بين فترة وأخرى نستمع الى اخبار حول نشاطات افراد او جماعات من الجالية الكردية في الغرب بشكل عام وأوروبا بشكل خاص لا يلبث ان يلفها الصمت، ثم نعود من جديد الى الحديث عن نشاطات اخرى. قبل عقد من الزمن او اكثر كان احد المتخصصين الفرنسيين في تاريخ الاكراد السياسي يكرر بأنهم "يقومون بنشاط مثير ويرسلون الوعود على الاستمرارية فيه، الا اننا لا نسمع عنهم ومنهم شيئاً يذكر بعد وقت قليل، وكأنهم بذلك يذكّروننا بالحركات الكردية ذاتها في مفاجأة الانفجار وسرعة الخمود". يبدو ان المتخصص غير رأيه اليوم وصار يعتقد بأنهم باتوا يسلكون طريق الديمومة في العمل والنشاط السياسي او الثقافي او غيره. وأياً كان الصائب، رأيه اليوم ام رأيه بالأمس، فان الموضوع مطروح على البحث والتساؤل حوله امر مشروع. قد تشمل تلك النشاطات والتحركات اعمالاً سياسية جماعية او فردية تصل من اضراب عن الطعام الى تظاهرة ضد هذا البلد او ذاك يعامل الاكراد بقمع وقسوة. وقد يصل عدد المتظاهرين الى عشرات الألوف، كما يحدث عادة في التظاهرات التي ينظمها حزب العمال الكردستاني منذ ما يقرب من عشر سنوات. وهذا الحجم بالذات هو الذي يدفع الحكومات الأوروبية الى ان تحسب حساباً مستقبلياً خاصاً لهذه الجالية وللناشطين السياسيين منهم على الاخص. وقد تأخذ طريقة التعبير عن المواقف السياسية الكردية طابعاً عنيفاً، ان كان ذلك مع الآخر، لا سيما شرطة الدول التي تتم فيها التظاهرات، او مع الذات، كما يحدث في محاولات الانتحار حرقاً هنا وهناك املاً في التأثير على الرأي العام الغربي ودفعه الى ادراك ما يعانيه الاكراد في كردستان من سحق وإبادة. وتميز اكراد تركيا بهذه الاساليب في العمل دون غيرهم من الأكراد. تعود بداية وصول هذه الجالية الى أوروبا الغربية الى الستينات والسبعينات حين اخذ العمال الأتراك يهاجرون اليها بحثاً عن العمل في مصانعها التي كانت تدور بحيوية وتحتاج الى الأيدي العاملة. وكان من بين المهاجرين كثير من الاكراد الذين استقروا بشكل خاص في المانياوفرنسا وهولندا. ويقدر البعض نسبتهم بربع المهاجرين الأتراك، اي بما يعادل نسبتهم في تركيا، الا ان الاحصائيات غير متوفرة. وما نملكه ليس الا تقديرات عامة. فجزء من المهاجرين كان، وبعضهم لا يزال، يخفي انتماءه القومي تجنباً للمشاكل مع الدولة التركية وأجهزتها المراقبة. اذ احتفظوا بجنسياتهم وواظبوا على العودة بين الحين والحين الى تركيا. ولا يرغبون في قطع هذه الصلة التي ظلت تربطهم بالأرض التي ولدوا فيها. وكان الوعي القومي وحتى السياسي عند الغالبية العظمى من هؤلاء العمال منعدماً تقريباً. كانت لغة التخاطب والتفاهم بينهم هي التركية وان لم يكن وعيهم بأصولهم الكردية موضع شك. ولم يكن للأحزاب القومية الكردية تأثير كبير عليهم. الا ان بقاءهم في أوروبا وتطور الأمور في تركيا غير الكثير من هذه المعطيات وأفسحا لهم المجال لاكتشاف هويتهم سياسياً والحديث عنها من دون خوف كما كان الحال في تركيا، واستمرت الهجرة الاقتصادية خلال الستينات والسبعينات من دون توقف على رغم ان الهجرة السياسية اخذت منذ اوائل الثمانينات تزداد وتتسع بسرعة لا سابق لها على حساب الهجرة الاقتصادية، وتصبح ايضاً وسيلة يمكن الالتجاء اليها اذا كان الدافع الرئيسي للهجرة اقتصادياً. لم تكن ظاهرة اللجوء السياسي الى أوروبا معروفة لدى الأكراد في الخمسينات. وكان الانقلاب العسكري في تركيا عام 1960 العامل الأول لدفع بعض الاكراد الأتراك للجوء الى دول أوروبية. وازدادت طلباتهم في اللجوء مع الانقلاب الثاني عام 1971 والثالث عام 1980 لتصل ذروتها وتستمر في التصاعد بعد اندلاع الحركة المسلحة التي قادها حزب العمال الكردستاني منذ عام 1984. اما بالنسبة للأكراد العراقيين فان لجوءهم السياسي الى الغرب بدأ مع الحركة الكردية المسلحة عام 1961. وازداد بعد انهيارها عام 1975. فقد التجأ مئات من المشاركين في الحركة الى اوروبا والى اميركا. وكان اكثرهم من المتعلمين وحملة الشهادات ممن رفضوا العودة الى العراق وتسليم انفسهم الى السلطات المركزية خوفاً من المصير الذي كان ينتظرهم. فاستفادوا من فرصة تعاطف عدد من البلدان الغربية مع ظروفهم. فاستقروا بشكل خاص في انكلترا والمانيا وهولندا وأميركا كلاجئين سياسيين. وحافظ غالبيتهم على روابطهم بالقضية الكردية فعملوا لها على الأرضية الغربية حسب حدودها وقوانينها. وازدادت هجرة الأكراد العراقيين والتجاؤهم الى أوروبا الغربية