وفي خمسينات القرن الماضي، استطاع سيكلوترون في أحد المختبرات الأميركية أن يصل بالمكوّنات الذرية الى سرعة مذهلة، وكذلك تمكّن من توليد جسيم مُضاد للبروتون وآخر مُضاد للنيوترون. والمعلوم أن البروتون والنيوترون هما المُكوّنان الأساسيان لنواة الذرة. وبذا، صار ما يشبه «مُضاد النواة الذرية» قابلاً للتصوّر. وأعطى ذلك الاكتشاف المزيد من الدفع للنظريات القائلة بوجود «كون- مُضاد». على محك ال«بيغ بانغ» يعتقد معظم الفيزيائيين بقوة أن إثر «الانفجار العظيم» (بيغ بانغ) تولدت كميات ضخمة، ومتساوية، من جسيمات المادة، مثل الالكترونات والبروتونات والنيوترونات، مترافقة مع «مُضاداتها». وبقول آخر، عند ولادة الكون، تواجدت كميات متساوية من المادة ومُضاد المادة. لكننا لا نعثر على جسيمات مُضادة إلا نادراً في الزمن الراهن، فكيف تبدّدت كمياتها التي يفترض أنها كانت وافرة عند ال«بيغ بانغ»؟ قدّم البعض حلاً «حسابياً» لهذه المعضلة. وقالوا انه لو حدث فارق بسيط بين المادة ومُضادها، ولو بمقدار واحد إلى مائة، لكان ذلك كافياً كي نصل الى الوضع الذي نعايشه. واقترحت نظرية أخرى أن كميات المادة ومُضادها كانت متساوية في ال«بيغ بانغ»، لكنهما لا يخضعان للقوانين الفيزيائية ذاتها، ما أدى إلى «انقراض» المادة المُضادة من جهة، وتشكّل الكون على الهيئة التي نتعرف إليها راهناً من الجهة الثانية. وفي هذا الصدد، لاحظ الدكتور تشارلز ميغن، الفلكي في «مركز مارشال للرحلات الفضائية» التابع ل«ناسا»، أنه في أيامنا هذه تمسح المراصد الفضائية التي تعمل بأشعة غاما السماء، فتتقصى البقايا التي تخلّفت من تلاشي «المادة المُضادة». والمعلوم ان تلك الأشعة تنجم من تصادم الذرّات مع مُضاداتها. ونبّه ميغن إلى أن ذلك الأمر يعني أيضاً أن المادة المُضادة تبقى موضوعاً محاطاً بالغموض. تجدر الإشارة الى أننا لا نعثر على المادة المضادة راهناً، إلا على هيئة ذرات منفصلة، وبشكل اصطناعي، أي أنها تستولد بواسطة آلات متخصصة. فمثلاً، يستعمل ال«بوزيترون» (وهو مُضاد الإلكترون) في تقنيات التصوير الطبي المسماة «تصوير الأورام بانبعاث البوزيترون» («بوزيترون إمشين فوتوغرافي» Positron Emission Photography)، كما يستعمل في دراسة المعادن التي تدخل في صناعة الدوائر الالكترونية. وتتولّد هذه البوزيترونات من المواد المُشعة التي تستعمل في تصوير الأشياء وتراكيبها. وعلى رغم الإفادة منها في التطبيقات الطبية وفي دراسة المواد، ما زالت تقنيات التعامل مع المواد المُشعة بعيدة عن تقديم ما يكفي من الإلكترونات المُضادة بشكل يكفي مثلاً لتزويد صاروخ فضائي للسفر عبرالأفلاك. ولا تزال الاختبارات العلمية ذات الصلة قيد التجربة في المختبرات المختصة. ولا يزال الإنتاج العالمي الحالي للمادة المُضادة، في المشروعات العلمية الكبرى، يتراوح بين جزء و 10 أجزاء من البليون من الغرام سنوياً! ومن الواضح أنه رقم بالغ الضآلة، ما يجعله بعيداً من الاستخدامات العملية، مثل صنع وقود من البوزيترون لتسيير مركبات الفضاء مثلاً. وعليه، فإن المادة المُضادة بمجرد وجودها، محكومة بأن «تصطدم» مع المادة، وتتلاشى في سيول من الأشعة. وتوصل العلِم الى بعض الطُرُق للتحايل على هذا المصير القاتم. فمثلاً، يعمد جهاز «توكاماك» الروسي إلى التحكّم بال«المادة المُضادة» من خلال حقل مغناطيسي معتدل القوة، يسلّط بطريقة مدروسة في انبوب فارغ، ما يبقي الجُسيمات المُضادة بعيده من الجدران المصنوعة من مادة بالطبع. وتستمر تلك الجسيمات المُضادة في الدوران بسرعة يمكن التحكّم بها من خلال حقل المغناطيس، بعيداً عن جدرانه المادية، بحيث تدور الجسيمات المشحونة بسرعة على مدارٍ تحدّده قيمة الحقل المغناطيسي. وهناك طريقة أخرى تستخدم تجهيزات خاصة من الليزر لتبريد المادة المُضادة بما يكفي لإبقائها معزولة عن المادة، بحيث لا يحصل تفاعل بين هذين النقيضين. وراهناً، يبحث الفيزيائيون عن فوارق ولو صغيرة، بين ميزات ذرات المادة و أنتي-المادة، آملين الوصول الى تأكيد أو نفي المفهوم السائد عن ضرورة تواجدها بشكل متساو عند ولادة الكون، وربما في ما تلاه من أزمنة أيضاً. ويفترض بعض العلماء أن المادة المُضادة تُمثّل الوعد الأكبر بطاقة نظيفة وهائلة المقدار، ربما تنقذ الكرة الأرضية وشعوبها من أزمتها مع الوقود الإحفوري وعوادمه وتلوثه، وما يترافق معها من احتباس حراري. وبرأيهم، فإن طناً من المادة المُضادة يمكنه سد حاجة الكرة الأرضية من الطاقة على مدار سنة. وبالتالي تستطيع الامم اخيراً إنجاز استقرارها وكفايتها الذاتية من الطاقة. ولذا، شرعت الدراسات والبحوث العلمية عن الاستعمالات التجارية للمادة المضادة، تأخذ حيزاً متزايداً في التخطيط للآفاق المستقبلية للجنس البشري، وخصوصاً لمغامرته في اكتشاف الفضاء. * أكاديمي لبناني