اثناء الحرب العراقية - الايرانية. ووصلت ذروتها بعد عمليات الانفال وقصف مدينة حلبجة عام 1988، ومن ثم اتسع نطاقها بعد انهيار انتفاضة عام 1991 عقب هزيمة الجيش العراقي في حرب الخليج الثانية. وأدت الحروب المتعددة منذ عام 1994 بين الحزبين الكرديين الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني وعدم الاستقرار في المنطقة وتدهور حال المعيشة الى تطور لا سابق له في ظاهرة اللجوء والهجرة الى اوروبا الغربية. فالكثير من الناس يرمون بأنفسهم في طريق محفوف بالمخاطر قد توصلهم الى "الجنة الموعودة" او تخلصهم من الجحيم. اما الاكراد الايرانيون فان حضورهم السياسي في أوروبا كان محدوداً جدا في زمن الشاه. لكنهم اخذوا يزدادون عدداً بعد اندلاع الحرب بين الحركة القومية الكردية والنظام الاسلامي في عام 1979 ومع بداية الحرب بين العراقوايران. والهجرة السياسية هذه ما زالت مستمرة ولكن بحجم اخف جداً من السابق بسبب ضعف الحركة الكردية في ايران. ولم يصبح لجوء اكراد سورية الى اوروبا الغربية حركة واسعة الا مع بداية تطبيق سياسة الحزام العربي حول المناطق الكردية في عام 1973. فازدادت الضغوط عليهم ودفعت بعدد منهم الى البحث عن موطن آخر. وتبين آخر التقديرات التي تعود الى عام 1996 ان عدد افراد الجالية الكردية في أوروبا الغربية وحدها تزيد بقليل عن 800 الف شخص. وتأتي المانيا على رأس الدول المستقبلة لهم بما يزيد عن نصف مليون، ومن ثم فرنسا حيث يقدر عدد الاكراد فيها بثمانين الفاً. وهولندا تحتل المرتبة الثالثة وفيها 46 الفاً والسويد 32 الفاً والنمسا 30 الفاً وسويسرا 24 الفاً وبريطانيا 21 الفاً وبلجيكا 16 الفاً والدنمارك خمسة آلاف. ويقدر عددهم في كل من اليونان والنروج وفنلندا بعدة آلاف. ومن الطبيعي ان تكون هذه التقديرات في حاجة الى اعادة دراسة لما حصل في السنتين الاخيرتين من حركة هجرة واسعة الى الدول المذكورة. وربما يقترب العدد الاجمالي للجالية الكردية في أوروبا الغربية وحدها من مليون شخص في ايامنا هذه. وتعتبر برلينالمدينة التي يقيم فيها اكبر عدد من الاكراد في اوروبا حيث يقدرون بأكثر من ستين الف شخص. تأتي بعدها مدينة هامبورغ وعددهم فيها يتجاوز ثلاثين الف شخص. واعتماداً على التقديرات ذاتها فان اكراد تركيا يشكلون اعلى نسبة في أوروبا ويشكلون ما يقرب من 80 في المئة. يأتي بعدهم اكراد العراق الذين يشكلون حوالى 10 في المئة. وأكراد سورية يصلون الى 6 في المئة وأكراد ايران الى 4 في المئة. اما البلد الذي يعيشون فيه بشكل احسن فهو السويد على ما يبدو. وقد لا يكون من باب العبث ان يتحدث الاكراد عن "كردستان السويد". فالمساعدات التي يحصلون عليها تتجاوز المساعدات التي تحصل عليها الجاليات الكردية في الدول الاخرى. وهم يشكلون اكثر التجمعات نشاطاً من الناحية الثقافية. فأكثر الكتب الكردية الصادرة في أوروبا تطبع في السويد. وليس غريباً ان يتحدث اكراد تركيا عن "النهضة" الآتية من السويد في ما يتعلق بثقافتهم ولغتهم. وقد وصل تأثرهم وانخراطهم في الحياة السويدية الى درجة استطاعت معها احدى الشابات الكرديات ان تصبح نائباً في البرلمان. الجالية الكردية وجدت في الغرب مجالاً حراً للتعبير عن نفسها وعن هويتها وطموحاتها لم تكن تعرفه في اي من البلدان التي يعيش فيها الاكراد. ووجدوا التعاطف والتشجيع لقضيتهم من لدن الافراد والمؤسسات اللارسمية وحتى الرسمية في بعض الحالات. الا ان ذلك ظل محدودا ولم يؤد الى نتائج رسمية ملموسة في ما يخص القضية الكردية والاعتراف بالوجود السياسي لهذا الشعب حتى الآن. ومع ان هذه الجالية جلبت معها الى الغرب معظم مشاكلها المتوارثة وبشكل خاص ما يتعلق بعدم وجود اعتراف رسمي بكيانها وما يترتب عن ذلك من صعوبات، فانها استطاعت ان تستفيد الى حد ما من الظروف الجديدة وتنشئ عددا كبيرا من الجمعيات الخاصة بها خلال العشرين سنة الاخيرة. هذه الجمعيات تعكس صورة الصراع بين الاحزاب والقوى السياسية الكردية في كردستان، فلكل حزب جمعياته وأعضاؤه، المصفقون والمعادون له، شيوخه ودراويشه، كما يقول مصطلح كردي شائع. وحتى تلك التي تدعي ابتعادها عن التحزب والحزبية فانها سارت في سياسة اضيق بكثير مما تسير عليها الاحزاب على الساحة الكردية. هذا الصراع المستمر مفيد في المدى الطويل ما دام اللجوء الى البندقية ليس اول ما يعمل به المتصارعون، والزمن يعمل عمله في صقل الافكار والاذهان. * استاذ مساعد في جامعة باريس.